قوله تعالى : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } أي : نعمة ربي . وقيل : رزق ربي ، { إذاً لأمسكتم } ، لبخلتم وحبستم ، { خشية الإنفاق } أي : خشية الفاقة ، قاله قتادة . وقيل : خشية النفاد ، يقال : أنفق الرجل أي أملق وذهب ماله ونفق الشيء ، أي : ذهب . وقيل : لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفقر . { وكان الإنسان قتوراً } أي : بخيلاً ممسكاً عن الإنفاق .
يقول تعالى لرسوله صلوات الله عليه وسلامه{[17866]} قل لهم يا محمد : لو أنكم - أيها الناس - تملكون التصرف في خزائن الله ، لأمسكتم خشية الإنفاق .
قال ابن عباس ، وقتادة : أي الفقر أي : خشية أن تذهبوها{[17867]} ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدًا ؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم ؛ ولهذا قال : ( وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ) قال ابن عباس ، وقتادة{[17868]} : أي بخيلا منوعًا . وقال الله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [ النساء : 53 ] أي : لو أن لهم نصيبًا في ملك الله لما أعطوا أحدًا شيئًا ، ولا مقدار نقير ، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله وهداه ؛ فإن البخل والجزع والهلع صفة له ، كما قال تعالى : { إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19 - 22 ] . ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز ، ويدل هذا على كرمه{[17869]} وجوده وإحسانه ، وقد جاء في الصحيحين : " يد الله ملأى لا يَغيضُها نفقة ، سَحَّاءُ الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يَغض ما في يمينه " {[17870]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : لو أنتم أيها الناس تملكون خزائن أملاك ربي من الأموال ، وعنى بالرحمة في هذا الموضع : المال إذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفاقِ يقول : إذن لبَخِلْتُمْ بِهِ ، فَلم تجودوا بها على غيركم ، خشية من الإنفاق والإقتار ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : إذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفاقِ قال : الفقر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة خَشْيَةَ الإنْفاقِ أي خشية الفاقة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
وقوله : وكانَ الإنْسانُ قَتُورا يقول : وكان الإنسان بخيلاً ممسكا ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وكاَن الإنْسانُ قَتُورا يقول : بخيلاً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وكانَ الإنْسانُ قَتُورا قال : بخيلاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكانَ الإنْسانُ قَتُورا قال : بخيلاً ممكسا .
وفي القتور في كلام العرب لغات أربع ، يقال : قَتَر فلان يَقْتُرُ ويَقْتِر ، وقتّر يُقَتّر ، وأقتر يُقْتِر ، ما قال أبو دُواد :
لا أعُدّ الإقْتارَ عُدْما وَلَكِن *** ْفَقْدُ مَنْ قد رُزِيْتُهُ الإعْدَامُ
{ قل لو انتم تملكون خزائن رحمة ربي } خزائن رزقه وسائر نعمه ، وأنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده كقول حاتم : لو ذات سوار لطمتني . وفائدة هذا الحذف والتفسير المبالغة مع الإيجاز والدلالة على الاختصاص . { إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق } لبخلتم مخافة النفاد بالإنفاق إذ لا أحد إلا ويختار النفع لنفسه ولو آثر غيره بشيء فإنما يؤثره لعوض يفوقه فهو إذن بخيل بالإضافة إلى جود الله تعالى وكرمه هذا وإن البخلاء أغلب فيهم . { وكان الإنسان قتوراً } بخيلا لأن بناء أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه وملاحظة العوض فيما يبذله .
اعتراض ناشىء عن بعض مقترحاتهم التي توهموا عدم حصولها دليلاً على انتفاء إرسال بَشيرٍ ، فالكلام استئناف لتكملة رد شبهاتهم . وهذا رد لما تضمنه قولهم : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } إلى قوله : { تفجيراً } [ الإسراء : 90 - 91 ] ، وقولهم : { أو يكون لك بيت من زخرف } [ الإسراء : 93 ] من تعذر حصول ذلك لعظيم قيمته .
ومعنى الرد : أن هذا ليس بعظيم في جانب خزائن رحمة الله لو شاء أن يظهره لكم .
وأدمج في هذا الرد بيانُ ما فيهم من البخل عن الإنفاق في سبيل الخير . وأدمج في ذلك أيضاً تذكيرهم بأن الله أعطاهم من خزائن رحمته فكفروا نعمته وشكروا الأصنام التي لا نعمة لها . ويصلح لأن يكون هذا خطاباً للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم كل على قدر نصيبه .
وشأن ( لو ) أن يليها الفعل ماضياً في الأكثر أو مضارعاً في اعتبارات ، فهي مختصة بالدخول على الأفعال ، فإذا أوقعوا الاسم بعدها في الكلام وأخروا الفعل عنه فإنما يفعلون ذلك لقصدٍ بليغ : إما لقصد التقوي والتأكيد للإشعار بأن ذكر الفعل بعد الأداة ثم ذكر فاعله ثم ذكر الفعل مرةً ثانية تأكيدٌ وتقويةٌ ؛ مثل قوله : { وإن أحد من المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] وإما للانتقال من التقوي إلى الاختصاص ، بناءً على أنه ما قدم الفاعل من مكانه إلا لمقصد طريققٍ غير مطروق . وهذا الاعتبار هو الذي يتعين التخريج عليه في هذه الآية ونحوها من الكلام البليغ ، ومنه قول عُمر لأبي عبيدة لَوْ غيرُك قالها .
والمعنى : لو أنتم اختصصتم بملك خزائن رحمة الله دون الله لَما أنفقتم على الفقراء شيئاً . وذلك أشد في التقريع وفي الامتنان بتخييل أن إنعام غيره كالعدم .
وكلا الاعتبارين لا يُنَاكد اختصاص ( لو ) بالأفعال للاكتفاء بوقوع الفعل في حَيزها غيرَ مُوال إياها وموالاته إياها أمر أغلبي ، ولكن لا يجوز أن يقال : لو أنت عالم لبذذت الأقران .
واختير الفعل المضارع لأن المقصود فرض أن يملكوا ذلك في المستقبل .
و{ أمسكتم } هُنا منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول ، لأن المقصود : إذن لاتصفتم بالإمساك ، أي البخل . يقال : فلان مُمسك ، أي بخيل . ولا يراد أنه ممسك شيئاً معيناً .
وأكد جواب ( لو ) بزيادة حرف ( إذن ) فيه لتقوية معنى الجوابية ، ولأن في ( إذن ) معنى الجزاء كما تقدم آنفاً عند قوله : { قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء : 42 ] . ومنه قول بشر بن عَوانة :
أفاطم لو شهدت ببطن خَبْتٍ *** وقد لاقَى الهزبرُ أخاككِ بِشرَا
إذن لرأيتتِ لَيْثا أمَّ لَيثـــا *** هِزَبْرا أغلباً لاقَى هِزبــرا
وجملة { وكان الإنسان قتوراً } حالية أو اعتراضية في آخر الكلام ، وهي تفيد تذييلاً لأنها عامةُ الحكم . فالواو فيها ليست عاطفة .
والقتور : الشديد البخل ، مشتق من القتر وهو التضييق في الإنفاق .