نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَٰلِدِينَ} (73)

ولما ذكر أحوال الكافرين ، أتبعه أحوال أضدادهم فقال : { وسيق } وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيباً لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق ، فشتان ما بين السوقين ! هذا سوق إكرام ، وذاك سوق إهانة وانتقام ، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع ، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم ، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم ، فسبحان من أنزله معجز المباني ، متمكن المعاني ، عذب الموارد والمثاني .

ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم ، دل على ذلك بقوله : { الذين اتقوا } أي لا جميع المؤمنين { ربهم } أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة ، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة ، فقيل : ما أطول هذا اليوم ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة " وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تجتمعون يوم القيامة " - فذكر الحديث حتى قال : " قالوا : فأين المؤمنون يومئذ ؟ قال : توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار " ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين { إلى الجنة زمراً } أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة ، وأهل الصوم كذلك - إلى غيرذلك من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه .

ولما ذكر السوق ، ذكر غايته بقوله : { حتى إذا جاءوها } ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به ، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال : { وفتحت } أي والحال أنها قد فتحت { أبوابها } أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم من رائحتها ، ويرون من زهرتها وبهجتها ، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانياً .

ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار ، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار ، فقال عطفاً على جواب " إذا " بما تقديره : تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم : { وقال لهم خزنتها } أي حين الوصول : { سلام عليكم } تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها . ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا : { طبتم } أي صلحتم لسكناها ، فلا تحول لكم عنها أصلاً ، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب ، فلا يدخلها إلا مناسب لها ، قولهم : { فادخلوها } فأنتج ذلك { خالدين * } ولعل فائدة الحذف لجواب " إذا " أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف ، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب ، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد .