فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَٰلِدِينَ} (73)

ولما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم زمرا ذكر هنا حال المتقين ، وسوقهم إلى الجنة فقال :

{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } أي ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم ، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان ، كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك والمراد بالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب بالهوان كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل ، فشتان ما بين السوقين .

وهذا من بدائع أنواع البديع ، وهو أن يأتي سبحانه وتعالى بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم وعقابهم ، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم ، فسبحان من أنزل معجز المباني ، متمكن المعاني ، عذب الموارد والمثاني قيل الكلام على حذف مضاف ، أي : سيقت مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين وقد سبق معنى الزمر أي جماعات أهل الصلاة على حدة ، وأهل الصوم كذلك إلى غير ذلك .

{ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } جواب إذا محذوف ، قال المبرد : تقديره سعدوا وفتحت ، وقال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير حتى إذا جاءوها كانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخلوها وحذف لأن في الكلام دليلا عليه . وقال الأخفش والكوفيون : الجواب فتحت والواو زائدة وهو خطأ عند البصريين لأن الواو من حروف المعاني فلا تزاد .

وقيل إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله والتقدير حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } وحذفت الواو في قصة أهل النار لأنهم وقفوا على النار ، وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا . ذكر معناه النحاس منسوبا إلى بعض أهل العلم قال : ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد ، وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد ، أي : جاؤوها وقد فتحت لهم الأبواب . وقيل : إنها واو الثمانية ، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد خمسة ستة سبعة وثمانية ، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى ، وفي سورة الكهف أيضا .

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة ) {[1453]} وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب الريان ، لا يدخله إلا الصائمون " ، وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أحاديث في الصحيحين وغيرهما ، وكتابنا ( مثير ساكن الغرام ، إلى روضات دار السلام ) هو أحسن ما جمع في أحوال الجنة فليرجع إليه وليعول عليه ، ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال :

{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي سلامة لكم من كل آفة ، لا يعتريكم بعده مكروه { طِبْتُمْ } وطهرتم في الدنيا ، فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي . قال مجاهد طبتم بطاعة الله ، وقيل بالعمل الصالح ، والمعنى واحد وقيل طاب لكم المقام وقيل طابت حالكم وحسنت وجعل دخول الجنة مسببا عن الطيب والطهارة لأنها دار الطيبين ، ومثوى الطاهرين ، وقد طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل قذر ، فلا يدخلها إلا مناسب لها ، موصوف بصفتها .

قال مقاتل إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فتقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم ، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه سلام عليكم الآية ، وقد أخرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري وهو طويل جدا { فَادْخُلُوهَا } أي الجنة { خَالِدِينَ } أي مقدرين الخلود .


[1453]:صحيح الجامع الصغير/ 2562