البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُل لَّوۡ أَنتُمۡ تَمۡلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحۡمَةِ رَبِّيٓ إِذٗا لَّأَمۡسَكۡتُمۡ خَشۡيَةَ ٱلۡإِنفَاقِۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ قَتُورٗا} (100)

مناسبة قوله { قل لو أنتم تملكون خزائن } الآية أن المشركين قالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً .

فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم ، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد ، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية .

وقاله العسكري : والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن ، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله ، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحاً بذلك لا يطلب منهم أجراً ، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلاّ الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه ، فلا يصل منهم إليه إلاّ الأذى ، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه الله ، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال : لو ملكوا التصرف في { خزائن رحمة } الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة ، هذا مع ما أوتوه من الخزائن ، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه ، والمستقرأ في { لو } التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضياً وإما مضارعاً .

كقوله { لو نشاء لجعلناه حطاماً } أو منفياً بلم أو أن وهنا في قوله { قل لو أنتم تملكون } وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه ، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده ، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله : .

وإن هو لم يحمل على النفس ضميها . . .

التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو ، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار { أنتم } ، وهذا التخريج بناء على أن { لو } يليها الفعل ظاهراً ومضمراً في فصيح الكلام ، وهذا ليس بمذهب البصريين .

قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : لا تلي لو إلاّ الفعل ظاهر أو لا يليها مضمراً إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل : ما جاء في المثل من قولهم :

لو ذات سوار لطمتني . . .

وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ : البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح ، ويجيزونه شاذاً كقولهم :

لو ذات سوار لطمتني . . .

وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } فهو من باب الاشتغال انتهى .

وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان ، والتقدير { قل لو } كنتم { أنتم } تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي { أنتم } توكيداً لذلك الضمير المحذوف مع الفعل ، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلاً بها ، والتقدير { قل لو } كنتم { تملكون } فلما حذف الفعل انفصل المرفوع ، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد { لو } معهود في لسان العرب ، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه .

والكلام على { إذاً لأمسكتم } تقدم نظيره في قوله { إذاً لأذقناك } و { خشية } مفعول من أجله ، والظاهر أن { الإنفاق } على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف ، أي { خشية } عاقبة { الإنفاق } وهو النفاد .

وقال أبو عبيدة : أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد ، فيكون المعنى خشية الافتقار .

والقتور الممسك البخيل { والإنسان } هنا للجنس .

ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم { أرنا الله جهرة } إذ قالت قريش { أو تأتي بالله } وقالت { أو نرى ربنا } وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى لفرعون إذ أهلكه الله ومن معه .