السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَٰلِدِينَ} (73)

ولما ذكر تعالى أحوال الكافرين أتبعه أحوال أضدادهم فقال عز من قائل : { وسيق الذين اتقوا ربهم } أي : الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة { إلى الجنة } وقوله تعالى : { زمراً } حال أي : جماعات أهل الصلاة المستكثرين منها على حدة وأهل الصوم كذلك إلى غير ذلك من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه .

فإن قيل : السوق في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يساقوا إليه وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأي حاجة فيه إلى السوق ؟ أجيب : بأن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل ، والمراد بسوق أهل الجنة : سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين سراعاً إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك ، فشتان ما بين السوقين هذا سوق تشريف وإكرام وذاك سوق إهانة وانتقام ، وهذا من بدائع أنواع البديع وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم ، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم فسبحان من أنزله معجز المباني وتمكن المعاني عذب الموارد والمثاني .

وقيل : إن المحبة والصداقة باقية بين المتقين إلى يوم القيامة كما قال تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدواً إلا المتقين } ( الإحزاب : 67 ) فإذا قيل لواحد منهم : اذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها إلا مع أحبابي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السوق إلى الجنة .

ولما ذكر تعالى السوق ذكر غايته بقوله تعالى : { حتى إذا جاؤوها } اختلف في جواب إذا على أوجه . أحدها قوله تعالى : { وفتحت أبوابها } والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش ، وإنما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجون مغلقة عادة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها ، فعلى هذا أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون مقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى : { جنات عدن مفتّحة لهم الأبواب } ( ص : 50 ) فلذلك جيء بالواو فكأنه قال : حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها .

ثانيها قوله تعالى : { وقال لهم خزنتها } أي : بزيادة الواو أيضاً أي : حتى إذا جاؤوها قال لهم خزنتها ، ثالثها : قال الزجاج : القول عندي إن الجواب محذوف تقديره دخلوها بعد قوله تعالى : { إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها } أي : حين الوصول { سلام عليكم } تعجيلاً للمسرة بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها { طبتم } أي : صلحتم لسكناها لأنها دار طهرها الله تعالى من كل دنس وطيبها من كل قذر فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحاً تنقي أنفسنا من درن الذنوب وتميط وضر هذه القلوب ثم سببوا عن ذلك { فادخلوها خالدين } أي : مقدرين الخلود . وسمى بعضهم الواو في قوله تعالى : { وفتحت } واو الثمانية قال : لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله تعالى : { وثامنهم كلبهم } ( الكهف : 22 ) وقيل : تقدير الجواب { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } يعني أن الجواب بلفظ الشرط ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صح ، وقدره الجلال المحلي بقوله : دخلوها .