الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ} (6)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

...إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين، فقال: جئت أطلب الأمان، فقال مالك: هذه أمور مشكلة، وأرى أن يرد إلى مأمنه.

تفسير الشافعي 204 هـ :

من جاء من المشركين يريد الإسلام فحق على الإمام أن يؤمنه حتى يتلو عليه كتاب الله عز وجل، ويدعوه إلى الإسلام بالمعنى الذي يرجو أن يدخل الله عز وجل به عليه الإسلام، لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَ أحَدٌ مِّنَ اَلْمُشْرِكِينَ اَسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـامَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأمَنَهُ} الآية...

وإبلاغه مأمنه أن يمنعه من المسلمين والمعاهدين ما كان في بلاد الإسلام، أو حيث يتصل ببلاد الإسلام، وسواء قرب ذلك أم بعد...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك يا محمد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم أحد ليسمع كلام الله منك، وهو القرآن الذي أنزله الله عليه. "فأجرْهُ "يقول: فأمِّنْه، "حتّى يَسمعَ كلامِ اللّهِ" وتتلوه عليه. "ثُمّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ" يقول: ثم رُدّه بعد سماعه كلام الله إن هو أبى أن يسلم ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن إلى مأمنه، يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك حتى يلحق بداره وقومه من المشركين. "ذلكَ بأنّهُمْ قَوُمٌ لا يَعْلَمُونَ" يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان، ليسمعوا القرآن، وردّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله...

واختلف في حكم هذه الآية، وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ؟

فقال بعضهم: هو غير منسوخ...

وقال آخرون: هو منسوخ... والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: ليس ذلك بمنسوخ، وقد دللنا على أن معنى النسخ هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره، ولم تصحّ حجة بوجوب حكم الله في المشركين بالقتل بكلّ حال ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء ولا على وجه المنّ عليهم. فإذا كان ذلك كذلك فكان الفداء والمنّ والقتل لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أولّ حرب حاربهم، وذلك من يوم بدر كان معلوما أن معنى الآية: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم للقتل أو المن أو الفداء واحصروهم، وإذا كان ذلك معناه صحّ ما قلنا في ذلك دون غيره.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) من غير أن يبين استجارته لماذا؟ يحتمل أن يكون ترك بيانه لما في الجواب ذلك بقوله: (حتى يسمع كلام الله)... ويحتمل أن يكون ذلك لازما أن (يسمع كلام الله) بمعنى حجته لأي وجه دخل بأمان. وذلك قريب؛ لأنا أمرنا بالتضييق عليهم ليسلموا. فإذا أبحنا لهم الدخول للحاجات بلا عرض، تذهب منفعة التضييق فيكون المقصود بالعهد ما يرون من آثار الإسلام وحسن رعاية أهل الإسلام، ويسمعون حججه وما به ظهور الحق فيه رجاء أن يجيبوا. فلذلك يؤذنون، وإن كان في ذلك قضاء حاجاتهم. وفي قوله: (ثم أبلغه مأمنه) دلالة أنه لم يقبل ما أسمِع، وعُرض عليه؛ إذ لو قبل لكان يكون مأمنه هذه الدار، لا تلك ولكان يحق عليه الخروج منها، لا العود إليها. ثم معلوم أن كلام الله، هو حجته، وأن الحجة قد لزمته. ثم قوله: (ثم أبلغه مأمنه) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يدعه، ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه، وأنه يلزم الجزية... والثاني: أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه. وفي ذلك لزوم حق الأمان الجميع بإجارة بعض، وعلى ذلك كل مسلم. وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي ما لهم وما عليهم. ويحتمل نفي العلم بما لم ينتفعوا بما علموا. ويحتمل ذلك تعليم من مع رسول اللَّه كيفية معاملة الكفرة؛ إذ هم لم يكونوا يعلمون من قبل، واللَّه أعلم...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قوله تعالى: {وإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله}. قد اقتضت هذه الآية جواز أمان الحربي إذا طلب ذلك منا ليسمع دلالة صحة الإسلام؛ لأن قوله: {اسْتَجَارَكَ} معناه: استأمنك، وقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ} معناه: فأمنْه حتى يسمع كلام الله الذي فيه الدلالة على صحة التوحيد وعلى صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه الدلالة أيضاً على أن علينا تعليم كل من الْتَمَسَ منا تعريفه شيئاً من أمور الدين؛ لأن الكافر الذي استجارنا ليسمع كلام الله إنما قصد التماس معرفة صحة الدين. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يدلّ على أن على الإمام حفظ هذا الحربيّ المستجير وحياطته ومنع الناس من تناوله بشرّ، لقوله: {فَأَجِرْهُ} وقوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، وفي هذا دليل أيضاً على أن على الإمام حفظ أهل الذمة والمنع من أذيتهم والتخطي إلى ظلمهم.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

ومعنى الآية: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقبلهم استجارك أي استعاذ بك واستأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله {فَأَجِرْهُ}: فأعذه وأمنه {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله عز وجل، فإن أسلم فقد نال عز الإسلام وخير الدنيا والآخرة وصار رجلاً من المسلمين، وإن أبى أن يسلم {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} دين الله...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قوله سبحانه: {حتى يسمع كلام الله} يعني القرآن وهي إضافة صفة إلى موصوف لا إضافة خلق إلى خالق، والمعنى ويفهم أحكامه وأوامره ونواهيه، فذكر السماع بالأذن إذ هو الطريق إلى الفهم وقد يجيء السماع في كلام العرب مستعملاً بمعنى الفهم كما تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك: أنت لم تسمع قولي، تريد: لم تفهمه...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَحَدٌ من الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك}:

مَعْنَاهُ سَأَلَ جِوَارَك، أَيْ أَمَانَك وَذِمَامَك فَأَعْطِهِ إيَّاهُ لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ؛ فَإِنْ قَبِلَ أَمْرًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَبَى فَرُدَّهُ إلَى مَأْمَنِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ: إذَا وُجِدَ الْحَرْبِيُّ فِي طَرِيقِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: جِئْت أَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ، وَالْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَنْ يُرِيدُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالنَّظَرَ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَأَمَّا الْإِجَارَةُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّظَرُ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مَنْفَعَةٌ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ من أَمِيرٍ أَوْ مَأْمُورٍ؛ فَأَمَّا الْأَمِيرُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ إجَارَتَهُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ لِلنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ، نَائِبٌ عَنْ الْجَمِيعِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ رَعِيَّةً رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ). وَاَلَّذِي مِنْهُمْ غَيْرُ الْأَمِيرِ، وَهُوَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَأَمَّا الْحُرُّ فَيَمْضِي أَمَانُهُ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، إلَّا أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ من أَصْحَابِنَا قَالَ: يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِيهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَازَ جِوَارَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ أَمْضَاهُ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ، وَتَوَعَّدَ بِالْقَتْلِ مَنْ رَدَّهُ، فَقَالَ: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِلْجِ إذَا اشْتَدَّ فِي الْحَبْلِ مُطَرَّسٌ فَإِذَا سَكَنَ إلَى قَوْلِهِ قَتَلَهُ؛ فَإِنِّي لَا أُوتَى بِأَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ).

وَأَمَّا الْعَبْدُ: فَلَهُ الْأَمَانُ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَمَانَ لَهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِعُلَمَائِنَا، وَكَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى أَنَّ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ من عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ.

وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ فَقَالَ: إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ جَازَ أَمَانُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْلَبَ جَوَازَ الْأَمْنِ من الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ صَدَّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْآدَمِيَّةِ.

وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَعَدَمُ تَكْلِيفه يُسْقِطُ قَوْلَهُ بِلَا كَلَامٍ، إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالَتْ: إذَا أَطَاقَ الْقِتَالَ صَارَ فِي جُمْلَةِ الْجَيْشِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ؛ وَجَازَ أَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ من جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَدَخَلَ فِي الْفِئَةِ الْحَامِيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}:

مَا من أَحَدٍ من الْخَلْقِ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ إلَّا وَهُوَ سَامِعٌ لِكَلَامِ اللَّهِ، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ اللُّغَاتِ وَبِدَلَالَةِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَكَذَلِكَ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كُلُّ غَائِبٍ، لَكِنَّ الْقُدُّوسَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا لِكَلَامِهِ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكَرِّمَ أَحَدًا من خَلْقِهِ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى وَمُحَمَّدٍ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} مُجَرَّدَ الْإِصْغَاءِ، فَيَحْصُلَ الْعِلْمُ لَهُ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فَهْمَ الْمَقْصُودِ من دَلَالَتِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَفَهْمِ الْمَقْصُودِ بِهِ من التَّكْلِيفِ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَى الْعَرَبِ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَطَرِيقُ الدَّلَالَةُ عَلَى النُّبُوَّةِ، لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ أَسَالِيبِ فَصَاحَةِ الْعَرَبِ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَالْخُطَبِ وَالْأَرَاجِيزِ، وَالسَّجْعِ وَالْأَمْثَالِ، وَأَنْوَاعِ فَصْلِ الْخِطَابِ؛ فَإِنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ، وَالْقَبُولَ لَهُ صَارَ من جُمْلَة الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ صُدَّ بِالطَّبْعِ، وَمُنِعَ بِالْخَتْمِ، وَحَقَّ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ الْقَوْلُ رُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}:

نَفَى اللَّهُ عَنْهُمْ الْعِلْمَ؛ لِنَفْيِ فَائِدَتِهِ من الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ، وَقَدْ يَنْتَفِي الشَّيْءُ بِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ؛ إذْ الشَّيْءُ إنَّمَا يُرَادُ لِمَقْصُودِهِ، فَإِذَا عَدِمَ الْمَقْصُودَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ بِالرِّفْقِ بِهِمْ، وَالْإِمْهَالِ لَهُمْ، حَتَّى يَقَعَ الِاعْتِبَارُ أَنْ مَنَّ اللَّهُ بِالْهُدَى وَالِاسْتِبْصَارِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك، فلما لم يقل له ذلك، بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه، علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف، بل لا بد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال.

إذا ثبت هذا فنقول: ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك. ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم.

... في قوله: {حتى يسمع كلام الله} وجوه: قيل: أراد سماع جميع القرآن، لأن تمام الدليل والبينات فيه، وقيل: أراد سماع سورة براءة، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين، وقيل: أراد سماع كل الدلائل. وإنما خص القرآن بالذكر، لأنه الكتاب الجاري لمعظم الدلائل. وقوله: {ثم أبلغه مأمنه} معناه أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم.

قال الفقهاء: والكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنوما مع ماله، إلا أن يدخل مستجيرا لغرض شرعي كاستماع كلام الله رجاء الإسلام، أو دخل لتجارة... فيجب تبليغه مأمنه. وهو أن يبلغ محروسا في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسولا، فالرسالة أمان، ومن دخل ليأخذ مالا في دار الإسلام ولماله أمان فأمان له والله أعلم.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرتك بقتالهم، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم، {اسْتَجَارَكَ} أي: استأمنك، فأجبه إلى طلبته {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} أي: القرآن تقرأه عليه وتذكر له شيئًا من أمر الدين تقيم عليه به حجة الله، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي: وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} أي: إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله، وتنتشر دعوة الله في عباده.

... ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه، مسترشدًا أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم: عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم واحدًا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم.

ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟" قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك"... والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلب من الإمام أو نائبه أمانًا، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما سد عليهم طريق مخالطتهم ما لم يتصفوا بالتوبة المدلول عليها بالشهيدين المذكورين سداً مطلقاً، وفتحه عند الاتصاف بها فتحاً مطلقاً، عطف على ذلك طريقاً آخر وسطاً مقيداً فقال: {وإن أحد من المشركين} أي الذين أمرناكم بقتالهم {استجارك} أي طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدة السياحة {فأجره} أي فآمنه و دافع عنه من يقصده بسوء {حتى يسمع كلام الله} أي الملك الأعظم بسماع التلاوة الدالة عليه، فيعلم بذلك ما يدعو إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس كلام الخلق. ولما ذكر إجارته، وكان له بعدها توبة وإصرار. وكان حال التائب قد ذكر، بين ما يفعل به إن أصر فقال: {ثم أبلغه} أي إن أراد الانصراف ولم يسلم {مأمنه} أي الموضع الذي يأمن فيه ثم قاتله بعد بلوغه المأمن إن شئت من غير غدر ولا خيانة؛ قال الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة؛ ثم علل ذلك بما يبين غدرهم بقوله: {ذلك بأنهم} أي الأمر بالإجارة للغرض المذكور بسبب أنهم {قوم لا يعلمون} أي لا علم لهم لأنه لا عهد لهم بنبوة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} ويتدبرَه ويطّلع على حقيقة ما يدعو إليه. والاقتصارُ على ذكر السماعِ لعدم الحاجةِ إلى شيء آخرَ في الفهم لكونهم من أهل اللسَنِ والفصاحةِ...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وهي مخصصة لما في قوله تعالى قبلها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...} من معنى العموم، فهي تستثني منهم من طلب منهم الأمان، ليعلم ما أنزله الله وأمر به من دعوة الإسلام، ذلك بأن بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغا تاما مقنعا، ولم يسمعوا شيئا من القرآن وهو الآية المعجزة للبشر، الدالة بذاتها على كونه من عند الله لا من كلام محمد الأمي صلى الله عليه وسلم أو لم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة، وإنما أعرضوا وعادوا الداعي وقاتلوه؛ لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك وما كان عليه آباؤهم منه، وقد طبعوا على نعرة العصبية لهم والنضال دونهم، حتى إنه لو لم تتضمن الدعوة الحكم بجهلهم وتسفيه أحلامهم، لما احتموا عليها كل ذلك الاحتماء، وقابلوها بكل ذلك العداء، ويليها في ذلك تحقير آلهتهم.

وأما اختلاف العقيدة وحده فلم يكن يقتضي عندهم كل ذلك، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ودوا لو تدهن فيدهنون} [القلم:9] وإذا كان تبليغ الدعوة هو الواجب الأول الأهم المقصود من الرسالة وإنما كان وجوب القتال لحمايتها والحرية في تبليغها والعمل بما تتضمنه، ومنع أهلها وصيانهم من الفتنة والاضطهاد لأجلها وجب التبليغ قبله وكف القتال عمن يظهر الرغبة في سماع كلام الله تعالى للعلم بمضمونها، والوقوف على ما نهى وأمر، وبشر وأنذر، وتأمينه في مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثم العودة إلى دار قومه حيث يأمن على نفسه ويكون حرا فيما يختار لها، وبهذا يكون المشركون الذين بلغوا نبذ عهودهم أو انتهاء مدتها ثلاثة أقسام:

مصر على الشرك وعداوة المسلمين، و2 مسترشد طالب للعلم وسماع القرآن، و3 تائب يدخل في الإسلام.

الاستجارة: طلب الجوار، وهو الحماية والأمان، فقد كان من أخلاق العرب حماية الجار والدفاع عنه، حتى صاروا يسمون النصير جارا، ومنه {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} [الأنفال:48].

ومعنى الجملة: وإن استأمنك أيها الرسول أحد من المشركين لكي يسمع كلام الله ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه، أو ليلقاك مطلقا وإن لم يذكر سببا، فيجب أن تجيره وتؤمنه لكي يسمع -أو إلى أن يسمع- كلام الله، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع، فإذا اهتدى به وآمن عن علم واقتناع فذاك، وإلا فالواجب أو تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه، ويكون حرا في عقيدته، حيث لا يكون للمسلمين عليه سلطان قهر، ولا إكراه على أمر؟ وتعود حالة الحرب إلى ما كانت من غير غدر.

وسماع «كلام الله» يحصل بالقليل والكثير منه، ولكن المراد الذي يقتضيه المقام أن يسمع منه تعالى ما يراه هو ونراه نحن كافيا للعلم بدعوة الإسلام، أو القدر الذي تقوم به الحجة منه وهو ما يتبين به بطلان الشرك وحقيقة التوحيد والبعث وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغه عن الله عزَّ وجلَّ، وكان العربي منهم يفهم القرآن ويشعر من نفسه بأنه معجز للبشر، ويفهم حججه العقلية والعلمية على التوحيد والرسالة، والبعث، فإذا ألقى إليه السمع، وهو شهيد، لا يلبث أن يظهر له الحق في هذه الأصول، فإن لم تصده العصبية والتزام العداوة للداعي لا يلبث أن يؤمن، فإن لم يفعل كان له شأنه وحريته، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين في دار الإسلام والحال والدار ما علمنا. وقيل: إن المراد بالقرآن آيات التوحيد منه، وقيل: سورة التوبة خاصة أو ما بلغوه منها في الموسم؛ إذ لم يكن كل مشرك سمعه، والظاهر ما قلناه.

وقد قال بعضهم: إن هذا منسوخ بقوله تعالى في الآية الآتية: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [التوبة:36]، وقال بعضهم: بل محكم، وهو الحق، قال الحسن: هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة، واعتمده ابن جرير وعليه الجمهور، والقول الأول مما لا يصح أن يحكى إلا لرده وإبطاله، لأنه يتضمن عدم وجوب تبليغ الدعوة حتى لطالبها، بل منع طالبها من سماعها والعلم بها.

وقد ذكر الرازي وأبو السعود وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: إن رجلا من المشركين قال لعلي: إذا أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة قتل؟ قال: لا، لأن الله تعالى يقول: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره}. فإن صحت هذه الرواية كانت دليلا على أن طلب المشرك للأمان والجوار يقبل وإن لم يكن لأجل سماع كلام الله تعالى، وإن قال بعض المفسرين: إن الحاجة في الرواية لا تعدو غرض الدين؛ لأن لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا لذلك، أي فلا يجاب طلبه إن علم أنه لحاجة دنيوية، وهذا القول غير مسلّم، فقد كانوا يطلبون لقاءه صلى الله عليه وسلم لأجل الكلام في الصلح وغيره من مصالح دنياهم، والمتبادر من قوله تعالى: {حتى يسمع كلام الله} أنه غاية أو تعليل للإجارة لاتصاله بها وحدها، وأن الاستجارة على إطلاقها.

وقول أبي السعود: إن تعلق الإجارة بسماع كلام الله بأحد المعنيين يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو بما في معناه من أمور الدين غير مسلم، ولكنه محتمل إذا جاز أن تتعلق «حتى» بفعلي الاستجارة والإجارة معا، والذي عليه النحاة في باب تنازع العاملين أن العمل يكون لأحدهما، والمختار عند البصريين الثاني وعند الكوفيين الأول.

ويترتب على جعل «حتى» للتعليل أنه لا يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن مشركا إلا لأجل سماع كلام الله وتبليغه الدعوة به، وغيره من أئمة المسلمين وقواد جيوشهم أولى وأجدر أن لا يجب عليهم ذلك، وحاصل معناها أن المستجير يجار ويؤمن مهما يكن غرضه من الاستجارة، ويمتد جواره إلى أن يسمع كلام الله وتقوم عليه الحجة به فيكون وجوده في دار الإسلام فرصة لتبليغه دعوته على أكمل وجه، ولا يأبى هذا المعنى الأمر بإبلاغه مأمنه بعد ذلك كما ادعى بعضهم، ولا يظهر جعل الأمر بالإجارة والأمان للوجوب إلا بهذا القصد، وفيما عداه يكون جائزا يعمل فيه الإمام بالمصلحة. ويجوز الجمع بين الغاية ومعنى التعليل على القول بجواز الجمع بين معنيي المشترك.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمن الرسل التي ترد من قبل الأعداء وهذا مجمع عليه. وكان يجير من أجاره أي مسلم أو مسلمة، وذكر من مزايا المؤمنين أنهم «تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم» كما ثبت في الصحيح، ولا يبعد أن يقال: إن حكم المشركين في تقييد إجارة مستجيرهم في ذلك العهد خاص بهم، والأمر في معاملة غيرهم من الكفار بعد ذلك أوسع، وهو كما يذكر في كتاب الأمان من الفقه...

قال تعالى: {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} أي ذلك الأمر بإجارة المستجير من المشركين ليسمع كلام الله أو إلى أن يسمع كلام الله بسبب أنهم قوم جاهلون لا يدرون ما الكتاب وما الإيمان، فأعرضوا عن دعوة الإسلام بجهل وعصبية وكانوا مغترين بقوتهم، مصرين على جفوتهم، فإذا كان شعورهم بضعفهم لصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم قد أعدهم للعلم بما كانوا يجهلون وطلبوا الأمان لأجل ذلك، أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلامه عزَّ وجلَّ وهو الحجة البالغة والشفاء لما في الصدور لمن سمعه باستقلال فكر أجيبوا إليه؛ لأنه هو الطريقة المثلى لتعليمهم وهدايتهم، وإنما بعثت أيها الرسول مبشرا ونذيرا، ورؤوفا رحيما.

وتدل الآية على أن الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون علما يقينيا لا شك فيه ولا احتمال وإن لم يكن منطقيا. ولا يكتفى فيه بالظن الراجح كالفروع العلمية ولا بالتقليد لأنه ليس بعلم، والآيات المفرقة بين العلم والظن متعددة كقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} [النجم:28] {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} [يونس:36] {وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية:24]...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب؛ وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان؛ ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه؛ فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين؛ لعل قلوبهم أن تتفتح وتتلقى وتستجيب.. وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم!!! ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام.. ولكن قمم الإسلام الصاعدة ما تزال تتراءى قمة وراء قمة.. وهذه منها.. هذه الحراسة للمشرك، عدو الإسلام والمسلمين ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين.. هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام!

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

لقد أرسل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم – داعيا إلى الحق وصراط مستقيم، ولم يرسل للقتال والغلب، وما كان القتال إلا لمنع الفتنة في الدين، وتأمين الدعوة، ولذلك فتح الباب للدعوة في كل الميادين، في الحرب وفي السلم، في العهد وفي نكث العهد على سواء، فأولئك الذين نكثوا عهودهم وأبيحت دماؤهم – يقتلون حيثما كانوا، وإذا جاء أحدهم يطلب جوار التجارة أو رسالة، أو لمجرد الأمان فإنه يجاب، ويكون في أمن المؤمنين، حتى يسمع كلام الله ويفهمه ويتدبره، ثم يبلغه مأمنه، ولذا قال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} ولقد قال النحويون إن كلمة (أحد) فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعد (أحد)، ولأن (إن) لا تدخل على الاسم، فيقدر لها فعل، ويكون نسق القول، وإن استجارك أحد من المشركين، وهنا يسأل السائل لم قدم أحد، واحتجنا لسياق النحو إلى هذا التأويل، والجواب عن ذلك أن الاهتمام لهذا الترك أولا لا للاستجارة في ذاتها؛ لأنه المقصود إذ هدايته مطلوبة أولا وبالذات، وليست الاستجارة هي المطلوبة، والاستجارة طلب الجور بان يعيش في أمن دولة، والجوار هذا أمان مؤقت حتى يسمع كلام الله ويتفهمه ويتعرف معنى الوحدانية، وبطلان الشرك، ويسمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعاليم الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال الخير والوفاء بالعهد والتراحم وغير ذلك من مبادئ الإسلام، وكلام الله تعالى إما أن نفسره بالمعنى الخاص، وهو القرآن الكريم، وسماع تلاوته وتفهم معانيه ومراميه، وذلك خير في ذاته، وهو سجل الإسلام في كلياته، وغما أن نفسره بمعناه العام وهو الإسلام؛ لأن أوامر الإسلام ونواهيه كلها ترجع إلى كلام اله تعالى لأنها منه، وما كان محمد ينطق عن الهوى... {إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5)} (النجم).

وبعد أن يسمع كلام الله تعالى، إما أن يؤمن وذلك خير، ويكون من المؤمنين، وإما أن يستمر على ما هو عليه، وهنا سيتبين الخلق المحمدي الإسلامي بأمر الله، ولذا قال تعالى آمرا نبيه {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} والعطف ب (ثم) هنا في موضعه إذ عن معناه أن يسمع ويتفهم ويتدبر ويعلم، ويعطي فرصة من الوقت يراجع نفسه فيها بين خير يرتجى، والبقاء على ما هو عليه، فإن اختار الخير، فقد اختار لنفسه، وغن اختار الأخرى فلا إكراه في الدين، والمأمن هو مكان الأمن له حيث داره وأهله، وقوله تعالى: {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} معناه توصيله إلى حيث أمنه؛ بأن يصحبه أحد من المؤمنين حتى لا يدركه أحد فيقتله بمقتضى قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}.

وإن ذلك لتقريب المشركين وتأليف قلوبهم، فلا يقرب إلى الإيمان شيء إلا تأليف القلوب بالمودة والحسنى، وليتمكن كل مشرك من أن يتعلم الإسلام ومبادئه، فالنبي هاد، ولم يجئ بالحرب إلا لمنع الشر من أن يستشري ويفسد، ولذا قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} الإشارة إلى الأمان وسماع القرآن سماع وعي وتدبر واتباع للأحسن، وكله حسن، بسبب أنهم جماعة جاهلة، والجاهل يعلم فلا يسأل عن جهله حتى يعلم، والتعبير ب (قوم) إشارة إلى أنهم جماعة جمعهم الجهل فكانوا كالقوم.

ولا شك أن هذا الجوار أمان مؤقت أعطاه الله تعالى نبيه عليه السلام باعتباره إمام المسلمين، فيعطاه كل إمام من بعده، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل واحد من المؤمنين، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمنون تتكافؤ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم) (1) أي إن أقل المؤمنين شأنا يستطيع أن يؤمن من يشاء من المشركين، فكل بالغ عاقل ذكرا كان أو أنثى له أنم يعقد الأمان، والعبد له ذلك، وكان أبو حنيفة لا يجيز أمان العبد؛ لأنه يجوز عنده أن يؤسر شخص ويسلم فيؤمن من كان معه، ولكنه بلغه من بعد عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن عبدا أمن أهل حصن فأجاز أمانه، فكان من بعد ذلك يجيز أمان العبد إذا خرج للقتال مع مالكه، واله نعم المعين، ولقد روي عن يعيد بن جبير أنه جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقال: (وإن أراد الرجل بعد انقضاء الجل أن يأتي محمدا ليسمع كلامه، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإِسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة، وليس هو الاستثمار أو الاستعمار وامتصاص المال، أو الاستيلاء على أراضي الآخرين، إذ تقول الآية: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله).

أي عليك أن تعامل من يلجأ إليك من المشركين برفق ولطف، وامنحه المجال للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإِرادة والحرية، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.

ثمّ تضيف الآية قائلة: (ثمّ أبلغه مأمنه) وأوصله إِلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.

وأخيراً فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم، فتقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون).

فبناءً على ذلك لو فُتحت أبواب اكتساب المعرفة بوجوههم، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل والتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة...

وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأُولى محل البحث واللين المستفاد من الآية التي تليها، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين، ليكون منهما الدواء الناجع.

ملاحظات

... يستفاد من الآيات محل البحث أنّ الباعث على عدم الإِيمان هو الجهل، وأساس الإِيمان الأصيل هو العلم، لهذا فينبغي توفير الإِمكانات اللازمة لإِرشاد الناس وهدايتهم ليعرفوا طريق الحقّ، ولا يقبلوا الإِسلام بواسطة التقليد الأعمى.