قوله تعالى : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } قال الكوفيون : هذه الواو زائدة حتى تكون جواباً لقوله :{ حتى إذا جاؤوها } كما في سوق الكفار ، وهذا كما قال الله تعالى : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء } ( الأنبياء-105 ) أي : ضياء والواو زائدة . وقيل : " الواو " واو الحال ، مجازه وقد فتحت أبوابها فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم ، وحذفها في الآية الأولى ، لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم ، فإذا لم تجعل " الواو " زائدة في قوله : { وفتحت أبوابها } اختلفوا في جواب قوله حتى إذا قيل : جوابه قوله :{ جاؤوها } { وقال لهم خزنتها } والواو فيه ملغاة تقديره حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها . وقال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف ، تقديره :{ حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } { وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } دخلوها فحذف لدلالة الكلام عليه . { وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم } يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليهم ، ويقولون : طبتم ، قال ابن عباس : طاب لكم المقام ، قال قتادة : إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا أدخلوا الجنة . فقال لهم رضوان وأصحابه : { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } . وروي عن علي عليه السلام قال : سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان ، فيغتسل المؤمن من إحداهما ، فيطهر ظاهره ، ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه ، وتلقفه الملائكة على أبواب الجنة ، يقولون : { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } .
ثم قال عن أهل الجنة : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ } بتوحيده والعمل بطاعته ، سوق إكرام وإعزاز ، يحشرون وفدا على النجائب . { إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } فرحين مستبشرين ، كل زمرة مع الزمرة ، التي تناسب عملها وتشاكله . { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا } أي : وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل الأنيقة ، وهبَّ عليهم ريحها ونسيمها ، وآن خلودها ونعيمها . { وَفُتِحَتْ } لهم { أَبْوَابُهَا } فتح إكرام ، لكرام الخلق ، ليكرموا فيها . { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } تهنئة لهم وترحيبا : { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي : سلام من كل آفة وشر حال . عليكم { طِبْتُمْ } أي : طابت قلوبكم بمعرفة اللّه ومحبته وخشيته ، وألسنتكم بذكره ، وجوارحكم بطاعته . { ف } بسبب طيبكم { ادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } لأنها الدار الطيبة ، ولا يليق بها إلا الطيبون .
وقال في النار { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } وفي الجنة { وَفُتِحَتْ } بالواو ، إشارة إلى أن أهل النار ، بمجرد وصولهم إليها ، فتحت لهم أبوابها من غير إنظار ولا إمهال ، وليكون فتحها في وجوههم ، وعلى وصولهم ، أعظم لحرها ، وأشد لعذابها .
وأما الجنة ، فإنها الدار العالية الغالية ، التي لا يوصل إليها ولا ينالها كل أحد ، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها ، ومع ذلك ، فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه ، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها ، بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، حتى يشفع ، فيشفعه اللّه تعالى .
وفي الآيات دليل على أن النار والجنة لهما أبواب تفتح وتغلق ، وأن لكل منهما خزنة ، وهما الداران الخالصتان ، اللتان لا يدخل فيهما إلا من استحقهما ، بخلاف سائر الأمكنة والدور .
وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة { زُمَرًا } أي : جماعة بعد جماعة : المقربون ، ثم الأبرار ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم : الأنبياء مع الأنبياء والصديقون مع أشكالهم ، والشهداء مع أضرابهم ، والعلماء مع أقرانهم ، وكل صنف مع صنف ، كل زمرة تناسب بعضها بعضا .
{ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا } أي : وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة ، وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين إذا انتهوا إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم بالدخول ، فيقصدون ، آدم ، ثم نوحا ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم محمدا ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، كما فعلوا في العرصات{[25315]} عند استشفاعهم إلى الله ، عز وجل ، أن يأتي لفصل القضاء ، ليظهر شرف محمد صلى الله عليه وسلم على سائر البشر في المواطن كلها .
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول شفيع في الجنة " وفي لفظ لمسلم : " وأنا أول من يقرع باب الجنة " . {[25316]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح ، فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد . قال : يقول : بك أُمِرْتُ ألا أفتح لأحد قبلك " .
ورواه مسلم عن عمرو{[25317]} الناقد وزهير بن حرب ، كلاهما عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن سليمان - وهو ابن المغيرة القيسي - عن ثابت ، عن أنس ، به{[25318]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة{[25319]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول زمرة تلج{[25320]} الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر ، لا يبصقون فيها ، ولا يمتخطون فيها ، ولا يتغوطون فيها . آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ، ومجامرهم الألوة{[25321]} ، ورشحهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان ، يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن . لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب واحد{[25322]} يسبحون الله بكرة وعشيا " .
رواه البخاري عن محمد بن مقاتل ، عن ابن المبارك . ورواه مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، كلاهما عن معمر بإسناده نحوه {[25323]} . وكذا رواه أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[25324]} ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{[25325]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمة ، حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعَة ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[25326]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول زُمْرَة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشدُّ كوكب دُرِّي في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتْفلون ولا يمتخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ، ومجامرهم الألوة ، وأزواجهم الحور العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ، ستون ذراعا في السماء " {[25327]} .
وأخرجاه أيضا من حديث جرير{[25328]} .
وقال الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل الجنة من أمتي زُمْرَة ، هم سبعون ألفا ، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " . فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن فقال : يا رسول الله ادع الله ، أن يجعلني منهم : فقال : " اللهم اجعله منهم " . ثم قام رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . فقال صلى الله عليه وسلم : " سبقك بها عُكَّاشة " .
أخرجاه{[25329]} {[25330]} وقد روى هذا الحديث - في السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب - البخاري ومسلم ، عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وعمران بن حصين ، وابن مسعود ، ورفاعة بن عرابة الجهني ، وأم قيس بنت محصن .
ولهما عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا - أو : سبعمائة ألف - آخذٌ بعضهم ببعض ، حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة ، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر " . {[25331]} .
وقال{[25332]} أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد قال : سمعت أبا أمامة {[25333]} الباهلي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وعدني ربي ، عز وجل ، أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا ، مع كل ألف سبعون ألفا ، ولا حساب عليهم ولا عذاب ، وثلاث حَثَيَات من حثيات ربي عز وجل " {[25334]} .
وكذا رواه الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو ، عن سليم بن عامر [ و ] {[25335]} أبي اليمان عامر بن عبد الله بن لحُيّ{[25336]} عن أبي أمامة [ رضي الله عنه ] {[25337]} {[25338]} .
ورواه الطبراني ، عن عتبة بن عَبْدٍ السُّلمي : " ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفا " {[25339]} .
وروى مثله ، عن ثوبان وأبي سعيد الأنماري ، وله شواهد من وجوه كثيرة .
وقوله : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } لم يذكر الجواب هاهنا ، وتقديره : حتى إذا جاءوها ، وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم إكراما وتعظيما ، وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء ، لا كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب{[25340]} والتأنيب ، فتقديره : إذا كان هذا سَعِدوا وطابوا ، وسُرّوا وفرحوا ، بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم . وإذا حذف الجواب هاهنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل .
ومن زعم أن " الواو " في قوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } واو الثمانية ، واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية ، فقد أبعد النّجْعَة وأغرق في النزع . وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث الصحيحة .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن{[25341]} ، عن أبي هريرة{[25342]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ، دعي من أبواب الجنة ، وللجنة أبواب{[25343]} ، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان " فقال أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ، ما على أحد من ضرورة دُعي ، من أيها{[25344]} دعي ، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، وأرجو أن تكون منهم " .
ورواه البخاري ومسلم ، من حديث الزهري ، بنحوه{[25345]} .
وفيهما من حديث أبي حازم سلمة بن دينار{[25346]} ، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة ثمانية أبواب ، باب منها يسمى الريان ، لا يدخله إلا الصائمون " {[25347]} .
وفي صحيح مسلم ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو : فيسبغ الوضوء - ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء " . {[25348]} .
وقال{[25349]} الحسن بن عرفة : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حُسَين ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن معاذ ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مفتاح الجنة : لا إله إلا الله " {[25350]} .
ذكر سعة أبواب الجنة - نسأل الله العظيم من فضله أن يجعلنا من أهلها- :
في الصحيحين من حديث أبي زُرْعَة ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[25351]} في حديث الشفاعة الطويل : " فيقول الله{[25352]} يا محمد ، أدخل من لا حساب عليه{[25353]} .
من أمتك من الباب الأيمن ، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر . والذي نفس محمد بيده ، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة - ما بين عضادتي الباب - لكما بين مكة وهجر - أو هجر ومكة " . وفي رواية : " مكة وبصرى " {[25354]} .
وفي صحيح مسلم ، عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها : " ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة ، مسيرة أربعين سنة ، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام " {[25355]} .
وفي المسند عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله{[25356]} .
وقال عبد بن حميد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ما بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة " {[25357]} .
وقوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أي : طابت أعمالكم وأقوالكم ، وطاب سعيكم فطاب جزاؤكم ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات : " إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة " وفي رواية : " مؤمنة " . {[25358]} .
وقوله : { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } أي : ماكثين فيها أبدا ، لا يبغون عنها حولا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وحُشر الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه في الدنيا ، وأخلصوا له فيها الألوهة ، وأفردوا له العبادة ، فلم يشركوا في عبادتهم إياه شيئا إلى الجَنّةِ زُمَرا يعني جماعات ، فكان سوق هؤلاء إلى منازلهم من الجنة وفدا على ما قد بيّنا قبل في سورة مريم على نجائب من نجائب الجنة ، وسوق الاَخرين إلى النار دعّا ووردا ، كما قال الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . وقد ذكر ذلك في أماكنه من هذا الكتاب . وقد :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنّمَ زُمَرا ، وفي قوله : وَسِيقَ الّذِينَ اتّقُوا رَبّهُمْ إلى الجَنّةِ زُمَرا قال : كان سوق أولئك عنفا وتعبا ودفعا ، وقرأ : يَوْمَ يُدَعّونَ إلى نارِ جَهَنّمَ دَعّا قال : يدفعون دفعا ، وقرأ : فَذلِكَ الّذي يَدُعّ اليَتِيمَ قال : يدفعه ، وقرأ ونَسُوقُ المُجْرِمينَ إلى جَهَنّمَ وِرْدا و ونَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا ثم قال : فهؤلاء وفد الله .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا شريك بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه قوله : وَسِيقَ الّذِينَ اتّقُوا رَبّهُمْ إلى الجَنّةِ زُمَرا حتى إذا انتهوا إلى بابها ، إذا هم بشجرة يخرج من أصلها عينان ، فعمدوا إلى إحداهما ، فشربوا منها كأنما أمروا بها ، فخرج ما في بطونهم من قذر أو أذى أو قذى ، ثم عمدوا إلى الأخرى ، فتوضّؤا منها كأنما أُمروا به ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبدا ولن تبلى ثيابهم بعدها ، ثم دخلوا الجنة ، فتلقتهم الولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون ، فيقولون : أبشر ، أعدّ الله لك كذا ، وأعدّ لك كذا وكذا ، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه جندل اللؤلؤ الأحمر والأصفر والأخضر ، يتلألأ كأنه البرق ، فلولا أن الله قضى أن لا يذهب بصره لذهب ، ثم يأتي بعضهم إلى بعض أزواجه ، فيقول : أبشري قد قدم فلان ابن فلان ، فيسميه باسمه واسم أبيه ، فتقول : أنت رأيته ، أنت رأيته فيستخفها الفرح حتى تقوم ، فتجلس على أسكفة بابها ، فيدخل فيتكىء على سريره ، ويقرأ هذه الاَية : الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدانا لِهَذا وَما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدانا اللّهُ . . . الاَية .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذكر أبو إسحاق عن الحارث ، عن عليّ رضي الله عنه قال : يساقون إلى الجنة ، فينتهون إليها ، فيجدون عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان تجريان ، فيعمدون إلى إحداهما ، فيغتسلون منها ، فتجري عليهم نضرة النعيم ، فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبدا ، ولن تغبر جلودهم بعدها أبدا ، كأنما دهنوا بالدهان ويعمدون إلى الأخرى ، فيشربون منها ، فيذهب ما في بطونهم من قذى أو أذى ، ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون ، فيفتح لهم ، فتتلقاهم خزنة الجنة فيقولون سلاَمٌ عَلَيْكُم ادْخُلُوا الجَنّةَ بِما كنتم تَعْمَلُونَ قال : وتتلقاهم الولدان المخلدون ، يطيفون بهم كما تطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم إذا جاء من الغيبة ، يقولون : أبشر أعدّ الله لك كذا ، وأعدّ لك كذا ، فينطلق أحدهم إلى زوجته ، فيبشرها به ، فيقول : قدم فلان باسمه الذي كان يسمى به في الدنيا ، وقال : فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ، وتقول : أنت رأيته ، أنت رأيته ؟ قال : فيقول : نعم ، قال : فيجيء حتى يأتي منزله ، فإذا أصوله من جندل اللؤلؤ من بين أصفر وأحمر وأخضر ، قال : فيدخل فإذا الأكواب موضوعة ، والنمارق مصفوفة ، والزرابيّ مبثوثة قال : ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين ، فلولا أن الله أعدّها له لالتمع بصره من نورها وحسنها قال : فاتكأ عند ذلك ويقول : الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدانا لهَذَا وَما كُنّا لِنَهْتَديَ لَوْلاَ أنْ هَدانا اللّهُ قال : فتناديهم الملائكة : أنْ تِلْكُمُ الجَنّةُ أوُرِثْتمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، قال : ذكر السديّ نحوه أيضا ، غير أنه قال : لهو أهدى إلى منزله في الجنة منه إلى منزله في الدنيا ، ثم قرأ السديّ : وَيُدْخِلُهُمُ الجَنّةَ عَرّفَها لهُمْ .
واختلف أهل العربية في موضع جواب «إذا » التي في قوله حتى إذَا جاءُوها فقال بعض نحويي البصرة : يقال إن قوله وَقالَ لَهُم خَزَنَتُها في معنى : قال لهم ، كأنه يلغي الواو ، وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة ، كما قال الشاعر :
فإذَا وَذلكَ يا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ *** إلاّ تَوَهّمَ حالِمٍ بِخَيالِ
فيشبه أن يكون يريد : فإذا ذلك لم يكن . قال : وقال بعضهم : فأضمر الخبر ، وإضمار الخبر أيضا أحسن في الاَية ، وإضمار الخبر في الكلام كثير . وقال آخر منهم : هو مكفوف عن خبره ، قال : والعرب تفعل مثل هذا قال عبد مَناف بن ربع في آخر قصيدة :
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدِهِ *** شَلاّ كما تَطْرُدُ الجَمّالَةُ الشّرُدا
خَلا أنّ حيّا منْ قُرَيْشٍ تَفَضّلوا *** على النّاسِ أوْ أنّ الأكارِمَ نَهْشَلا
وقال بعض نحويّي الكوفة : أدخلت في حتى إذا وفي فلما ، الواو في جوابها وأخرجت ، فأما من أخرجها فلا شيء فيه ، ومن أدخلها شبه الأوائل بالتعجب ، فجعل الثاني نسقا على الأوّل ، وإن كان الثاني جوابا كأنه قال : أتعجب لهذا وهذا .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : الجواب متروك ، وإن كان القول الاَخر غير مدفوع ، وذلك أن قوله : وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادْخُلُوها خالِدِينَ يدلّ على أن في الكلام متروكا ، إذ كان عقيبه وَقالُوا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدّقَنا وَعْدَهُ وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : حتى إذا جاؤوا وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ، دخلوها وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده . وعني بقوله سَلامٌ عَلَيْكُمْ : أمنة من الله لكم أن ينالكم بعدُ مكروه أو أذى . وقوله طِبْتُمْ يقول : طابت أعمالكم في الدنيا ، فطاب اليوم مثواكم . وكان مجاهد يقول في ذلك ما :
حدثنا محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : طِبْتُمْ قال : كنتم طيبين في طاعة الله .
{ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة } إسراعا بهم إلى دار الكرامة ، وقيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين . { زمرا } على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة . { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف ، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين ، وقرأ الكوفيون " فتحت " بالتخفيف . { وقال لهم خزنتها سلام عليكم } لا يعتريكم بعد مكروه . { طبتم } طهرتم من دنس المعاصي . { فادخلوها خالدين } مقدرين الخلود فيها ، والفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم وخلودهم ، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره .
قوله : { الذين اتقوا ربهم } لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذي اتقوا الشرك ، لأن الذين لم يتقوا المعاصي قد يساق منهم زمر وهم الذي سبق لهم أن يغفر الله لهم من أهل المشيئة ، وأيضاً فالذين يدخلون النار ثم يخرجون منها قد يساقون زمراً إلى الجنة بعد ذلك فيصيرون من أهل هذه الآية ، والواو في قوله : { وفتحت } مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها ، وقد قالت فرقة : هي زائدة . وجواب { إذا } ، { فتحت } ، وقال الزجاج عن المبرد : جواب { إذا } محذوف ، تقديره بعد قوله : { خالدين } فيها سعدوا{[9939]} . وقال الخليل : الجواب محذوف تقديره : حتى جاؤوها وفتحت أبوابها ، وهذا كما قدر الخليل قول الله تعالى :
{ فلما أسلما وتله للجبين }{[9940]} [ الصافات : 103 ] وكما قدر أيضاً قول امرىء القيس : [ الطويل ]
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى . . . {[9941]}
أي أجزنا وانتحى . وقال قوم : أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم : هذه واو الثمانية مستوعباً في سورة الكهف ، وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود فهي كالأولى . و { سلام عليكم } تحية . ويحتمل أن يريد أنهم قالوا لهم سلام عليكم وأمنة لكم . و : { طبتم } معناه : أعمالاً ومعتقداً ومستقراً وجزاء .
أطلق على تَقْدِمَة المتقين إلى الجنة فعلُ السَّوق على طريقة المشاكلة ل { سيقَ } [ الزمر : 71 ] الأولِ ، والمشاكلةُ من المحسنات ، وهي عند التحقيق من قبيل الاستعارة التي لا علاقة لها إلاّ المشابهة الجُملية التي تحمل عليها مجانسة اللفظ . وجَعلهم زُمراً بحسب مراتب التقوى .
والواو في جملة { وفتحت أبوابها } واو الحال ، أي حين جاءوها وقد فتحت أبوابها فوجدوا الأبواب مفتوحة على ما هو الشأن في اقتبال أهل الكرامة .
وقد وهِم في هذه الواو بعض النحاة مثل ابن خالويه والحريري وتبعهما الثعلبي في « تفسيره » فزعموا أنها واو تدخل على ما هو ثامن إمّا لأن فيه مادة ثمانية كقوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] ، فقالوا في { وفُتحَت أبوابها } جيء بالواو لأن أبْواب الجنة ثمانية ، وإما لأنه ثامن في التعداد نحو قوله تعالى : { التائبون العابدون } إلى قوله : { والناهون عن المنكر } [ التوبة : 112 ] فإنه الوصف الثامن في التعداد ووقوع هذه الواوات مُصادفة غريبة ، وتنبُّه أولئك إلى تلك المصادفة تنبه لطيف ولكنه لا طائل تحته في معاني القرآن بَلْهَ بلاغتِه ، وقد زينه ابن هشام في « مغني اللبيب » ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { التائبون العابدون } في سورة [ التوبة : 112 ] وعند قوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } في سورة [ الكهف : 22 ] .
( و { إذا } هنا لمجرد الزمان غير مضمنة معنى الشرط ، فالتقدير : حتّى زمننِ مجيئهم إلى أبواب الجنة ، أي خلَّتهم الملائكة الموكلون بإحفافهم عند أبواب الجنة ، كحالة من يُهدي العروس إلى بيتها فإذا أَبلغها بابه خَلَّى بينها وبين بيتها ، كأنهم يقولون : هذا منزلكم فدونكموه ، فتلقتهم خزنة الجنة بالسلام .
و { طبتم } دعاء بالطيب لهم ، أي التزكية وطيب الحالة ، والجملة إنشاء تكريم ودعاء .
والخلاف بين القراء في { فتحت } هنا كالخلاف في نظيره المذكور آنفاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} يعني أفواجا.
{حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} وأبواب الجنة ثمانية مفتحة أبدا.
{وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} لا يموتون فيها.
- السيوطي: أخرج مالك عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة. ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد". فقال: أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله: فهل يدعى منها كلها؟ قال: "نعم وأرجو أن تكون منهم".
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وحُشر الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في الدنيا، وأخلصوا له فيها الألوهة، وأفردوا له العبادة، فلم يشركوا في عبادتهم إياه شيئا "إلى الجَنّةِ زُمَرا "يعني جماعات، فكان سوق هؤلاء إلى منازلهم من الجنة وفدا على ما قد بيّنا قبل في سورة مريم على نجائب من نجائب الجنة، وسوق الآخرين إلى النار دعّا ووردا، كما قال الله...
فمعنى الكلام: حتى إذا جاؤوا وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، دخلوها وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده. وعني بقوله: "سَلامٌ عَلَيْكُمْ": أمنة من الله لكم أن ينالكم بعدُ مكروه أو أذى. وقوله "طِبْتُمْ" يقول: طابت أعمالكم في الدنيا، فطاب اليوم مثواكم... عن مجاهد، قوله: "طِبْتُمْ" قال: كنتم طيبين في طاعة الله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سَوّقٌ ولكن بغير تعبٍ ولا نَصَبٍ، سَوْقٌ ولكن برَوْحٍ وطَرَبٍ. "زمراً"...
{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا...} وإذا وافوا الجنة تكون الأبوابُ مُفَتَّحَةً لئلا يصيبهم نَصَبُ الانتظار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جعل دخول الجنة مسبباً عن الطيب والطهارة، فما هي إلاّ دار الطيبين ومثوى الطاهرين؛ لأنها دار طهرها الله من كل دنس، وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلاّ مناسب لها موصوف بصفتها، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة، وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة، إلاّ أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحاً، تنقّي أنفسنا من درن الذنوب، وتميط وضر هذه القلوب...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
إن الملائكة تسوق أهل النار إليها، وأبوابها مغلقة، حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم، فيفجؤهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة. فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط: أن يكون عقيبه. والنار دار الإهانة والخزي، فلم يستأذن لهم في دخولها، ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول.
وأما الجنة فإنها دار الله، ودار كرامته، ومحل خواصه وأوليائه، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة، فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله، وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم. فيقول صلى الله عليه وسلم: «أنا لها» فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعه ما شاء الله أن يدعه، ثم يأذن له في رفع رأسه، وان يسأله حاجته، فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها، فيشفعه، ويفتحها تعظيما لخاطره، وإظهارا لمنزلة رسوله صلى الله عليه وسلم وكرامته عليه، وأن مثل هذه الدار هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة، التي أولها من حين عَقَل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها، وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة، حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله، وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم. وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك، لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء. فجنة الله عالية غالية، وبين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به. فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار؟ فليعد عنها إلى ما هو أولى به. وقد خلق له وهيئ له.
وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا: من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم، كل زمرة على حده، كمشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم، مستبشرين أقوياء القلوب، كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير كذلك يؤنس بعضهم بعضا، ويفرح بعضهم ببعض. وكذلك أصحاب الدار الأخرى: يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم بعضا، ويتأذى بعضهم ببعض. وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة. من أن يساقوا واحدا واحدا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم، دل على ذلك بقوله: {الذين اتقوا} أي لا جميع المؤمنين {ربهم} أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، فقيل: ما أطول هذا اليوم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة" وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تجتمعون يوم القيامة "-فذكر الحديث حتى قال: "قالوا: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار "
ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين.
{إلى الجنة زمراً} أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة، وأهل الصوم كذلك- إلى غير ذلك من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه...
ولما ذكر السوق، ذكر غايته بقوله: {حتى إذا جاءوها}.
ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار، فقال عطفاً على جواب" إذا "بما تقديره: تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم: {وقال لهم خزنتها} أي حين الوصول: {سلام عليكم} تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها.
ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا: {طبتم} أي صلحتم لسكناها، فلا تحول لكم عنها أصلاً، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب، فلا يدخلها إلا مناسب لها، قولهم: {فادخلوها} فأنتج ذلك {خالدين} ولعل فائدة الحذف لجواب" إذا "أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أطلق على تَقْدِمَة المتقين إلى الجنة فعلُ السَّوق على طريقة المشاكلة ل {سيقَ} [الزمر: 71] الأولِ، والمشاكلةُ من المحسنات، وهي عند التحقيق من قبيل الاستعارة التي لا علاقة لها إلاّ المشابهة الجُملية التي تحمل عليها مجانسة اللفظ. وجَعلهم زُمراً بحسب مراتب التقوى...
(و {إذا} هنا لمجرد الزمان غير مضمنة معنى الشرط، فالتقدير: حتّى زمنِ مجيئهم إلى أبواب الجنة، أي خلَّتهم الملائكة الموكلون بإحفافهم عند أبواب الجنة، كحالة من يُهدي العروس إلى بيتها فإذا أَبلغها بابه خَلَّى بينها وبين بيتها، كأنهم يقولون: هذا منزلكم فدونكموه، فتلقتهم خزنة الجنة بالسلام.
هنا أيضاً ساقتهم الملائكة مع الفارق بين سَوْق الكافرين وسَوْق المتقين، فالكافرون ساقتهم الملائكة ليعجلوا لهم العذاب سَوْقاً فيه زجر وقسوة، أما المتقون فيُساقون سَوْق المحب لحبيبه ليعجلوا لهم النعيم.
وقوله (زمراً) يعني: جماعات كل جماعة على حِدَة، فهؤلاء الزهاد وهؤلاء العلماء وهؤلاء المجاهدون وهؤلاء الأمناء {حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا..} [الزمر: 73] هناك قال (فًتِحَتْ) وهنا (وَفُتِحَتْ) قالوا في أهل النار (فُتِحَتْ) هي جواب الشرط، أما هنا (وَفَتِحَتْ) ليستْ جواباً للشرط، بل جواب الشرط في النعيم المذكور بعدها، لأن فتح الأبواب ليس هو الغاية، إنما الغاية ما يتبع ذلك من النعيم.
فالواو هنا عاطفة وجملة {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا..} [الزمر: 73] معطوفة على {حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا..} [الزمر: 73] ذلك لأن المؤمنين ما كانوا يشكّون في هذا اليوم، أما الكفّار فيشكونَ فيه لذلك جعل {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا..} [الزمر: 71] جواباً للشرط قبلها.
أما في المتقين فجواب الشرط أسمى من مجرد فتح الأبواب لهم، ففتحت هذه مداخل الرحمة التي سيذكرها بعد، ويذكر مكوناتها، وكيف أنها تتدرج بداية من تحية الملائكة لهم: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ..} [الزمر: 73] لأنكم طهرتم أنفسكم من دنس المعاصي والشرك {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] إلى آخر السورة، حيث يروْنَ الملائكة حافّين من حول العرش، وهذا هو جواب الشرط الذي يليق بهم.
جماعة أخرى من العلماء قالوا: إن جواب الشرط هو (وفتحت) والواو هذه واو الثمانية، فما المراد بواو الثمانية؟ قالوا: كان منتهى العدد عند العرب سبعة، فإذا جاء شيء بعد السبعة يعدُّونه كلاماً جديداً فيعطفونه بالواو، ومن ذلك قوله تعالى في أهل الكهف: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ..} [الكهف: 22] فقبل الثامن يذكر الواو.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] فكلمة الناهون هي الثامنة لذلك سُبقت بالواو...
ونحن لا نرى هذا الرأي، فكلمة (وَفُتِحَتْ) ليستْ هي جواب الشرط هنا، لأن جواب الشرط بالنسبة للمتقين أسمى من فتح الأبواب لهم وأسمى من قَوْل الملائكة لهم {سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ..} [الزمر: 73] وأسمى من {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] لأن الحق سبحانه سيقول بعد ذلك: {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ..} [الزمر: 75] فذكر العرش هنا والملائكة تطوف به مُسبِّحة بحمد ربهم فيه إِشارة إلى منتهى النعيم الذي سيلاقيه المتقون، حيث يروْنَ الحق سبحانه الذي استوى على هذا العرش، هذه هي الغاية التي يناسب أن تكون جواباً للشرط السابق.
لكن لماذا أخفى اللهُ جوابَ الشرط هكذا؟ قالوا: لأنه لو قالها أي:"فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" لو قالها الآن لكانت قد سمعت، إنما أراد سبحانه أن تكون مفاجأة على أنها مما لا يخطر على قلب بشر، يعني: لا تأتي على البال.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
نقطة أخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أُولئك عليهم، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه؛ إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف.