الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُل لَّوۡ أَنتُمۡ تَمۡلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحۡمَةِ رَبِّيٓ إِذٗا لَّأَمۡسَكۡتُمۡ خَشۡيَةَ ٱلۡإِنفَاقِۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ قَتُورٗا} (100)

قوله تعالى : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وإليه ذهب الزمخشري والحوفي وابن عطية وأبو البقاء ومكي - أن المسألة من بابِ الاشتغال ، ف " أنتم " مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ ، لأنَّ " لو " لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً ، فهي ك " إنْ " في قولِه تعالى :

{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 6 ] وفي قوله :

وإن هو لم يَحْمِلْ على النفس ضَيْمَها *** فليس إلى حُسْنِ الثَّناء سبيلُ

والأصل : لو تملكون ، فحذف الفعلَ لدلالةِ ما بعده عليه فانفصل الضميرُ وهو الواوُ ؛ إذ لا يمكن بقاؤُه متصلاً بعد حَذْف رافِعِه . ومثلُه : " وإن هو لم يَحْمِلْ " الأصلُ : وإن لم يَحْمل ، فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل ذلك الضميرُ المستتر وبَرَزَ ، ومثلُه فيما نحن فيه قولُ الشاعر : لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْني " ، وقولُ المتلمس :

ولو غيرُ أَخْوالي أرادُوا نَقِيْصَتي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ف " ذاتُ سوار " مرفوعةٌ بفعلٍ مفسَّرٍ بالظاهرِ بعده .

الثاني : أنه مرفوعٌ ب " كان " وقد كَثُر حَذْفُها بعد " لو " والتقدير : لو كنتم تملكون ، فَحُذِفَتْ " كان " فانفصل الضمير ، و " تملكون " في محلِّ نصبٍ ب " كان " وهو قولُ ابنِ الصائغِ . وقريبٌ منه قولُه :

أبا خُراشَةَ أمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فإنَّ الأصلَ : لأَنْ كنتَ ، فحُذِفَتْ " كان " فانفصل الضمير إلا أنَّ هنا عُوِّض مِنْ " كان " " ما " ، وفي " لو " لم يُعَوَّض منها .

الثالث : أنَّ " أنتم " توكيدٌ لاسمِ " كان " المقدرِ معها ، والأصلُ " لو كنتم أنتم تملِكُون " فَحُذِفَتْ " كان " واسمها وبقي المؤكِّد ، وهو قولُ ابن فضَّال المجاشعي . وفيه نظرٌ من حيث إنَّا نحذِفُ ما في التوكيد ، وإن كان سيبويه يُجيزه .

وإنما أحوجَ هذين القائلَيْن إلى ذلك : كونُ مذهب البصريين في " لو " أنَّه لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً ، ولا يجوز عندهم أَنْ يليَها مضمراً مفسِّراً إلى في ضرورةٍ أو ندورٍ كقوله : " لو ذاتَ سِوَارٍ لطمَتْني " . فإن قيل : هذان الوجهان : أيضاً فيهما إضمار فعلٍ . قيل : ليس هو الإِضمارَ المَعْنِيَّ ؛ فإنَّ الإِضمارَ الذي أَبَوْه على شريطةِ التفسير في غير " كان " ، وأمَّا " كان " فقد كَثُر حَذْفُها بعد " لو " في مواضعَ كثيرةٍ . وقد وقع الاسمُ الصريحُ بعد " لو " غيرَ مذكورٍ بعده فعلٌ ، أنشد الفارسي :

لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ *** كنت كالغصَّانِ بالماءِ اعتصاري

إلا أنه خرَّجه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره الوصفُ مِنْ قولِه " شَرِقٌ " . وقد تقدَّم تحقيق القول في " لو " فلنقتصِرْ على هذا .

قوله : { لأمْسَكْتُمْ } يجوز أن يكونَ لازماً لتضمُّنِه معنى بَخَلْتُمْ ، وأن يكونَ متعدِّياً ، ومفعولُه محذوفٌ ، لأَمْسَكْتُم المال ، ويجوز أن يكونَ كقولِه { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] .

قوله : { خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ } فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مفعولٌ مِنْ أجله .

والثاني : أنه مصدرٌ في موضع الحال ، قاله أبو البقاء ، أي : خاشِين الإِنفاقَ . وفيه نظرٌ ؛ إذ لا يقع المصدرُ المعرَّفُ موقعَ الحالِ إلا سماعاً نحو : " جَهْدَك " و " طاقتَك " و [ كقوله : ]

وأرسلها العِراك . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولا يُقاسُ عليه . والإِنفاقُ مصدرُ أنفق ، أي : أَخْرَجَ المالَ . وقال أبو عبيدة : " وهو بمعنى الافتقار والإِقتار " .