قوله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك } . أي وإن استجارك من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم ، أي استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله . قوله تعالى : { فأجره } . فأعذه وأمنه .
قوله تعالى : { حتى يسمع كلام الله } . فيما له وعليه من الثواب والعقاب .
قوله تعالى : { ثم أبلغه مأمنه } . أي إن لم يسلم أبلغه مأمنه . أي الموضع الذي يأمن فيه هو دار قومه ، فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله .
قوله تعالى : { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } . أي لا يعلمون دين الله تعالى وتوحيده فهم محتاجون إلى سماع كلام الله . قال الحسن : وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة .
{ 6 ْ } { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ْ }
لما كان ما تقدم من قوله { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ْ } أمرا عاما في جميع الأحوال ، وفي كل الأشخاص منهم ، ذكر تعالى ، أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم جاز ، بل وجب ذلك فقال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ْ } أي : طلب منك أن تجيره ، وتمنعه من الضرر ، لأجل أن يسمع كلام اللّه ، وينظر حالة الإسلام .
{ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ْ } ثم إن أسلم ، فذاك ، وإلا فأبلغه مأمنه ، أي : المحل الذي يأمن فيه ، والسبب في ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون ، فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم ، إذا زال اختاروا عليه الإسلام ، فلذلك أمر اللّه رسوله ، وأمته أسوته في الأحكام ، أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام اللّه .
وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة ، القائلين بأن القرآن كلام اللّه غير مخلوق ، لأنه تعالى هو المتكلم به ، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها ، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم : أن القرآن مخلوق .
وكم من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول ، ليس هذا محل ذكرها .
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } الذين أمرتك بقتالهم ، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم ، { اسْتَجَارَكَ } أي : استأمنك ، فأجبه إلى طلبته { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } أي : [ القرآن ]{[13263]} تقرؤه عليه وتذكر له شيئًا من [ أمر ]{[13264]} الدين تقيم عليه به حجة الله ، { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أي : وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه ، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } أي : إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله ، وتنتشر دعوة الله في عباده .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في تفسير هذه الآية ، قال : إنسان يأتيك يسمع ما تقول وما أنزل عليك ، فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله ، وحتى يبلغ مأمنه ، حيث جاء .
ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه ، مسترشدًا أو في رسالة ، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش ، منهم : عروة بن مسعود ، ومِكْرَز بن حفص ، وسهيل بن عمرو ، وغيرهم واحدًا بعد واحد ، يترددون في القضية بينه وبين المشركين ، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر ، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك ، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم .
ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " أتشهد{[13265]} أن مسيلمة رسول الله ؟ " قال : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك " {[13266]} وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة ، وكان يقال له : ابن النواحة ، ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة ، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له : إنك الآن لست في رسالة ، وأمر به فضربت عنقه ، لا رحمه الله ولعنه .
والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، فطلب من الإمام أو نائبه أمانًا ، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه . لكن قال العلماء : لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر ، وفيما بين ذلك فيما{[13267]} زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان ، عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء ، رحمهم الله .
{ وإن أحد من المشركين } المأمور بالتعرض لهم . { استجارك } استأمنك وطلب منك جوارك . { فأجره } فأمنه . { حتى يسمع كلام الله } ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر . { ثم أبلغه مأمنه } موضع أمنه إن لم يسلم ، وأحد رفع بفعل يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل . { ذلك } الأمن أو الأمر . { بأنهم قوم لا يعلمون } ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلابد من أمانهم ريثما يسمعون ويتدبرون .
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بعد الأمر بقتال المشركين بأن يكون متى طلب مشرك عهداً يأمن به يسمع القرآن ويرى حال الإسلام أن يعطيه ذلك ، وهي الإجارة وهو من الجوار ، ثم أمر بتبليغه المأمن إذا لم يرض الإسلام ولم يهد إليه ، قال الحسن : هي محكمة سنة{[5522]} إلى يوم القيامة ، وقال مجاهد وقال الضحاك والسدي : هذا منسوخ بقوله { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ، وقال غيرهما : هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلاً ، وقوله سبحانه : { حتى يسمع كلام الله } يعني القرآن{[5523]} وهي إضافة صفة إلى موصوف لا إضافة خلق إلى خالق ، والمعنى ويفهم أحكامه وأوامره ونواهيه ، فذكر السماع بالأذان إذ هو الطريق إلى الفهم وقد يجيء السماع في كلام العرب مستعملاً بمعنى الفهم كما تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك أنت لم تسمع قولي تريد لم تفهمه ، وذلك في كتاب الله تعالى في عدة مواضع ، و { أحد } في هذه الآية مرتفع بفعل يفسره قوله { استجارك } ويضعف فيه الابتداء لولاية الفعل ، لأن قوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى هذا اللطف في الإجازة والإسماع وتبليغ المأمن ولا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم .