تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ} (3)

قوله تعالى : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي ألا لله شهادة الوحدانية والألوهية في كل شيء . ويحتمل أيضا قوله عز وجل : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي دين الله ، هو الدين الخالص ، لأنه دين قام بالحجج والبراهين . وأما غيره من الأديان ، فهو دين قام بهوى النفس وأمانيها لا بالحجج والآيات ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } كان فيه إضمار : ( وقال الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ، وقالوا في موضع آخر : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] عرفوا أن ما كانوا يعبدون من الأوثان وغيرها ليسوا بآلهة في الحقيقة ، ولا لهم الألوهية حقيقة ، وأن حقيقة الألوهية لله . لكنهم سموها آلهة لأنهم كانوا يعبدونها ؛ وكل معبود عند العرب إله ، لأن الإله هو المعبود ، وقد رأوا تسمية كل معبود إلها . لذلك سموها آلهة ، وإن عرفوا أن ليست لهذه الأشياء ألوهية حقيقة ، وأن الألوهية لله عز وجل ثم إن الذي حملهم على عبادة ما عبدوا من دون الله وجهان :

أحدهما : لما لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة الإله العظيم ، أو تقدر على القيام بخدمته عبدوا هذه الأشياء رجاء أن تقربهم عبادة هؤلاء إلى الله زلفى ، وأن يكون هؤلاء شفعاءهم عنده . وذلك ما رأوا في ملوك الدنيا : أن كل واحد يجد السبيل إلى خدمة ملك ، أو يقدر على القيام بين يديه والخدمة له ، يخدم من اتصل بالملك ومن عظم قدره ومنزلته عند الملك ليقربه ذلك المخدوم له إلى الملك إذا بدت له الحاجة أو الشفاعة .

وعلى ذلك ما ذكر في قصة فرعون أنه كان اتخذ لقومه أصناما يعبدونها من دونه لما لم ير كل أحد منهم يصلح لخدمته ، وهو ما أغرى قومه على موسى حين قالوا : { وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] ونحو هذا وجه .

والثاني : عبدوها لما رأوا آباءهم قد عبدوها ، وتركوا على ذلك حتى تابوا ، فاستدلوا بتركهم على ذلك على أن الله قد كان رضي بعبادتهم الأصنام ، وأمرهم بذلك لقولهم : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ولذلك قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } [ الأنعام : 148 ] وقالوا : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [ النحل : 35 ] .

استدلوا بتركه آباءهم على ما عبدوا من الأصنام على ذلك وأنهم عن أمر منه فعلوا ذلك . فرد الله ذلك عليهم ، فقال : { إن الله يحكم بينهم } يوم القيامة { في ما هم فيه يختلفون } .

يحتمل قوله : { في ما هم فيه يختلفون } في محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم اختلفوا فيه :

فمنهم من قال : إنه ساحر ، ومنهم من قال : إنه شاعر ، وإنه مجنون ، وإنه مفتر ، ونحوه .

فيخبر أنه يحكم بينهم ليبين لهم أن ما ذكروا هو هواهم أو يحكم بينهم أن الأصنام التي عبدوها لا تشفع لهم ، وأن عبادتهم لا تقربهم إلى الله زلفى .

وقد بين لهم في الدنيا أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر ولا ساحر ولا كذاب على ما قالوا لما أنبأهم ، وأخبرهم بأخبار ، عرفوا أن الساحر والشاعر ، لا يعرف مثلها ، نحو ما أخبرهم بنصر الله إياه والظفر له عليهم ، أعني على الأعداء ، فكان على ما أنبأهم . وكذلك ما أنبأهم بأنباء وأخبار ، عرفوا أنه صادق في ذلك ما لا يستفاد مثلها بالسحر وبالكهانة إلا بالوحي من الله عز وجل لكنهم عاندوا ، وكابروا .

وكذلك بين لهم أيضا ما عرفوا أن الأصنام التي عبدوها في الدنيا ، لا تملك لهم الشفاعة يوم القيامة حين ابتلاهم بأهوال وأفزاع : بركوب البحار والضيق عليهم ، حتى فزعوا إلى الله في كشف ذلك عنهم ودفعه عنهم ، لم يفزعوا إلى الأصنام التي عبدوها ، وهو ما قال عز وجل { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } [ العنكبوت : 65 ] وقوله : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } [ الإسراء : 67 ] ونحو ذلك ما ابتلاهم بالشدائد والبلايا ، عرفوا أن معبودهم الذي عبدوه ، لا يملك دفع ذلك عنهم ولا كشفه . وإنما المالك لذلك ، هو الله المعبود الحق .

ثم يناقض قولهم لأنهم كانوا ينكرون رسالة النبيين بقولهم : { أبعث الله بشرا رسولا } [ الإسراء : 94 ] فيرون للخشب والأشجار الألوهية والعبادة ، فذلك تناقض ظاهر :

قال بعضهم في قوله : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي مقربة ، فيشفعون لنا إلى الله تعالى ، وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .

وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } قال أبو بكر : لا يهدي أحدا بالضلال والكفر ، ولكن إنما يهدي بضد الضلال والكفر ، أو كلام نحوه .

وقال الجبائي : لا يهدي من كان في الدنيا كاذبا كفارا في الآخرة طريق الجنة .

وجائز أن يكون قوله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } من ضله قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } وقوله : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] كفار لنعمه بصرفه العبادة إلى غير المنعم .

وقال جعفر بن حرب : إن الله لا يهدي إلى الزيادات الذي يكذب ، ويعطي من اختار الهدى ، لأنه يقول : إن من اختار الهدى ، واهتدى كان عند الله بلطفه ورحمته : يعطي ذلك زيادات على ما كان اختاره كقوله عز وجل : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [ محمد : 17 ] .

هذه التأويلات كلها للمعتزلة .

وأما عندنا فإن قوله : [ { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } يحتمل وجهين :

أحدهما : { إن الله لا يهدي من هو } في علمه أنه يختار الكفر وقت اختياره الكفر والضلال ، أي لا يوفقه للهدى ، ولا يعنيه وقت اختياره الكفر ، ولكنه يخذله . وكذلك يقول في قوله عز وجل : { والله لا يهدي القوم الظالمين } [ البقرة : 258 ] وقوله : { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } [ المائدة : 67 ] ونحوه أي لا يهديهم وقت الكفر والظلم ، والله الموفق .

والثاني : لا يهدي ، أي لا يخلق من فعل من فعل كفرا ، فعل هدى ، ولكن يخلق فعل كفر . وكذلك لا يخلق من فعل من فعل هدى فعل كفر ، ولكن يخلق كل فعل على ما يفعله الفاعل ، ويختاره ، يخلق من فعل الكافر كفرا ، ومن فعل المهتدي فعل هدى يخلق كل فعل على ما يختاره الفاعل ، ويفعله إن كان هدى يخلقه هدى ، وإن كان كفرا يخلقه كفرا .

وقال بعض أهل التأويل : إن الله لا يهدي من كان في علمه أنه يختم بالكفر ، ويخرج به من الدنيا ، والله أعلم .

ثم قوله عز وجل : { من هو كاذب كفار } يحتمل وجهين :

أحدهما : { من هو كاذب كفار } على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والثاني : { كفار } لنعم الله وكاذب في القول كفار في الفعل ، والله أعلم .