قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } الآية .
روى ابن عباس : أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله ، أو لحاجة أخرى ، فهل نقتل ؟ فقال عليٌّ - رضي الله عنه - : " لا " لأنَّ الله قال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } أي : فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ{[17579]} .
فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين ، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم ، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم ، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه ، بل يطالب إمَّا بالإسلام ، وإمَّا بالقتل ، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة ، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة ، أو طالباً لاستماع القرآن ، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله .
قوله : { وَإِنْ أَحَدٌ } كقوله { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور .
قال ابنُ الخطيب{[17580]} : " أَحَدٌ " مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ ، وتقديره : " وإن استجارك أحد ، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء ، لأنَّ " إنْ " من عوامل الفعل لا تدخل على غيره " . قوله " حتَّى يسمَعَ " يجوز أن تكون هنا للغاية ، وأن تكون للتَّعليلِ ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله " فَأجِرهُ " ، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا ؟ وفيه غموضٌ ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق " حتَّى " بقوله " استجاركَ " ، أو بقوله " فأجرهُ " إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ ، حتَّى يسمع كلام الله . والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور ، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي ، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع ، وأعملنا الأوَّل مثلاً ، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر ، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ " حتَّى " تجرُّ المضمر ، و " حتَّى " لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله : [ الوافر ]
فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ *** فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ{[17581]}
وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر ؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه ، ويكون كقولك : فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ ، أي : فرحْتُ به ، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني ، وقوله : " كَلاَمَ الله " من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها ، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ ، و " مَأْمنَهُ " يجوزُ أن يكون مكاناً ، أي : مكان أمنه ، وأن يكون مصدراً ، أي : ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ .
معنى الآية : وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، ليسمع كلام الله " فأجرهُ " ، وأمنه " حتَّى يسمع كلام الله " فيما له وعليه من الثواب والعقاب . " ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ " أي : إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه ، وهو دار قومه ، فإن قاتلك بعد ذلك ، وقدرت عليه فاقتله . " ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ " ، لا يعلمون دين الله وتوحيده ، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله .
قال الحسنُ " هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة " {[17582]} .
قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ ، والمؤمنُ ، والزنديقُ ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، ثمَّ من المعلوم بالضرورة ، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة ، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف ، إمَّا أن يكون معاً ، أو على الترتيب ، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم ؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب ، فلو حصلت معاً ، لما حصل الانتظام ، فلم يحصل الكلام ، وإن حصلت متعاقبةً ؛ لزم أن ينقضي المتقدم ، ويحدث المتأخر ، وذلك يوجب الحدوث ، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم : إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ ؛ لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله { كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] إلا إلى هذه الحروف والأصوات .
وقال آخرون : ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، وثبت أن كلام الله قديمٌ ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات .
وقال ابنُ فورك : " إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى " . وأنكروا عليه هذا القول ؛ لأنَّ الكلام القديم ، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات ، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها .
والأول قول الزجاج ، وهو باطلٌ ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء .
والثاني باطلٌ ، لأنَّا على هذا التقدير ، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها ، فسقط هذا الكلام .
والجواب عن كلام المعتزلة : أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم ؛ لأنَّ كلام الله ، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً ، بل تلك الحروف والأصوات انقضت ، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان ، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم .
قال الفقهاءُ : إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ ، كان مَغْنُوماً مع ماله ، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي ، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام ، أو دخل لتجارة ، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون ، فأمانهما شبهة أمان ؛ فيجب تبليغه مأمنه ، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً ، فالرسالة أمانٌ ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام ، ولماله أمان ، فأمان ماله أمان له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.