تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ} (6)

وقوله تعالى : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) وقد قال : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ )الآية[ التوبة : 5 ] فأمر بالآية الأولى عند الوجود ، وفي هذه بالقتل والأسر ، وأمر في الأولى بتبليغه مأمنه ، وفي[ الواو ساقطة من الأصل وم ] هذه بأن يقعد له في كل مرصد . وحال هذه في حال الأولى في رأي العين ، ويتهيأ له في كل وقت ، يظفر به ، أن يستجير لما ذكر . وفي كل حال ، يرصد له أن يحتال ليرد إلى مأمنه . وفي ذل زوال القيام بما في إحدى الآيتين في الظاهر ، فألزم ذلك طلب المعنى الموفق بين الأمرين من طريق التأمل بالأسباب التي هي تدل على حق المعاملة بالآيتين جميعا .

فقال أصحابنا : إنه إذا قصد نحو مأمن أهل الإسلام غير مظهر إعلام الحرب ، ولا بما يدل أنه على ذلك مجيئه ، بل يمشي مشي من ينقلب لحاجة ، ومن يتعاهد من ينادي إليه بالاستجارة ، فيجار ، ولو كان مقبلا نحو مأمننا كالطالب لأحد ، عليه إعلام الحرب ، لكنه كالغافل عن الذين يرصدون له والذين لهم منعة ، ولا قوة به ، فلا يقبل قوله . وذلك[ من م ، في الأصل وم : و ] على تسليم الأمر الغالب من الأحوال ؛ إذ لا وجه لعلم الحقيقة في ذلك .

وعلى ذلك عامة الأمور بين أهل الدارين ، وما ذكرت من الآية في لزوم ذلك الاعتبار ؛ إذ لا وجه له ؛ غيره هو دليله ، والله أعلم .

ثم دل قوله : ( وإن أحد من المشركين استجارك ) بعد العلم بأنه من مأمنه أمن الآخر ؛ إذ به خوفه ، فثبت أنه قد يؤذن له الخروج للاستيجارة من مأمنه والدخول في مأمن المسلمين إلى أن يبلغوا مسايحهم ، فيستجيروا . فلذلك لا يوجب ذلك الوجود حق الأسر ولا القتل ، ويجب رده لو لم يجر ، ولا يسع تعرضه لشيء من ذلك ثم .

وقوله تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) من غير أن يبين استجارته لماذا ؟ يحتمل أن يكون ترك بيانه لما في الجواب ذلك بقوله : ( حتى يسمع كلام الله ) وذلك كقوله : ( يسألونك قل الله يفتيكم في الكلالة )[ النساء : 176 ] إن[ في الأصل وم : أنه ] في الجواب بيان ما استفتوا .

ويحتمل أن يكون ذلك لازما أن ( يسمع كلام الله ) بمعنى حجته لأي وجه دخل بأمان . وذلك قريب ؛ لأنا أمرنا بالتضييق عليهم ليسلموا . فإذا أبحنا لهم الدخول للحاجات بلا عرض ، يذهب منفعة التضييق فيكون المقصود بالعهد ما يرون من آثار الإسلام وحسن رعاية أهل الإسلام ، وتسمعون حججه وما به ظهور الحق فيه رجاء أن يجيبوا . فلذلك يؤذنون ، وإن كان في ذلك قضاء حاجاتهم .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يقاتل حتى يدعو إلى الإسلام . فما قد كان دعاهم غير مرة ، فذلك المعنى عند الأمان أولى ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( حتى يسمع كلام الله ) فالأصل أن حقيقة الكلام لا تسمع بالكلام ؛ إذ الذي به يؤدي حروف الكلام بما يقلب الحروف ، ويؤلفه ، ولا صوت له ، يسمع نحو اللسان والشفة ونحو ذلك . وإنما يسمع بصوت يهيج من حيث [ الحروف ][ ساقطة من الأصل وم ] الخارجة التي تتكلم وقوله ، فتبلغ ، أو حروف كلامه للمسامع . فالسمع يقع على الصوت الذي به يدرك الكلام ، ويفهم ، فصار سمع الكلام في الأصل ومجازا لا حقيقة . فعلى ذلك ما قبل من سماع كلام الله .

ثم هو يخرج على وجوه :

أحدها : أن يسمع المعنى الذي جعل له الكلام ، وهو الأمر والنهي والتحريم والتحليل وغير ذلك . وذلك مما ينسب إلى الله . فقيل بذلك : كلام الله لما إليه ينسب الكلام به والنهي ونحو ذلك .

والوجه الثاني : أن يكون ألفه ، ونظمه ، على ما أعجز عن مثله ، فينسب إليه بما منه تأليفيه على ما هو عليه ، وإن كان مسموعا من غيره على ما نسبت القصائد إلى مبديها والكتب إلى مؤلفيها والأقاويل إلى الأوائل التي منهم ظهرت ، وإن لم يكن الذي يقوله في الحقيقة قوله أو كلامه بما كان منه المبدأ الذي عليه يتكلم . فمثله معنى قوله ( حتى يسمع كلام الله ) .

والثالث : أن يكون لما لكلامه [ يعبر ، وبه ][ من م ، في الأصل : يعبرون به ] يوصف أن له كلاما[ في الأصل وم : كلام ] ، وبه يرجع إلى ذلك ، وإن كان الله تعالى يجل عن الوصف لكلامه بالحروف والهجاء والإيماض ونحو ذلك .

فلما كان إليه المرجع ، وإن كان حد ذلك غير متوهم ولا متصور ، فنسب إليه كما قال تعالى : ( خلقكم من نفس واحدة )[ النساء : 1 ] وقال : ( خلقكم من تراب )[ الروم : 20 ] من غير توهم كلية العالم[ من م ، في الأصل : العام ] في ذلك التراب أو النفس الواحدة لما إليه مرجع الكل ، نسب إليه .

وعلى ذلك أمر الكلام ، وذلك على ما قيل من لقاء الله والمرجع إلى الله والمصير بما لا تدبير لأحد هنالك ؛ ذكر المصير إليه ، [ لأنه لابد ][ في الأصل : لا أن ، في م : لأن لذلك ] لذلك من صيرورة إليه في الحقيقة ورجوع لم يكن من قبل فمثله ، لما قيل كلام الله .

ثم الله تعالى يحيل عن التصوير في الأوهام أو التقدير في العقول . فعلى ذلك صفته . بل ذلك أحق وأولى ؛ أذ نجد صفات الخلق لا تحد ، ولا تتصور في الأوهام ، ولا تقدرها العقول إلا من طريق القول بالحقيقة على [ ما هي إخبار ][ من م ، في الأصل : هن أعيار ] لهم . والله تعالى المتعالي عن التصور في الأذهان ، ووصفه بالعلم والكلام ونحو ذلك أحق في إيصال ذلك ، فتدبر فيه .

وقال الثلجي : يقال : كلام الله على الموافقة لا على الحقيقة كما يقال : ذا قول فلان وكلام فلان ، وليس غيره كلام المتكلم به . فالقائل الشاهد .

وقال أبو بكر فهذا يدل على أن كلام الله يسمع من وجوه ؛ فكأنه يذهب إلى مثل ما يقال : يعرف الله من وجوه على تحقيق الوجوه فمثله كلامه ، والله [ أعلم ، من غير توهم المعنى الثاني يفترق به ][ في الأصل : أعلم ، في م : من غير توهم المعنى الثاني يتفرق به ] عن الله سبحانه ، كذلك سماع كلامه .

وفي قوله : ( ثم أبلغه مأمنه ) دلالة أنه لم يقبل ما أسمع ، وعرض عليه ؛ إذ لو قبل لكان يكون مأمنه هذه الدار ، لا تلك ولكان يحق عليه الخروج منها ، لا العود إليها .

ثم معلوم أن كلام الله ، هو حجته ، وأن الحجة قد لزمته لوجهين :

أحدهما : ما ظهر عجز الخلق عن مثله ، وانتشر الخبر في الآفاق[ من م ، في الأصل : الأوقات ] على قطع طمع المقابلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرد الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره ، فكان ذلك حجة بينة لزمتهم .

والثاني : أن جميع ما يتلى منه لا يؤتى عن آيات إلا وفيها ما يشهد بالعقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة مما لو قوبل بما فيه من المعنى ، وما يحدث به من الفائدة ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب ، ولا يخفى عليه شيء . وإن كان كذلك ، صار هو بالرد مكابرا ، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل [ ما ][ ساقطة من الأصل وم ] يضمن أمانه القبول ، ولا ألا[ من م ، في الأصل : أن ] يعارضه بالرد وذلك أعظم مما فيه الحدود . فالحد أحق ألا[ من م ، في الأصل : أن ] يقام عليه ، والله أعلم .

ثم قوله : ( ثم أبلغه مأمنه ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يدعه ، ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه ، وأنه يلزم الجزية /208-أ/ إلا عن طوع أو دلالة عليه .

والثاني : أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين منه . وفي ذلك لزوم حق الأمان الجميع بإحازة ، وعلى ذلك كل مسلم .

ثم سماع كلام الله يخرج من القرآن ، وفيه ما ذكرت من الدلالة وعلى سماع أوامر الله ونواهيه في حق العرض عليه ، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة أو التوحيد من القرآن ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) أي ما لهم وما[ من م ، في الأصل : و ] عليهم . ويحتمل نفي العلم بما لم ينتفعوا بما أعلموا . ويحتمل ذلك [ تعليما ][ في الأصل وم : تعليم ] مع رسول الله من كيفية معاملة الكفرة ؛ إذ هم لم يكونوا يعلمون من قبل ، والله أعلم .