مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (69)

ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال : { وأشرقت الأرض بنور ربها } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي يقعد عليها الآن بدليل قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } وبدليل قوله تعالى : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } بل هي أرض أخرى يخلقها الله تعالى لمحفل يوم القيامة .

المسألة الثانية : قالت المجسمة : إن الله تعالى نور محض ، فإذا حضر الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله ، وأكدوا هذا بقوله تعالى : { الله نور السماوات والأرض } .

واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه ( الأول ) أنا بينا في تفسير قوله تعالى : { الله نور السماوات والأرض } أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نورا بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة ، وبينا أنه لما تعذر حمل الكلام على الحقيقة وجب حمل لفظ النور هاهنا على العدل ، فنحتاج هاهنا إلى بيان أن لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى ، ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور هاهنا ليس إلا هذا المعنى ، أما بيان الاستعمال فهو أن الناس يقولون للملك العادل أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما يقولون أظلمت البلاد بجورك ، وقال صلى الله عليه وسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة » وأما بيان أن المراد من النور هاهنا العدل فقط أنه قال : { وجيء بالنبيين والشهداء } ومعلوم أن المجيء بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل ، وأيضا قال في آخر الآية { وهم لا يظلمون } فدل هذا على أن المراد من ذلك النور إزالة ذلك الظلم ، فكأنه تعالى فتح هذه الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم ( والوجه الثاني ) في الجواب عن الشبهة المذكورة أن قوله تعالى : { وأشرقت الأرض بنور ربها } يدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى ، ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى ، لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب ، فلما كان ذلك النور من خلق الله وشرفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور الله ، كقوله : بيت الله ، وناقة الله وهذا الجواب أقوى من الأول ، لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهاب إلى المجاز . ( والوجه الثالث ) أنه قد قال فلان رب هذه الأرض ورب هذه الدار ورب هذه الجارية ، ولا يبعد أن يكون رب هذه الأرض ملكا من الملوك ، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع كونه نورا .

المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر في هذه الآية من أحوال ذلك اليوم أشياء : ( أولها ) قوله { وأشرقت الأرض بنور ربها } وقد سبق الكلام فيه ( وثانيها ) قوله { ووضع الكتاب } وفي المراد بالكتاب وجوه ( الأول ) أنه اللوح المحفوظ الذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت قيام القيامة ( الثاني ) المراد كتب الأعمال كما قال تعالى في سورة سبحان { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } وقال أيضا في آية أخرى { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } ( وثالثها ) قوله { وجيء بالنبيين } والمراد أن يكونوا شهداء على الناس ، قال تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } وقال تعالى : { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } ( ورابعها ) قوله { والشهداء } والمراد ما قاله في { وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } أو أراد بالشهداء المؤمنين ، وقال مقاتل : يعني الحفظة ، ويدل عليه قوله تعالى : { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } وقيل أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل الله ، ولما بين الله تعالى أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات ، بين تعالى أنه يوصل إلى كل أحد حقه ، وعبر تعالى عن هذا المعنى بأربع عبارات ( أولها ) قوله تعالى : { وقضى بينهم بالحق } ( وثانيها ) قوله { وهم لا يظلمون } .