الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَٰلِدِينَ} (73)

قوله تعالى : " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " يعني من الشهداء والزهاد والعلماء والقراء وغيرهم ، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته . وقال في حق الفريقين : " وسيق " بلفظ واحد ، فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان ، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل ، وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان ؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك ، فشتان ما بين السوقين . " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " قيل : الواو هنا للعطف عطف على جملة والجواب محذوف . قال المبرد : أي سعدوا وفتحت ، وحذف الجواب بليغ في كلام العرب . وأنشد{[13348]} :

فلو أنها نفسٌ تموتُ جميعَةً *** ولكنَّهَا نفسٌ تساقَطُ أنفُسَا

فحذف جواب لو والتقدير لكان أروح . وقال الزجاج : " حتى إذا جاؤوها " دخلوها وهو قريب من الأول . وقيل : الواو زائدة . قال الكوفيون وهو خطأ عند البصريين . وقد قيل : إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله تعالى ، والتقدير حتى إذا جاؤوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله : " جنات عدن مفتحة لهم الأبواب " [ ص : 50 ] وحذف الواو في قصة أهل النار ؛ لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا لهم . ذكره المهدوي ، وحكى معناه النحاس قبله . قال النحاس : فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول ، فقد تكلم فيه بعض أهل العلم بقول لا أعلم أنه سبقه إليه أحد ، وهو أنه لما قال الله عز وجل في أهل النار : " حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها " دل بهذا على أنها كانت مغلقة ولما قال في أهل الجنة : " حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " دل بهذا على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيؤوها . والله أعلم . وقيل : إنها واو الثمانية . وذلك من عادة قريش أنهم يعدون من الواحد فيقولون خمسة ستة سبعة وثمانية ، فإذا بلغوا السبعة قالوا وثمانية . قاله أبو بكر بن عياش . قال الله تعالى : " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام " [ الحاقة : 7 ] وقال : " التائبون العابدون " [ التوبة : 112 ] ثم قال في الثامن : " والناهون عن المنكر " [ التوبة : 112 ] وقال : " ويقولون سبعة وثامنهم " [ الكهف : 22 ] وقال " ثيبات وأبكارا " [ التحريم : 5 ] وقد مضى القول في هذا في " براءة " {[13349]} مستوفى وفي " الكهف " {[13350]} أيضا .

قلت : وقد استدل بهذا من قال إن أبواب الجنة ثمانية ، وذكروا حديث عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ الوضوء{[13351]} - ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ) خرجه مسلم وغيره . وقد خرج الترمذي حديث عمر هذا وقال فيه : ( فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة ) بزيادة من وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية . وقد ذكرنا ذلك في كتاب التذكرة وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا ، وذكرنا هناك عظم أبوابها وسعتها حسب ما ورد في الحديث من ذلك ، فمن أراده وقف عليه هناك .

قوله تعالى : " وقال لهم خزنتها " قيل : الواو ملغاة تقديره حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم " أي في الدنيا . قال مجاهد : بطاعة الله . وقيل : بالعمل الصالح . حكاه النقاش والمعنى واحد . وقال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه : " سلام عليكم " بمعنى التحية " طبتم فادخلوها خالدين " .

قلت : خرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا ) وحكى النقاش : إن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم وذلك قوله تعالى : " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " [ الإنسان : 21 ] ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم فعندها يقول لهم خزنتها : " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " وهذا يروى معناه عن علي رضي الله عنه .


[13348]:البيت لامرئ القيس. "وتموت جميعة" بمعنى أنه مريض فنفسه لا تخرج بمرة، ولكنها تموت شيئا بعد شيء، وهو معنى تساقط أنفسا.
[13349]:راجع ج 8 ص 271 طبعة أولى أو ثانية.
[13350]:راجع ج 10 ص 382 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13351]:يبلغ الوضوء: يوصل الوضوء على مواضعه، فالوضوء فيه مفتوح الواو. ومعنى يسبغ الوضوء يكمله على الوجه المسنون، فالوضوء فيه مضموم الواو. (هامش مسلم).