قوله تعالى : { ألا لله الدين الخالص } قال قتادة : شهادة أن لا إله الله . وقيل : لا يستحق الدين الخالص إلا الله ، وقيل : الدين الخالص من الشرك هو لله . { والذين اتخذوا من دونه } أي : من دون الله { أولياء } يعني : الأصنام { ما نعبدهم } أي : قالوا : ما نعبدهم { إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وكذلك قرأ ابن مسعود ، وابن عباس . قال قتادة : وذلك أنهم إذا قيل لهم : من ربكم ، ومن خلق السماوات والأرض ؟ قالوا : الله ، فيقال لهم : فما معنى عبادتكم الأوثان ؟ قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى ، أي : قربى ، وهو اسم أقيم في مقام المصدر ، كأنه قال : إلا ليقربونا إلى الله تقريباً ، ويشفعوا لنا عند الله . { إن الله يحكم بينهم } يوم القيامة . { فيما هم فيه يختلفون } من أمر الدين . { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } لا يرشد لدينه من كذب ، فقال : إن الآلهة تشفع ، وكفى باتخاذ الآلهة دونه كذباً وكفرا .
{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } هذا تقرير للأمر بالإخلاص ، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله ، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه ، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب ، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه ، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به ، لأنه متضمن للتأله للّه في حبه وخوفه ورجائه ، وللإنابة إليه في عبوديته ، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده .
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها ، دون الشرك به في شيء من العبادة . فإن اللّه بريء منه ، وليس للّه فيه شيء ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك ، وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة ، مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء ، فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص ، نهى عن الشرك به ، وأخبر بذم من أشرك به فقال : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : يتولونهم بعبادتهم ودعائهم ، معتذرين عن أنفسهم وقائلين : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : لترفع حوائجنا للّه ، وتشفع لنا عنده ، وإلا ، فنحن نعلم أنها ، لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تملك من الأمر شيئا .
أي : فهؤلاء ، قد تركوا ما أمر اللّه به من الإخلاص ، وتجرأوا على أعظم المحرمات ، وهو الشرك ، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء ، الملك العظيم ، بالملوك ، وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم السقيم ، أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء ، وشفعاء ، ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم ، ويستعطفونهم عليهم ، ويمهدون لهم الأمر في ذلك ، أن اللّه تعالى كذلك .
وهذا القياس من أفسد الأقيسة ، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق ، مع ثبوت الفرق العظيم ، عقلا ونقلا وفطرة ، فإن الملوك ، إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم ، لأنهم لا يعلمون أحوالهم . فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم ، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة ، فيحتاج من يعطفهم عليه ويسترحمه لهم ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء ، ويخافون منهم ، فيقضون حوائج من توسطوا لهم ، مراعاة لهم ، ومداراة لخواطرهم ، وهم أيضا فقراء ، قد يمنعون لما يخشون من الفقر .
وأما الرب تعالى ، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها ، الذي لا يحتاج من يخبره بأحوال رعيته وعباده ، وهو تعالى أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، لا يحتاج إلى أحد من خلقه يجعله راحما لعباده ، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم ، وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته ، وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم ، وهو الغني ، الذي له الغنى التام المطلق ، الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه ، فأعطى كلا منهم ما سأل وتمنى ، لم ينقصوا من غناه شيئا ، ولم ينقصوا مما عنده ، إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط . وجميع الشفعاء يخافونه ، فلا يشفع منهم أحد إلا بإذنه ، وله الشفاعة كلها .
فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به ، وسفههم العظيم ، وشدة جراءتهم عليه . ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك لا يغفره اللّه تعالى ، لأنه يتضمن القدح في اللّه تعالى ، ولهذا قال حاكما بين الفريقين ، المخلصين والمشركين ، وفي ضمنه التهديد للمشركين- : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم ، ومن يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة ، ومأواه النار . { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي } أي : لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم { مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي : وصفه الكذب أو الكفر ، بحيث تأتيه المواعظ والآيات ، ولا يزول عنه ما اتصف به ، ويريه اللّه الآيات ، فيجحدها ويكفر بها ويكذب ، فهذا أنَّى له الهدى وقد سد على نفسه الباب ، وعوقب بأن طبع اللّه على قلبه ، فهو لا يؤمن ؟ "
قال قتادة في قوله : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } شهادة أن لا إله إلا الله . ثم أخبر تعالى عن عُبّاد الأصنام من المشركين أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم ، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم ، وما ينوبهم من أمر الدنيا ، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به .
قال قتادة ، والسدي ، ومالك عن زيد بن أسلم ، وابن زيد : { إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي : ليشفعوا لنا ، ويقربونا عنده منزلة .
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " . وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه ، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، بردها والنهي عنها ، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم ، لم يأذن الله فيه ولا رضي به ، بل أبغضه ونهى عنه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ]{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .
وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم ، كلهم عبيد خاضعون لله ، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى ، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم ، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه ، { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ } [ النحل : 74 ] ، تعالى الله عن ذلك .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي : يوم القيامة ، { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ، ويجزي كل عامل بعمله ، { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ، 40 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي : لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله ، وقلبه كفار يجحد بآياته وحججه وبراهينه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألا لله الدين الخالص} التوحيد، وغيره من الأديان ليس بخالص.
{من دونه أولياء} فيها إضمار قالوا: {ما نعبدهم} يعني الآلهة...
قالوا: ما نعبدهم {إلا ليقربونا إلى الله زلفى} منزلة فيشفعوا لنا إلى الله.
{إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه} من الدين.
{يختلفون إن الله لا يهدي} لدينه {من هو كاذب كفار}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ألا لِلّهِ الدّينُ الخالِصُ": يقول تعالى ذكره: ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شريك له، خالصة لا شرك لأحد معه فيها، فلا ينبغي ذلك لأحد، لأن كل ما دونه ملكه، وعلى المملوك طاعة مالكه، لا من لا يملك منه شيئا...
وقوله: "وَالّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرّبُونا إلى اللّهِ زُلْفَى": يقول تعالى ذكره: والذين اتخذوا من دون الله أولياء يَتَولّونهم ويعبدونهم من دون الله، يقولون لهم: ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله "زُلْفَى": قربة ومنزلة، وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا...
وقوله: "إنّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ "يقول تعالى ذكره: إن الله يفصل بين هؤلاء الأحزاب الذين اتخذوا في الدنيا من دون الله أولياء يوم القيامة، فيما هم فيه يختلفون في الدنيا من عبادتهم ما كانوا يعبدون فيها، بأن يُصْلِيَهم جميعا جهنم، إلا من أخلص الدين لله، فوحده، ولم يشرك به شيئا.
يقول تعالى ذكره: "إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي "إلى الحقّ ودينه الإسلام، والإقرار بوحدانيته، فيوفقه له "مَنْ هُوَ كاذِبٌ" مفتر على الله، يتقوّل عليه الباطل، ويضيف إليه ما ليس من صفته، ويزعم أن له ولدا افتراء عليه، كفار لنعمه، جحود لربوبيته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي ألا لله شهادة الوحدانية والألوهية في كل شيء. ويحتمل أيضا قوله عز وجل: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي دين الله، هو الدين الخالص؛ لأنه دين قام بالحجج والبراهين، وأما غيره من الأديان، فهو دين قام بهوى النفس وأمانيها لا بالحجج والآيات.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}...وقالوا في موضع آخر: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] عرفوا أن ما كانوا يعبدون من الأوثان وغيرها ليسوا بآلهة في الحقيقة، ولا لهم الألوهية حقيقة، وأن حقيقة الألوهية لله، لكنهم سموها آلهة لأنهم كانوا يعبدونها؛ وكل معبود عند العرب إله؛ لأن الإله هو المعبود، وقد رأوا تسمية كل معبود إلها، لذلك سموها آلهة...
فرد الله ذلك عليهم، فقال: {إن الله يحكم بينهم} يوم القيامة {في ما هم فيه يختلفون}:
يحتمل قوله: {في ما هم فيه يختلفون} في محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم اختلفوا فيه: فمنهم من قال: إنه ساحر، ومنهم من قال: إنه شاعر،... ونحوه، فيخبر أنه يحكم بينهم ليبين لهم أن ما ذكروا هو هواهم، وقد بين لهم في الدنيا أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر ولا ساحر، وكابروا...
وكذلك بين لهم أيضا ما عرفوا أن الأصنام التي عبدوها في الدنيا، لا تملك لهم الشفاعة يوم القيامة حين ابتلاهم بأهوال وأفزاع: بركوب البحار والضيق عليهم، حتى فزعوا إلى الله في كشف ذلك عنهم ودفعه عنهم، لم يفزعوا إلى الأصنام التي عبدوها، وهو ما قال عز وجل {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} [العنكبوت: 65].
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الدين الخالص ما تكون جملته لله؛ فما للعبد فيه نصيب فهو من الإخلاص بعيد، اللهم أن يكون بأمره؛ إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به، ولولا هذا لَمَا صحَّ أَنْ يكونَ في العَالَم مُخْلِصٌ...
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ...} في هذا إشارة إلى أن ما يفعله العبد من القُرَبِ بنشاطِ نَفْسِه من غير أن يقتضيه حُكْمُ الوقت، وما يعقد بينه وبين الله مِنْ عقودٍ ثم لا يَفِي بها.. فكل ذلك اتباعُ هوًى، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]...
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ} لا تَهديهم اليومَ لدينه، ولا في الآخرة إلى ثوابه، والإشارة فيه إلى تهديد مَنْ يتعرَّض لغير مقامه، ويدَّعي شيئاً ليس بصادقٍ فيه، فاللَّهُ لا يهديه قط إلا ما فيه سَدادُه ورُشْدُه، وعقوبتُه أَنْ يَحْرِمَه ذلك الشيءَ الذي تصدَّى له بدعواه قبل تَحققِه بوجوده وذَوْقِه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}: الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله، يعذبهم بها حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم...
واختلافهم: أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون، وأولئك يعادونهم ويلعنونهم وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى. وقيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السموات والأرض، أقرّوا وقالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى؛ فالضمير في {بَيْنَهُمْ} عائد إليهم وإلى المسلمين، والمعنى: أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين. والمراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
بمعنى من حقه ومن واجباته لا يقبل غير هذا، وهذا كقوله: {لله الحمد} [الجاثية: 36]، أي واجباً ومستحقاً...
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}:...إما أن يكون لفظها العموم ومعناها الخصوص فيمن ختم الله عليه بالكفر وقضى في الأزل أنه لا يؤمن أبداً، وإلا فقد وجد الكاذب الكفار قد هدي كثيراً، وقرأ أنس بن مالك والجحدري: «كذب كفار» بالمبالغة فيهما، ورويت عن الحسن والأعرج ويحيى بن يعمر، وهذه المبالغة إشارة إلى المتوغل في الكفر، القاسي فيه الذي يظن به أنه مختوم عليه...
اعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد أردفه بذم طريقة المشركين فقال: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وتقدير الكلام والذين اتخذوا من دونه أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وعلى هذا التقدير فخبر الذين محذوف وهو قوله يقولون. واعلم أن الضمير في قوله: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله، وهي قسمان العقلاء وغير العقلاء، أما العقلاء فهو أن قوما عبدوا المسيح وعزيزا والملائكة، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام، إذا عرفت هذا فنقول: الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء، أما بغير العقلاء فلا يليق، وبيانه من وجهين
الأول: أن الضمير في قوله: {ما نعبدهم} ضمير للعقلاء فلا يليق بالأصنام.
الثاني: أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار في المسيح والعزيز والملائكة أن يشفعوا لهم عند الله.
واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه:
الأول: أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال: {إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون}.
{إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار} والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروما عن الهداية.
والمراد بهذا الكذب وصفهم لهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وهم نحتوها وتصرفوا فيها، والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض.
وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الاعتقاد، والأمر ههنا كذلك فإن وصفهم لها بالإلهية كذب، واعتقادهم فيها بالإلهية جهل وكفر. ويحتمل أن يكون المراد كفران النعمة، والسبب فيه أن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وذلك المنعم هو الله سبحانه وتعالى وهذه الأوثان لا مدخل لها في ذلك الإنعام، فالإشتغال بعبادة هذه الأوثان يوجب كفران نعمة المنعم الحق...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمر الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به...
ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم:"لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك". وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردها والنهي عنها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمره سبحانه بهذا الأمر، نادى باستحقاقه لذلك وأنه لم يطلب غير حقه، وأن ذلك لا يتصور أن يكون لغيره، فقال في جواب من كأنه قال: لم منعه من الالتفات إلى غيره؟ منادياً إشارة إلى أنه لا مكافئ له فلا يسع أحداً يبلغه هذا النداء إلا الخضوع طائعاً أو كارهاً: {ألا لله} أي الملك الأعلى وحده.
{الدين الخالص} لأنه له الأمر والخلق لا يشركه فيه أحد، فكما تفرد بأن خلقك وخلق كل ما لك من شيء، فكذلك ينبغي أن تفرده بالطاعة؛ ولأنه إذا عبده أحد مخلصاً كفاه كل شيء، وأما غيره فلو أخلص له أحد لم يمكن أن يكفيه شيئاً من الأشياء فضلاً عن كل شيء.
والدين الذي هو أهل للإخلاص هو الإسلام الذي كان في كل ملة المنبني على القواعد الخمس المثبتة بالإخلاص المحض، الناشئ من المراقبة في الأوامر والنواهي وجميع ما يرضي الشارع للدين أو يسخطه، فتكون جملته لله من غير شهوة ظاهرة أو باطنة في شهرة ولا غيرها، وإنما استحقه سبحانه دون غيره؛ لأنه هو الذي شرعه ولا أمر لأحد معه فكيف يشركه من لا أمر له بوجه من الوجوه.
قال ابن برجان: وذلك -أي ترك الإخلاص- كله مولد عن حب البقاء في الدنيا ونسيان لقاء الله تعالى، ثم قال ما معناه: إن ذلك من الشرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك في الإلهية وهو أن يرى مع الله إلهاً آخر...
الثاني: شرك في العبادة بالرياء وإضافة العمل إلى النفس.
والثالث: الشرك الخفي وهو الشهوة الخفية، وهو أن يخفي العمل ويخاف من إظهاره ويحب لو اطلع عليه ومدح بأسراره.
ومن أحسن العون على الإخلاص الحياء من الله أن تتزين لغيره بعمل ألهمك إياه وقواك عليه وخلت فيه وزعمت تطلب التقرب إليه فأتاك عدوه إبليس الذي عاداه فيك فتطيعه فيما يضرك ولا ينفعك، فاستعن على عبادتك بالستر فاستر حسناتك كما تستر سيئاتك، فإن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفاً ولما أخبر سبحانه عما له وحده، وكان محط أمر الإنسان بل جميع الحيوان على الهداية إلى مصالحه ليفعلها ومفاسدة ليتركها، وأرشد السياق إلى أن التقدير: فمن أخلص له الدين هداه في جميع أموره، وإن اشتد الإشكال، وتراكمت وجوه الضلال، عطف عليه الإخبار عمن لزم الضلال، والغي والمحال، فقال محذراً من مثل حاله، بما حكم عليه في مآله: {والذين} ولما كان الإنسان مفطوراً على الخضوع للملك الديان، ولا يلتفت إلى غيره إلا بمعالجة النفس بما لها من الهوى والطغيان، عبر بصيغة الافتعال فقال: {اتخذوا} أي عالجوا عقولهم حتى صرفوها عن الله فأخذوا، ونبههم على خطئهم في رضاهم بالأدنى على الأعلى بقوله: {من دونه} ومعلوم أن كل شيء دونه.
{أولياء} أي يكلون إليهم أمورهم.
ولما كان من العجب العجيب فعلهم، هذا بين ما وجهوا به فعلهم ليكون آية بينة في أنه لا هدى لهم فقال: {ما} أي قائلين لمن أخلصوا له الدين إذا أنكروا عليهم أن يتخذوا من دونه ولياً: ما {نعبدهم} لشيء من الأشياء.
{إلا ليقربونا} ونبه سبحانه على بعدهم عن الصواب بالتعبير بالاسم الأعظم مع حرف الغاية فقال: {إلى الله} الذي له معاقد العز ومجامع العظمة، تقريباً عظيماً على وجه التدريج ويزلفونا إليه {زلفى} أي تقريباً حسناً سهلاً بهجاً زائداً نامياً متعالياً.
الآية من الاحتباك: ذكر فعل التقريب أولاً دليلاً على فعل الزلف ثانياً، واسم الزلف ثانياً دليلاً على الاسم من التقريب أولاً، وسره أنهم أرادوا بهذا الاعتذار المسكت عن قبيح صنيعهم، فأتى سبحانه في حكايته عنهم بالتأكيد على أبلغ وجه لأن الدلالة على المعنى بلفظين أجدر في ثباته وتكثيره من لفظ واحد، وبدأ، بأرشق الفعلين وأشهرهما وأخفهما وأوضحهما.
ولما كان إنما محط دينهم الهوى، وكان كل من تبع الهوى لا ينفك عن الاضطراب في نفسه، فكيف إذا كان معه غيره فكيف إذا كانوا كثيراً فيكثر الخلاف والنزاع وإن لم يحصل ذلك بالفعل كان بالقوة، ولذلك كان لكل قبيلة ممن يعبد الأصنام صنم غير صنم الأخرى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53] نبه على ذلك مهدداً لهم بقوله مخبراً مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما لم يقيد الحكم بالقيامة وكانوا معترفين بأن المصائب في الدنيا منه قال: {يحكم بينهم} من غير تأكيد آخر أي بين جميع المخالفين في الأديان وغيرها من المتخذين للأولياء من دونه ومن المخلصين وغيرهم فلا بد أن ينصر أهل الحق على جميع أهل الباطل.
ولما كانوا أوزاعاً أكثر قبائلهم على خلاف ما يعتقده غيرها، قال: {في ما} أي في الدين الذي والأمر الذي.
ولما كان تحكيمهم للهوى موفراً لدواعيهم على الاختلاف، وكان الاتخاذ الذي بنى الكلام عليه له نظر عظيم إلى علاج الباطن بخلاف سورة يونس اثبت الضمير هنا فقال: {هم} أي بضمائرهم {فيه يختلفون} أي ليس لهم أصل يضبطهم، فهم لا يرجعون إلا إلى الخلف كيف ما تقلبوا؛ لأنهم مظروفون لذلك العمل الذي مبناه الهوى هو منشأ الاختلاف، فكيف إذا انضم إلى ذلك خلاف المخلصين وإنكارهم عليهم الذي أرشد إليه اعتذارهم، فظهر من هذا أن اختلاف الأئمة في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لقواعد استنبطوها من ذلك لا يخرجون عنها ليس خلافاً بل وفاق لوحدة ما يرجعون إليه من الأصل الصحيح الثابت عن الله، ومن هذا إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عمر وأبي وغيرهما رضي الله عنهم لما أنكر كل منهم على من خالفه في القراءة وقال:"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تختلفوا" فلا فرق بين أن يستند كل من الأمرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً أو اجتهاداً؛ لأنه في قوة الاتفاق لوحدة مرجعه،ويجوز أن يكون الضمير في "بينهم "لهم ولمعبوداتهم فإنهم ليس منهم معبود صامت ولا ناطق إلا وهو صارخ بلسان حاله إن لم ينطق لسان قاله بأنه مقهور مربوب عابد لا معبود، فهم مع من يعبدهم في غاية الخلاف.
ولما كان من الأمر الواضح أن الدين لا يكون صالحاً إلا إن انتظم بنظام غير مختل، وكان الدين إذا كان معوجاً داعياً إلى التفرق منادياً على نفسه بالانخلاع عنه والبعد منه فكان الحال مقتضياً للتعجب ممن تدين به، فضلاً عمن يدوم عليه، فضلاً عمن لا ينتبه عند التنبيه، فضلاً عمن يقاتل دون ذلك، أجاب من كأنه قال: ما سبب عكوفهم على هذا الضلال الذي أوجب لهم قطعاً الاختلاف بالفعل أو بالقوة، فقال مؤكداً تكذيباً لمن ينكر ما تضمنه هذا الإخبار وإن ظهر لبعض العمى غير ذلك مما يبدو من الكذبة والكفرة من أعمال مزينة وأفكار دقيقة فتظن هدى وإنما هي استدراج.
ولما أرشد السياق إلى أن المعنى: لأنهم غير مهتدين لأن الله لم يخلق الهداية في قلوبهم، نسق به قوله: {إن الله} أي الملك القادر القاهر الحكيم.
ولما كان الأصل: لا يهديهم، وأراد سبحانه التعميم وتعليق الحكم بالوصف تنفيراً عنه قال: {لا يهدي} أي لا يخلق الهداية في قلب.
{من هو} أي لضميره {كاذب} أي مرتكب الكذب عريق فيه حتى أداه كذبه إلى أن يقول على ملك الملوك أن شيئاً يقرب إليه بغير إذنه، ويخضع بالعبادة التي هي نهاية التعظيم، فهي لا تليق بغير من ينعم غاية الإنعام لمن لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولم يعبر في الكذب بصيغة مبالغة؛ لأن الذين السياق لهم لم يقع منهم كذب إلا في ادعائهم أنهم يقربونهم.
ولما كان من كفر في حين من الدهر قد ضاعف كفره لكثرة ما على الوحدانية من الدلائل وما لله عليه من الإحسان، وكان هؤلاء الذين لهم السياق قد كفروا بتأهيلهم لشركائهم للعبادة ولعبادتهم بالفعل ولادعائهم فيهم التقريب قال {كفار} بصيغة المبالغة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يعلنها هكذا مدوية عالية في ذلك التعبير المجلجل. بأداة الافتتاح (ألا) وفي أسلوب القصر (لله الدين الخالص). فيؤكد معناها بالبناء اللفظي للعبارة.. فهي القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها. بل التي يقوم عليها الوجود كله. ومن ثم ينبغي أن ترسخ وتتضح وتعلن في هذا الأسلوب الجازم الحاسم: (ألا لله الدين الخالص).. ثم يعالج الأسطورة المعقدة التي كان المشركون يواجهون بها دعوة التوحيد. والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون. إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار.. فلقد كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض.. ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة، وهو انحراف عن بساطة الفطرة واستقامتها، إلى هذا التعقيد والتخريف. فلا الملائكة بنات الله. ولا الأصنام تماثيل للملائكة. ولا الله -سبحانه- يرضى بهذا الانحراف. ولا هو يقبل فيهم شفاعة. ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق! وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول. وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة -أو تماثيل الملائكة- تقرباً إلى الله -بزعمهم- وطلباً لشفاعتهم عنده. وهو سبحانه يحدد الطريق إليه. طريق التوحيد الخالص الذي لا يتلبس بوساطة أو شفاعة على هذا النحو الأسطوري العجيب! (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف للتخلص إلى استحقاقه تعالى الإِفراد بالعبادة وهو غرض السورة وأفاد التعليل؛ للأمر بالعبادة الخالصة لله؛ لأنه إذا كان الدين الخالص مستحقاً لله وخاصّاً به، كان الأمر بالإِخلاص له مصيباً محزّه فصار أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له مسبباً عن نعمة إنزال الكتاب إليه، ومقتضَى لكونه مُستحق الإِخلاص في العبادة اقتضاء الكلية لجزئياتها، وبهذا العموم أفادت الجملة معنى التذييل فتحملت ثلاثة مواقع كلها تقتضي الفصل.
وافتتحت الجملة بأداة التنبيه تنويهاً بمضمونها لتتلقاه النفس بشَرَاشِرِها وذلك هو ما رجّح اعتبار الاستئناف فيها، وجعل معنى التعليل حاصلاً تبعاً من ذكر إخلاص عام بعد إخلاص خاص وموردهما واحد...
واللام في {لله الدينُ الخالص} لام الملك الذي هو بمعنى الاستحقاق، أي لا يحقّ الدين الخالص، أي الطاعة غير المشوبة إلا له على نحو {الحمد لله} [الفاتحة: 2]. وتقديم المسند إليه لإِفادة الاختصاص فأفاد قوله: {لله الدينُ الخالِصُ} أنه مستحقه وأنه مختص به.
ومما يتفرع على معنى الآية إخلاص المؤمن الموحد في عبادة ربه، أي أن يعبد الله لأجله، أي طلباً لرضاه وامتثالاً لأمره وهو آيل إلى أحوال النية في العبادة المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكِحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»...
{والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يختلفون}. عطف على جملة {ألا لله الدينُ الخالِصُ} لزيادة تحقيق معنى الإِخلاص لله في العبادة وأنه خلوص كامل لا يشوبه شيء من الإِشراك ولا إشراك الذين زعموا أنهم اتخذوا أولياءَ وعبدوهم حرصاً على القرب من الله يزعمونه عذراً لهم فقولهم من فساد الوضع وقلبِ حقيقة العبادة بأن جعلوا عبادة غير الله وسيلة إلى القرب من الله فنقضوا بهذه الوسيلة مقصدها، وتطلبوا القربة بما أبْعَدَها، والوسيلة إذا أفضت إلى إبطال المقصد كان التوسل بها ضرباً من العبث...
{إنَّ الله يحكم بينهم} وعيد لهم على قولهم ذلك فعلم منه إبطال تعللهم في قولهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله}؛ لأن الواقع أنهم عبدوا الأصنام أكثر من عبادتهم لله، فضمير {بينَهُمْ} عائد إلى الذين اتخذوا أولياء.
والمراد ب {ما هم فيه يختلفون} اختلاف طرائقهم في عبادة الأصنام وفي أنواعها من الأنصاب والملائكة والجنّ على اختلاف المشركين في بلاد العرب، ومعنى الحكم بينهم أنه يبين لهم ضلالَهم جميعاً يوم القيامة؛ إذ ليس معنى الحكم بينهم مقتضياً الحكم لفريق منهم على فريق آخر، بل قد يكون الحكم بين المتخاصمين بإبطال دعوى جميعهم. ويجوز أن يكون على تقدير معطوف على {بينهم} مماثل له دلت عليه الجملة المعطوف عليها وهي {ألا لله الدين الخالص}؛ لاقتضائها أن الذين أخلصوا الدين لله قد وافقوا الحق، فالتقدير يحكم بينهم وبين المخلصين.
والاستثناء في قوله: {إلاَّ ليقربونا} استثناء من علل محذوفة، أي ما نعبدهم لشيء إلا لعلة أن يقرّبونا إلى الله فيفيد قصراً على هذه العلة قصر قلب إضافي، أي دون ما شنعتم علينا من أننا كفرنا نعمة خالقنا إذ عبدنا غيره، وقد قدمنا آنفاً من أنهم أرادوا به المعذرة ويكون في أداة الاستثناء استخدام لأن اللام المقدرة قبل الاستثناء لام العاقبة لا لام العلة إذ لا يكون الكفران بالخالق علة لعاقل، ولكنه صائر إليه، فالقصر لا ينافي أنهم أعدوهم لأشياء أخر إذا عدوهم شفعاء واستنجدوهم في النوائب، واستقسموا بأزلامهم للنجاح، كما هو ثابت في الواقع. والزلفى: منزلة القرب، أي ليقربونا إلى الله في منزلة القرب، والمراد بها منزلة الكرامة والعناية في الدنيا؛ لأنهم لا يؤمنون بمنازل الآخرة، ويكون منصوباً بدلاً من ضمير {ليُقربونا} بدل اشتمال، أي ليقربوا منزلتنا إلى الله. ويجوز أن يكون {زلفى} اسم مصدر فيكون مفعولاً مطلقاً، أي قرباً شديداً.
وأفاد نظم {هُم فيه يختلفون} أمرين أن الاختلاف ثابت لهم، وأنه متكرر متجدد، فالأول من تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، والثاني من كون المسند فعلاً مضارعاً.
وهداية الله المنفية عنهم هي: أن يتداركهم الله بلطفه بخلق الهداية في نفوسهم، فالهداية المنفية هي الهداية التكوينية، لا الهداية بمعنى الإِرشاد والتبليغ وهو ظاهر، فالمراد نفي عناية الله بهم، أي العناية التي بها تيسير الهداية عليهم حتى يهتدوا، أي لا يوفّقهم الله بل يتركهم على رأيهم غضباً عليهم، والتعبير عنهم بطريق الموصولية لما في الموصول من الصلاحية لإِفادة الإِيماء إلى علة الفعل؛ ليفيد أن سبب حرمانهم التوفيق هو كذبهم وشدة كفرهم. فإن الله إذا أرسل رسوله إلى الناس فبلغهم كانوا عندما يبلغهم الرسول رسالةَ ربه بمستوى متحِد عند الله بما هم عبيد مربوبون ثم يكونون أصنافاً في تلقّيهم الدعوة؛ فمنهم طالب هداية بقبول ما فهمه ويسأل عما جهله، ويتدبر وينظر ويسأل، فهذا بمحل الرضى من ربه فهو يعينه ويشرح صدره للخير حتى يشرق باطنه بنور الإِيمان كما قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} [الأنعام: 125]
ولا جرم أنه كلما توغّل العبد في الكذب على الله وفي الكفر به، ازداد غضب الله عليه فازداد بُعد الهداية الإلهية عنه، كما قال تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حقٌّ وجَاءَهُمُ البينات والله لا يَهْدِي القومَ الظِّالِمِين} [آل عمران: 86].
والتوفيق: خلق القدرة على الطاعة فنفي هداية الله عنهم كناية عن نفي توفيقه ولطفه؛ لأن الهداية مسببة عن التوفيق فعبر بنفي المسبب عن نفي السبب.
وكذبهم هو ما اختلقوه من الكفر بتأليه الأصنام، وما ينشأ عن ذلك من اختلاق صفات وهمية للأصنام وشرائع يدينون بها لهم.
والكَفَّار: الشديد الكفر البليغُه، وذلك كفرهم بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن بإعراضهم عن تلقّيه، والتجرد عن الموانع للتدبر فيه. وعلم من مقارنة وصفهم بالكذب بوصفهم بالأبلغية في الكفر، أنهم متبالغون في الكذب أيضاً؛ لأن كذبهم المذموم إنما هو كذبهم في كفرياتهم فلزم من مبالغة الكفر مبالغة الكذب فيه.
ثم يقول سبحانه: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} بعد أن خاطب الحق سبحانه نبيه بقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] أراد سبحانه أنْ ينبه الأذهان إلى أهمية الإخلاص لله تعالى، فجاء بهذا الحرف الدال على الاستفتاح (ألا).
وهذا الأسلوب يتبعه العربي في كلامه، لأن المتكلم أمير نفسه يتكلم في أيِّ وقت شاء، وهو يعي ما يقول وله خيار فيما يقول أمَّا السامع فليس له خيار فربما كان مشغولاً عن المتكلم فيفوته بعض الكلام؛ لذلك على المتكلم أنْ ينبهه من غفلته، وأنْ يُهيِّئه لأنْ يسمع، لا سيما إنْ كان الكلام مهماً أو نفيساً لا ينبغي أن يفوتك منه شيء؛ لذلك قال سبحانه: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].
ونلحظ أيضاً هنا أسلوبَ القصر في تقديم الجار والمجرور {لِلَّهِ} [الزمر: 3] على المبتدأ الدين الخالص، فلم يَقُلْ سبحانه الدين الخالص لله، لأنها تحتمل أن نقول: ولغيره، أمَّا قوله {لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] أي: له وحده، فقصرت إخلاص الدين على الله تعالى دون غيره، تقول: هذا المال لزيد. ولزيد هذا المال.
لكن، لماذا لله الدين الخالص؟ قالوا: لأن الدينَ شرعُ الله هو الذي شرعه، وهو سبحانه الذي يُجازي عليه، فاحذر إذن أنْ يكون عملك بمنهج الله مقصوداً به غير الله؛ لأن غير الله لم يشرع لك، ولا يستطيع أنْ يعطيك أجر العمل. فكأن الله تعالى يريد أنْ يُحَصِّن حركة الإنسان في كل شيء، بحيث تعود عليه كل حركاته بالخير؛ لذلك دَلَّهُ على الطريق الذي يؤدي به إلى الخير، وهو طريق إخلاص العبادة لله وحده.
ثم يذكر سبحانه مقابل إخلاص العبادة لله، فيقول: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} قائلين ومبررين موقفهم حين تبيَّن لهم كذبهم في عبادة ما دون الله، وحين تقول لهم إن هذه الآلهة لا ترى ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، وحين تضيق عليهم الخناق يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَىۤ}.
والذي يُقرِّبك إلى الله لا بُدَّ أنْ يكون مشهوداً بالتبعية لله تعالى، وهذه الآلهة التي تعبدونها ليست مشهودة بالتبعية لله تعالى، بل هي من صُنْعكم أنتم ومن نَحْت أيديكم، وإذا أطاحت به الريح أقمتموه في مكانه، وإذا كسر ذراعه أصلحتموه.
إذن: فعبادتكم لها باطلة، وأنتم كاذبون في هذه العبادة {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كلمة الحكم لله كلمة ترهب، لأن حكمَ الله هو الحق الذي لا يُحابي أحداً، فالمؤمن حين يسمع هذه الكلمة يطمئن، لأنه سيأتي يوم لا يكون الحكم فيه إلا لله كما قال سبحانه: (إن الحكم إلا لله) أي: لله وحده لا لغيره، لذلك أنت لا تقول لخصمك: أنا حكَّمت الله بيني وبينك إلا وأنت واثق أن الحق معك...
ثم إن حكم الله سيأتي في وقت لا حكمَ فيه إلا لله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ} [الأنعام: 57].
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ} نعم لا يهديه الله، لأن الكاذب الكفَّار ليس أهلاً لعطاء الهداية؛ لأن الله تعالى هدى الكل هدايةَ الدلالة والإرشاد، فمَنْ آمن منهم زاده هداية المعونة والتوفيق، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].