محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قُل لَّوۡ أَنتُمۡ تَمۡلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحۡمَةِ رَبِّيٓ إِذٗا لَّأَمۡسَكۡتُمۡ خَشۡيَةَ ٱلۡإِنفَاقِۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ قَتُورٗا} (100)

وقوله تعالى :

[ 100 ] { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا 100 } .

{ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } أي رزقه وسائر نعمه على خلقه : { إذا لأمسكتم خشية الإنفاق } أي لبخلتم بها مخافة نفاذها بالإنفاق . مع أنها لا تفرغ ولا تنفذ أبدا . لأن هذا من طباعكم وسجاياكم . ولهذا قال سبحانه : { وكان الإنسان قتورا } أي بخيلا .

/ تنبيهات

الأول : هذه الآية بلغت بالمشركين ، من الوصف بالشح ، الغاية التي لا يبلغها الوهم ، كما قاله الزمخشريّ .

الثاني : ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه ؛ لأن المرء إما ممسك أو منفق . والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل ، إما دنيوي كعوض ماليّ ، أو معنوي كثناء جميل ، أو خدمة واستمتاع ، كما في النفقة على الأهل . وما كان لعوض ماليّ كان مبادلة لا مباذلة . أو هو بالنظر إلى الأغلب ، وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل :

عدّنا في زماننا *** عن حديث المكارم

من كفى الناس شرّه *** فهو في جود حاتم

أفاده الشهاب .

وقال ابن كثير : إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو . إلا من وفّقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له . كما قال تعالى{[5503]} : { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين } ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز .

الثالث : ذكر هذه الآية إثر ما قبلها ، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة ، وسعة كرمه وجوده وإحسانه . كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السماوات والأرض ، كي تنجلي لهم قدرته العظمى ، وسعة خزائنه الملأى . فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحقية ما يدعوهم إليه .

وذكر هذا المعنى في أسلوب بيان ما فطر عليه الإنسان ، تذكيرا له بنقصه وضعفه ، وإشفاقه وحرصه . ليعلم أنه غير مخلوق سدى ، يخلّى بينه وبين ما تتقاضاه به نفسه وهواه . والمعنى : أفلا تعتبرون بسعة رحمته وعميم فضله ، مما يبرهن على وحدانيته في ألوهيته ، / ولا ترون ما أنتم عليه من أنكم لو ملكتم ما لا نفاد له من خزائنه ، لضننتم بها . مما يدلكم على أنه هو مالك الملك ، وأنكم مسخّرون لأمره . وهذه الآية كقوله تعالى{[5504]} : { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله ، لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير . وقد جاء في ( الصحيحين ) {[5505]} : " يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه "


[5503]:[70/ المعارج / 19- 22].
[5504]:[4 / النساء / 53].
[5505]:أخرجه البخاري في: 97- كتاب التوحيد، 19- باب حدثنا معاذ بن فضالة حديث 2012، عن أبي هريرة. = وأخرجه مسلم في: 12- كتاب الزكاة، حديث رقم 36 و 37 (طبعتنا).