اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لَّوۡ أَنتُمۡ تَمۡلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحۡمَةِ رَبِّيٓ إِذٗا لَّأَمۡسَكۡتُمۡ خَشۡيَةَ ٱلۡإِنفَاقِۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ قَتُورٗا} (100)

اعلم أنَّ الكفار ، لما قالوا : لن نؤمن لك ؛ حتَّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً وطلبوا إجراء الأنهارِ ، والعيون في بلدهم لتكثر أموالهم ؛ بين أنَّهم لو ملكوا خزائن رحمة الله ، لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولا أقدموا على إيصال النفع إلى أحدٍ ، وعلى هذا التقدير : فلا فائدة في إسعافهم لما طلبوه .

قوله : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : - وإليه ذهب الزمخشري ، والحوفي ، وابن عطيَّة ، وأبو البقاء{[20724]} ، ومكيٌّ{[20725]}- : أن المسألة من باب الاشتغال ، ف " أنْتُمْ " مرفوع بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الظاهر ، لأنَّ " لَوْ " لا يليها إلا الفعل ، ظاهراً أو مضمراً ، فهي ك " إنْ " في قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 6 ] ، وفي قوله :

وإنْ هُوَ لمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمهَا *** فَليْسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ{[20726]}

والأصل : لو تملكون ، فحذف الفعل ؛ لدلالة ما بعده عليه ، فانفصل الضمير ، وهو الواو ؛ إذ لا يمكن بقاؤه متَّصلاً بعد حذف رافعه ، ومثله : " وإنْ هو لم يحمل " : الأصل : وإن لم يحمل ، فلما حذف الفعل ، انفصل ذلك الضميرُ المستتر ، وبرز ، ومثله فيما نحنُ فيه قول الشاعر :

" لوْ ذَاتُ سِوارٍ لطَمتْنِي " {[20727]} *** برفع " ذَاتُ " وقول المتلمِّس :

ولَوْ غَيْرُ أخْوالِي أرادُوا نَقِيصَتِي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20728]}

ف " ذَاتُ سوارٍ " مرفوعةٌ بفعل مفسَّر بالظاهر بعده .

الثاني : أنه مرفوع ب " كَانَ " وقد كثر حذفها بعد " لو " والتقدير : لو كنتم تملكون ، فحذف " كَانَ " ، فانفصل الضمير ، و " تَمْلكُونَ " في محلِّ نصبٍ ب " كَانَ " المحذوفةِ ، وهو قولُ ابن الصائغ ؛ وقريبٌ منه قوله : [ البسيط ]

أبَا خُرَاشةَ أمَّا أنْتَ ذَا نَفرٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20729]}

فإنَّ الأصل : لأن كنت ، فحذفت " كَانَ " ، فانفصل الضمير ، إلا أنَّ هنا عوِّض من " كَانَ " " ما " ، وفي [ " لَوْ " ] لم يعوَّض منها .

الثالث : أنَّ " أنتم " توكيدٌ لاسم " كانَ " المقدر معها ، والأصل " لَوْ كُنتمْ أنْتُم تَمْلكُونَ " فحذفت " كَانَ " واسمها ، وبقي المؤكِّدُ ، وهو قول ابن فضالٍ المجاشعيِّ ، وفيه نظرٌ ؛ من حيث إنَّا نحذف ما في التَّوكيد ، وإن كان سيبويه يجيزه{[20730]} .

وإنما أحوج هذين القائلين إلى ذلك : كون مذهب البصريِّين في " لَوْ " أنَّه لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً ، ولا يجوز عندهم أن يليها مضمراً مفسَّراً إلاَّ في ضرورة ، أو ندور ، كقوله : " لَو ذَات سوارٍ لطَمتْنِي " ، فإن قيل : هذان الوجهان أيضاً فيهما إضمار فعلٍ ، قيل : ليس هو الإضمار المعنيَّ ؛ فإنَّ الإضمار الذي أبوه هو على شريطة التفسير في غير " كان " ، وأمَّا " كان " فقد كثر حذفها بعد [ " لو " ] في مواضع كثيرة ، وقد وقع الاسم الصَّريحُ بعد " لَوْ " غير مذكور بعده فعلٌ ؛ وأنشد الفارسيُّ : [ الرمل ]

لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرقٌ *** كُنْتُ كالغصَّانِ بالمَاءِ اعْتِصَارِي{[20731]}

إلا أنه أخرجه على أنه مرفوع بفعل مقدَّر يفسِّره الوصف من قوله " شَرِقٌ " ، وقد تقدَّم الكلام في " لَوْ " . قال أهل المعاني : إنَّ التقديم بالذكر يدل على التَّخصيص ، فقوله : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } دليل على أنَّهم هم المختصُّون بهذه الحالة الخسيسة ، والشُّحِّ الكامل .

واعلم أنَّ خزائن رحمة الله غير متناهية ؛ فكان المعنى أنكم لو ملكتم من النِّعم خزائن لا نهاية لها ، لتقيمنَّ على الشحِّ ، وهذه مبالغة عظيمة في وصفهم بهذه الصفة .

قوله : " لأمْسَكْتُمْ " يجوز أن يكون لازماً ؛ لتضمنه معنى " بخِلتمْ " وأن يكون متعدِّياً ، ومفعوله محذوف ، أي : لأمسكتم المال ، ويجوز أن يكون كقوله { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] .

قوله : { خَشْيَةَ الإنفاق } فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول من أجله .

والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، قاله أبو البقاء ، أي : خاشين الإنفاق ، وفيه نظر ؛ إذ لا يقع المصدر المعرف موقع الحال ، إلا سماعاً ؛ نحو : " جَهْدكَ " و " طَاقَتكَ " ، وكقوله :

وأرْسلَهَا العِراكَ . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20732]}

ولا يقاس عليه ، والإنفاقُ مصدر " أنْفقَ " ، أي : أخرج المال ، وقال أبو عبيدة : " هو بمعنى الافتقار ، والإقتار " .

قوله : { خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي } ، أي : نعمة ربِّي .

{ إِذاً لأمْسَكْتُمْ } لبخلتم .

{ خَشْيَةَ الإنفاق } : الفاقة .

وقيل : خشية النفاق يقال : أنفق الرجل ، أي : أملق ، وذهب ماله ، ونفق الشَّرُّ ، أي : ذهب .

وقيل : لأمسكتم عن الإنفاق ؛ خشية الفقر ، ومعنى " قَتُوراً " : قال قتادة : بخيلاً ممسكاً{[20733]} .

يقال : أقْتَرَ يُقْتِرُ إقتاراً ، وقتَّر تَقْتِيراً : إذا قصَّر في الإنفاق .

فإن قيل : قد حصل في الإنسان الجواد ، والكريم .

فالجواب من وجوه :

الأول : أن الأصل في الإنسان البخلُ ؛ لأنَّه خلق محتاجاً ، والمحتاج لابد وأن يحبَّ ما به يدفع الحاجة ، وأن يمسكه لنفسه ، إلا أنَّه قد يجود به [ لأسبابٍ ]{[20734]} من خارج ، فثبت أنَّ الأصل في الإنسان البخلُ .

الثاني : أنَّ الإنسان إنَّما يبذلُ ؛ لطلب الحمدِ ، وليخرج من عهدة الواجب ، ثم للتَّقرُّب إلى الله تعالى ، فهو في الحقيقة إنَّما أنفق ليأخذ العوض ، فهو بخيلٌ ، والمراد بهذا الإنسان المعهود السَّابق ، وهم الذين قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90


[20724]:ينظر: الإملاء 2/97.
[20725]:ينظر: المشكل 2/34.
[20726]:تقدم.
[20727]:مثل عربي ينسب لحاتم وليس بشعر. ينظر: الجني الداني ص 279، جمهرة الأمثال 174، ومجمع الأمثال 2/122.
[20728]:البيت للمتلمس في ديوانه ص 29، الأصمعيات ص 245، خزانة الأدب 10/59، اللامات ص 128، تذكرة النحاة ص 490، لسان العرب "نقص، "وسم" ، والمقتضب 3/77، الدر المصون 4/422.
[20729]:البيت لعباس بن مرداس في ديوانه ص 128، والأشباه والنظائر 2/113، الاشتقاق ص 313، خزانة الأدب 4/13، 14/17، 200، 5/445، 6/536، 11/62، الدرر 2/91، شرح شذور الذهب ص 242، شرح شواهد الإيضاح ص 479، شرح شواهد المغني 1/116، 179، شرح قطر الندى ص 140، ولجرير في ديوانه 1/349، الخصائص 2/381، شرح المفصل 2/99، 8/132، والشعر والشعراء 1/341، الكتاب 1/293، لسان العرب (خرش)، (ضبع)، المقاصد النحوية 2/55، الأزهية ص 147، أمالي ابن الحاجب 1/411، 442، الإنصاف 1/71، أوضح المسالك 1/265، تخليص الشواهد ص 260، الجني الداني ص 528، جواهر الأدب 198، 416، 421، رصف المباني ص 99، 101، شرح الأشموني 1/119، شرح ابن عقيل ص 149، لسان العرب (أما) مغني اللبيب 1/35، المنصف 3/116، همع الهوامع 1/23، الدر المصون 4/422.
[20730]:ينظر: الكتاب 1/247.
[20731]:تقدم.
[20732]:البيت للبيد في ديوانه ص 86، وينظر: أساس البلاغة (نغص)، خزانة الأدب 3/192، شرح أبيات سيبويه 1/20، شرح التصريح 1/373، شرح المفصل 2/62، شرح ابن عقيل ص 324، الكتاب 1/372، لسان العرب (نغص)، (عرك)، (دخل)، المقاصد النحوية 3/219، الأشباه والنظائر 6/85، الإنصاف 2/822، جواهر الأدب ص 318، المقتضب 3/237، الدر المصون 4/423.
[20733]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/154) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/369) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي حاتم.
[20734]:سقط من أ.