اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ} (6)

قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } الآية .

روى ابن عباس : أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله ، أو لحاجة أخرى ، فهل نقتل ؟ فقال عليٌّ - رضي الله عنه - : " لا " لأنَّ الله قال : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } أي : فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ{[17579]} .

فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين ، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم ، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم ، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه ، بل يطالب إمَّا بالإسلام ، وإمَّا بالقتل ، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة ، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة ، أو طالباً لاستماع القرآن ، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله .

قوله : { وَإِنْ أَحَدٌ } كقوله { إِن امرؤ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور .

قال ابنُ الخطيب{[17580]} : " أَحَدٌ " مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ ، وتقديره : " وإن استجارك أحد ، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء ، لأنَّ " إنْ " من عوامل الفعل لا تدخل على غيره " . قوله " حتَّى يسمَعَ " يجوز أن تكون هنا للغاية ، وأن تكون للتَّعليلِ ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله " فَأجِرهُ " ، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا ؟ وفيه غموضٌ ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق " حتَّى " بقوله " استجاركَ " ، أو بقوله " فأجرهُ " إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ ، حتَّى يسمع كلام الله . والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور ، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي ، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع ، وأعملنا الأوَّل مثلاً ، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر ، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ " حتَّى " تجرُّ المضمر ، و " حتَّى " لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله : [ الوافر ]

فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ *** فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ{[17581]}

وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر ؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه ، ويكون كقولك : فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ ، أي : فرحْتُ به ، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني ، وقوله : " كَلاَمَ الله " من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها ، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ ، و " مَأْمنَهُ " يجوزُ أن يكون مكاناً ، أي : مكان أمنه ، وأن يكون مصدراً ، أي : ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ .

فصل في المراد من الآية

معنى الآية : وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، ليسمع كلام الله " فأجرهُ " ، وأمنه " حتَّى يسمع كلام الله " فيما له وعليه من الثواب والعقاب . " ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ " أي : إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه ، وهو دار قومه ، فإن قاتلك بعد ذلك ، وقدرت عليه فاقتله . " ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ " ، لا يعلمون دين الله وتوحيده ، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله .

قال الحسنُ " هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة " {[17582]} .

فصل

قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ ، والمؤمنُ ، والزنديقُ ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، ثمَّ من المعلوم بالضرورة ، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة ، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف ، إمَّا أن يكون معاً ، أو على الترتيب ، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم ؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب ، فلو حصلت معاً ، لما حصل الانتظام ، فلم يحصل الكلام ، وإن حصلت متعاقبةً ؛ لزم أن ينقضي المتقدم ، ويحدث المتأخر ، وذلك يوجب الحدوث ، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم : إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ ؛ لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله { كَلاَمَ الله } [ التوبة : 6 ] إلا إلى هذه الحروف والأصوات .

وقال آخرون : ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات ، وثبت أن كلام الله قديمٌ ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات .

وقال ابنُ فورك : " إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى " . وأنكروا عليه هذا القول ؛ لأنَّ الكلام القديم ، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات ، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها .

والأول قول الزجاج ، وهو باطلٌ ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء .

والثاني باطلٌ ، لأنَّا على هذا التقدير ، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات ، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها ، فسقط هذا الكلام .

والجواب عن كلام المعتزلة : أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم ؛ لأنَّ كلام الله ، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً ، بل تلك الحروف والأصوات انقضت ، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان ، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم .

فصل

قال الفقهاءُ : إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ ، كان مَغْنُوماً مع ماله ، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي ، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام ، أو دخل لتجارة ، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون ، فأمانهما شبهة أمان ؛ فيجب تبليغه مأمنه ، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً ، فالرسالة أمانٌ ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام ، ولماله أمان ، فأمان ماله أمان له .


[17579]:انظر تفسير الرازي (15/181).
[17580]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 15/181.
[17581]:ينظر البيت في الخزانة (9/474) المقرب 1/194 الجنى الداني (544) العيني 3/265 الأشموني 2/210 رصف المباني (185) شرح الرضي 2/26، الدرر 2/116 الهمع 2/23، الدر المصون 3/444.
[17582]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/270).