البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

وقرأ الجمهور : { وأشرقت } مبنياً للفاعل ، أي أضاءت ؛ وابن عباس ، وعبيد بن عمير ، وأبو الجوزاء : مبنياً للمفعول من شرقت بالضوء تشرق ، إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله ، كما تقول : ملأ الأرض عدلاً وطبقها عدلاً ، قاله الزمخشري .

وقال ابن عطية : وهذا إنما يترتب على فعل يتعدى ، فهذا على أن يقال : أشرق البيت وأشرقه السراج ، فيكون الفعل مجاوزاً وغير مجاوز ، كرجع ورجعته ووقف ووقفته .

والأرض في هذه الآية : الأرض المبدلة من الأرض المعروفة ، ومعنى أشرقت : أضاءت وعظم نورها . انتهى .

وقال صاحب اللوامح : وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولاً من شرقت الشمس إذا طلعت ، فيصير متعدياً بالفعل بمعنى : أذهبت ظلمة الأرض ، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت ، فإن ذلك لازم ، وهذا قد تعدى إلى الأرض لما لم يذكر الفاعل ، وأقيمت الأرض مقامه ؛ وهذا على معنى ما ذهب إليه بعض المتأخرين من غير أن يتقدم في ذلك ، لأن من الأفعال ما يكون متعدياً لازماً معاً على مثال واحد . انتهى .

وفي الحديث الصحيح : « يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ، ليس بها علم لأحد بنور ربها » قيل : يخلق الله نوراً يوم القيامة ، فيلبسه وجه الأرض ، فتشرق الأرض به ، وقال ابن عباس : النور هنا ليس من نور الشمس والقمر ، بل هو نور يخلقه الله فيضيء الأرض .

وروي أن الأرض يومئذ من فضة ، والمعنى : أشرقت بنور خلقه الله تعالى ، أضافه إليه إضافة الملك إلى الملك .

وقال الزمخشري : استعار الله النور للحق ، والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، وهذا من ذلك .

والمعنى : وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، وبسط من القسط في الحسنات ، ووزن الحسنات والسيئات ، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه ، لأنه هو الحق العدل ، وإضافة اسمه إلى الأرض ، لأنه يزينها حين ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه ، ويقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما يقولون : أظلمت البلاد بجور فلان .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الظلم ظلمات يوم القيامة » ، وكما فتح الآية بإثبات العدل ، ختمها بنفي الظلم .

{ ووضع الكتاب } : أي صحائف الأعمال ووحد ، لأنه اسم جنس ، وكل أحد له كتاب على حدة ، وأبعد من قال : الكتاب هنا اللوح المحفوظ .

وروي ذلك عن ابن عباس ، ولعله لا يصح ، وقد ضعف بأن الآية سيقت مقام التهديد في سياق الخير .

{ وجيء بالنبيين } ليشهدوا على أممهم ، { والشهداء } ، قيل : جمع شاهد ، وهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم .

وقيل : هم الرسل من الأنبياء .

وقيل : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يشهدون للرسل .

وقال عطاء ، ومقاتل ، وابن زيد : الحفظة .

وقال ابن زيد أيضاً : النبيون ، والملائكة ، وأمة محمد عليه السلام ، والجوارح .

وقال قتادة : الشهداء جمع شهيد ، وليس فيه توعد ، وهو مقصود الآية .

{ وقضى بينهم } : أي بين العالم ، ولذلك قسموا بعد إلى قسمين : أهل النار وأهل الجنة ، { بالحق } : أي بالعدل .