معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما حرم الله الربا أباح السلم ، وقال : أشهد أن السلم المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه ، وأذن فيه ، ثم قرأ : ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) . قوله : ( إذا تداينتم ) . أي تعاملتم بالدين ، يقال : داينته إذا عاملته بالدين ، وإنما قال بدين بعد قوله تداينتم ، لأن المداينة قد تكون مجازاة ، وتكون معاطاة فقيّده بالدين ليعرف المراد من اللفظ ، وقيل : ذكره تأكيداً كقوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه إلى أجل مسمى ) الأجل : مدة معلومة الأول والآخر ، والأجل : يلزم في الثمن ، والمبيع في السلم ، حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قيل محله ، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم ( فاكتبوه ) أي اكتبوا الذي تداينتم به ، بيعاً كان أو سلماً أو قرضاً . واختلفوا في هذه الكتابة : فقال بعضهم : هي واجبة ، والأكثرون على أنه أمر استحباب ، فإن ترك فلا بأس ، كقوله تعالى ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) .

وقال بعضهم : كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره :

قوله تعالى : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } . أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب كاتب بالعدل ، أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير .

قوله تعالى : { ولا يأب } . أي لا يمتنع .

قوله تعالى : { كاتب أن يكتب } . واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد ، فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد ، وقال الحسن : يجب إذا لم يكن كاتب غيره ، وقال قوم : هو على الندب والاستحباب ، وقال الضحاك : كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) .

قوله تعالى : { كما علمه الله } . أي كما شرعه الله وأمره .

قوله تعالى : { فليكتب وليملل الذي عليه الحق } . يعني : المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن ، فالإملال هنا ، والإملاء ، قوله تعالى : ( فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ) .

قوله تعالى : { وليتق الله ربه } . يعني المملي .

قوله تعالى : { ولا يبخس منه شيئا } . أي ولا ينقص منه أي من الحق الذي عليه شيئاً .

قوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } . أي جاهلاً بالإملاء ، قاله مجاهد ، وقال الضحاك والسدي : طفلاً صغيراً ، وقال الشافعي _ السفيه : المبذر المفسد لماله أو في دينه .

قوله تعالى : { أو ضعيفا } . أي شيخاً كبيراً وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون .

قوله تعالى : { أو لا يستطيع أن يمل هو } . لخرس أو عمي أو عجمة أو حبس أو غيبة لا يمكنه حضور الكتابة ، أو جهل بما له وعليه .

قوله تعالى : { فليملل وليه } . أي قيمة .

قوله تعالى : { بالعدل } . أي بالصدق والحق ، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل : أراد بالولي صاحب الحق ، يعني إن عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولي الحق ، وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بالحق .

قوله تعالى : { واستشهدوا } . أي وأشهدوا .

قوله تعالى : { شهيدين } . أي شاهدين .

قوله تعالى : { من رجالكم } . يعني الأحرار المسلمين ، دون العبيد والصبيان ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد .

قوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين } . أي لم يكن الشاهدان رجلين .

قوله تعالى : { فرجل وامرأتان } . أي فليشهد رجل وامرأتان . وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين . واختلفوا في غير الأموال ، فذهب جماعة إلى أنه يجوز شهادتين مع الرجال في غير العقوبات ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين ، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين ، وبشهادة أربع نسوة ، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات .

قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } . يعني من كان مرضياً في ديانته وأمانته ، وشرائط قبول الشهادة سبعة : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة ، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم ، فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة ، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ، ولا تقبل شهادة العبيد ، وأجازها شريح وابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه ، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة ، ولا يجوز شهادة الصبيان . سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك ؟ فقال : لا يجوز ، لأن الله تعالى يقول : ( ممن ترضون من الشهداء ) والعدالة شرط ، وهي أن يكون الشاهد مجتنباً للكبائر غير مصر على الصغائر ، والمروءة شرط ، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء ، وهي حسن الهيئة ، والسيرة والعشرة والصناعة ، فإن كان الرجل يظهر من نفسه في شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته ، وانتفاء التهمة شرط ، حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره ، لأنه متهم في حق عدوه ، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما ، ولا يقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعاً ، كالوارث يشهد على رجل بقتل مورثه ، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضرراً كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج القطان ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ، أخبرنا أبو عبيد القاسم ابن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه " لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت " .

قوله تعالى : { أن تضل إحداهما } . قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف .

قوله تعالى : { فتذكر } . برفع الراء ، ومعناه الجزاء والابتداء ، وموضع تضل جزم بالجزاء ، إلا أنه لا نسق بالتضعيف ، فتذكر رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ ، وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول ، و " تضل " محله نصب " بأن " فتذكر منسوق عليه ، ومعنى الآية : فرجل وامرأتان كي تذكر .

قوله تعالى : { إحداهما الأخرى } . ومعنى تضل : أي تنسى ، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها ، تذكرها الأخرى فتقول : ألسنا حضرنا مجلس كذا ؟ وسمعنا كذا ؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة : فتذكر مخففاً ، وقرأ الباقون مشدداً ، وذكر واذكر بمعنى واحد ، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان ، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال : هو من الذكر ، أي تجعل إحداهما الأخرى ذكراً ، أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر ، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان .

قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } . قيل : أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم ، وقال قوم : تجب الإجابة إذا لم يكن غيرهم ، فإن وجد غيرهم فهم مخيرون وهو قول الحسن ، وقال قوم : هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال ، وقال بعضهم : هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة التي تحملوها ، وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير ، وقال الشعبي : الشاهد بالخيار ما لم يشهده ، وقال الحسن : الآية في الأمرين جميعاً ، في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً .

قوله تعالى : { ولا تسأموا } . أي ولا تملوا .

قوله تعالى : { أن تكتبوه } . والهاء راجعة إلى الحق .

قوله تعالى : { صغيراً } . كان الحق .

قوله تعالى : { أو كبيراً } . قليلاً كان أو كثيراً .

قوله تعالى : { إلى أجله } . إلى محل الحق .

قوله تعالى : { ذلكم } . أي الكتاب .

قوله تعالى : { أقسط } . أعدل .

قوله تعالى : { عند الله } . لأنه أمر به ، واتباع أمره أعدل من تركه .

قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } . لأن الكتابة تذكر الشهود .

قوله تعالى : { وأدنى } . وأحرى وأقرب إلى .

قوله تعالى : { أن لا ترتابوا } . تشكوا في الشهادة .

قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة حاضرة } . قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان ، وأضمر الاسم مجازا ، إلا أن تكون التجارة تجارة ، أو المبايعة تجارة ، وقرأ الباقون بالرفع ، وله وجهان : أحدهما : أن يجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة . والثاني : أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل .

قوله تعالى : { تديرونها بينكم } . تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم ، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يداً بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل .

قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } . يعني التجارة .

قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } . قال الضحاك : هو عزم والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره ، نقداً أو نسئه ، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : الأمر فيه إلى الأمانة ، كقوله تعالى ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) الآية ، وقال الآخرون هو أمر ندب .

قوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } . هذا نهي للغائب ، وأصله يضاور ، فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين ، واختلفوا فيه فمنهم من قال : أصله يضارر بكسر الراء الأولى ، وجعل الفعل للكاتب والشهيد ، معناه : لا يضارر الكاتب فيأبى أن يكتب ، ولا الشهيد فيأبى أن يشهد ، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه ، وهذا قول طاووس والحسن وقتادة ، وقال قوم : أصله " يضارر " بفتح الراء على الفعل المجهول ، وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ، ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم ، فيقولان : نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا ، فيقول الداعي إن الله أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما ، فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما .

قوله تعالى : { وإن تفعلوا } . ما نهيتكم عنه من الضرر .

قوله تعالى : { فإنه فسوق بكم } . أي معصية وخروج عن الأمر .

قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

{ 282 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

هذه آية الدين ، وهي أطول آيات القرآن ، وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار ، أحدها : أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سلم وغيره ، لأن الله أخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها ذاكرا أحكامها ، وذلك يدل على الجواز ، الثاني والثالث أنه لا بد للسلم من أجل وأنه لا بد أن يكون معينا معلوما فلا يصح حالا ولا إلى أجل مجهول ، الرابع : الأمر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها ، لأنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم ، الخامس : أمر الكاتب أن يكتب ، السادس : أن يكون عدلا في نفسه لأجل اعتبار كتابته ، لأن الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته ، السابع أنه يجب عليه العدل بينهما ، فلا يميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك ، الثامن : أن يكون الكاتب عارفا بكتابة الوثائق وما يلزم فيها كل واحد منهما ، وما يحصل به التوثق ، لأنه لا سبيل إلى العدل إلا بذلك ، وهذا مأخوذ من قوله : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } التاسع : أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها ، ولو كان هو والشهود قد ماتوا ، العاشر : قوله : { ولا يأب كاتب أن يكتب } أي : لا يمتنع من منَّ الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين ، فكما أحسن الله إليه بتعليمه ، فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته ، ولا يمتنع من الكتابة لهم ، الحادي عشر : أمر الكاتب أن لا يكتب إلا ما أملاه من عليه الحق ، الثاني عشر : أن الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدين ، الثالث عشر : أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه ولا يبخس منه شيئا ، الرابع عشر : أن إقرار الإنسان على نفسه مقبول ، لأن الله أمر من عليه الحق أن يمل على الكاتب ، فإذا كتب إقراره بذلك ثبت موجبه ومضمونه ، وهو ما أقر به على نفسه ، ولو ادعى بعد ذلك غلطا أو سهوا ، الخامس عشر : أن من عليه حقا من الحقوق التي البينة{[151]}  على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل ، أن قوله هو المقبول دون قول من له الحق ، لأنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه ، إلا أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته ، السادس عشر : أنه يحرم على من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئا من مقداره ، أو طيبه وحسنه ، أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه ، السابع عشر : أن من لا يقدر على إملاء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه ، أو نحو ذلك ، فإنه ينوب وليه منابه في الإملاء والإقرار ، الثامن عشر : أنه يلزم الولي من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل ، وعدم البخس لقوله { بالعدل } التاسع عشر : أنه يشترط عدالة الولي ، لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق ، العشرون : ثبوت الولاية في الأموال ، الحادي والعشرون : أن الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف ، لا على وليهم ، الثاني والعشرون : أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح ، لأن الله جعل الإملاء لوليهم ، ولم يجعل لهم منه شيئا لطفا بهم ورحمة ، خوفا من تلاف أموالهم ، الثالث والعشرون : صحة تصرف الولي في مال من ذكر ، الرابع والعشرون : فيه مشروعية كون الإنسان يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه ، لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل ، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع ، الخامس والعشرون : أن تعلم الكتابة مشروع ، بل هو فرض كفاية ، لأن الله أمر بكتابة الديون وغيرها ، ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم ، السادس والعشرون : أنه مأمور بالإشهاد على العقود ، وذلك على وجه الندب ، لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ الحقوق ، فهو عائد لمصلحة المكلفين ، نعم إن كان المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه تعين أن يكون الإشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا ، السابع والعشرون : أن نصاب الشهادة في الأموال ونحوها رجلان أو رجل وامرأتان ، ودلت السنة أيضا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي ، الثامن والعشرون : أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل ، التاسع والعشرون : أن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تقبل ، لأن الله لم يقبلهن إلا مع الرجل ، وقد يقال إن الله أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات والله أعلم . الثلاثون : أن شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله : { فاستشهدوا شهيدين من رجالكم } والعبد البالغ من رجالنا ، الحادي والثلاثون : أن شهادة الكفار ذكورا كانوا أو نساء غير مقبولة ، لأنهم ليسوا منا ، ولأن مبنى الشهادة على العدالة وهو غير عدل ، الثاني والثلاثون : فيه فضيلة الرجل على المرأة ، وأن الواحد في مقابلة المرأتين لقوة حفظه ونقص حفظها ، الثالث والثلاثون : أن من نسي شهادته ثم ذكرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } الرابع والثلاثون : يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، والخامس والثلاثون : أنه يجب على الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور ، لا يجوز له أن يأبى لقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } السادس والثلاثون : أن من لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم ، لم يجب عليه الإجابة لعدم الفائدة بها ولأنه ليس من الشهداء ، السابع والثلاثون : النهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير وصفة الأجل وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود ، الثامن والثلاثون : بيان الحكمة في مشروعية الكتابة والإشهاد في العقود ، وأنه { أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا } فإنها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلاد ، والشهادة المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد من الشك والريب والتنازع والتشاجر ، التاسع والثلاثون : يؤخذ من ذلك أن من اشتبه وشك في شهادته لم يجز له الإقدام عليها بل لا بد من اليقين ، الأربعون : قوله : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } فيه الرخصة في ترك الكتابة إذا كانت التجارة حاضرا بحاضر ، لعدم شدة الحاجة إلى الكتابة ، الحادي والأربعون : أنه وإن رخص في ترك الكتابة في التجارة الحاضرة ، فإنه يشرع الإشهاد لقوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم } الثاني والأربعون : النهي عن مضارة الكاتب بأن يدعى وقت اشتغال وحصول مشقة عليه ، الثالث والأربعون : النهي عن مضارة الشهيد أيضا بأن يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض أو شغل يشق عليه ، أو غير ذلك هذا على جعل قوله : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } مبنيا للمجهول ، وأما على جعلها مبنيا للفاعل ففيه نهي الشاهد والكاتب أن يضارا صاحب الحق بالامتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك ، وهذان هما الرابع والأربعون والخامس والأربعون والسادس والأربعون أن ارتكاب هذه المحرمات من خصال الفسق لقوله : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } السابع والأربعون أن الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق والعداوة والولاية ونحو ذلك تتجزأ في الإنسان ، فتكون فيه مادة فسق وغيرها ، وكذلك مادة إيمان وكفر لقوله : { فإنه فسوق بكم } ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُسّاق . الثامن والأربعون : - وحقه أن يتقدم على ما هنا لتقدم موضعه- اشتراط العدالة في الشاهد لقوله : { ممن ترضون من الشهداء } التاسع والأربعون : أن العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان ، فكل من كان مرضيا معتبرا عند الناس قبلت شهادته ، الخمسون : يؤخذ منها عدم قبول شهادة المجهول حتى يزكى ، فهذه الأحكام مما يستنبط من هذه الآية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر ، ولله في كلامه حكم وأسرار يخص بها من يشاء من عباده .


[151]:- الكلمة غير الواضحة في الأصل، وأقرب ما يكون أنها على ما أثبت والله أعلم.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير :

حدثنا يونس ، أخبرنا{[4669]} ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال ، حدثني سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من جحد آدم ، عليه السلام ، أن الله لما خلق آدم ، مسح ظهره فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة ، فجعل يعرض ذريته عليه ، فرأى فيهم رجلا يَزْهر ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هو ابنك داود . قال : أي رب ، كم عمره ؟ قال : ستون عامًا ، قال : رب زد في عمره . قال : لا إلا أن أزيده من عمرك . وكان عمر آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عامًا ، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة ، فلما احتُضر آدم وأتته الملائكة قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عامًا ، فقيل له : إنك قد وهبتها لابنك داود . قال : ما فعلت . فأبرز الله عليه الكتاب ، وأشهد عليه الملائكة " .

وحدثنا أسود بن عامر ، عن حماد بن سلمة ، فذكره ، وزاد فيه : " فأتمها الله لداود مائة ، وأتمها لآدم ألف سنة " {[4670]} .

وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن يوسف بن حبيب ، عن أبي داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة [ به ]{[4671]} .

هذا حديث غريب جدا ، وعلي بن زيد بن جُدعان في أحاديثه نكارة . وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه ، من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب{[4672]} عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة . ومن رواية داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن أبي هريرة . ومن طريق محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة . ومن حديث هشام{[4673]} بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره بنحوه{[4674]} .

فقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها ، وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا }

وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } قال : أنزلت في السَّلَم إلى أجل معلوم .

وقال قتادة ، عن أبي حَسَّان{[4675]} الأعرج ، عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ، ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } رواه البخاري .

وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نَجيح ، عن عبد الله بن كثير ، عن أبي المِنْهال ، عن ابن عباس ، قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسْلفُون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم " {[4676]} .

وقوله : { فَاكْتُبُوهُ } أمر منه تعالى بالكتابة [ والحالة هذه ]{[4677]} للتوثقة والحفظ ، فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا أمَّة أمية لا نكتب ولا نحسب " {[4678]} فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة ؟ فالجواب : أن الدّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا ؛ لأن كتاب الله قد سَهل الله ويسر حفظه على الناس ، والسنن أيضًا محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس ، فأمروا أمْر إرشاد لا أمر إيجاب ، كما ذهب إليه بعضهم .

قال ابن جريج : من ادّان فليكتب ، ومن ابتاع فليُشْهد .

وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشيّ ، كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له ؟ فقالوا : وكيف [ يكون ]{[4679]} ذلك ؟ قال : رجل باع بيعًا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب ، فلما حل ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه فلم يستجب له ؛ لأنه قد عصى ربه .

وقال أبو سعيد ، والشعبي ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وابن جريج ، وابن زيد ، وغيرهم : كان ذلك واجبًا ثم نسخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }

قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا ليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هُرْمُز ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر " أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلفه ألف دينار ، فقال : ائتني بشهداء أشهدهم . قال : كفى بالله شهيدًا . قال : ائتني بكفيل . قال : كفى بالله كفيلا . قال : صدقت . فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته ، ثم التمس مركبًا يقدم عليه للأجل الذي أجله ، فلم يجد مركبًا ، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ، ثم زَجج موضعها ، ثم أتى بها البحر ، ثم قال : اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانًا ألف دينار ، فسألني كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا . فرضي بذلك ، وسألني شهيدًا ، فقلت : كفى بالله شهيدًا . فرضي بذلك ، وإني قد جَهِدْتُ أن أجد مركبًا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبًا ، وإني اسْتَوْدعْتُكَها . فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ، ثم انصرف ، وهو في ذلك يطلب مركبًا إلى بلده ، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا تجيئه بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال ، فأخذها لأهله حطبًا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الرجل الذي كان تَسَلف منه ، فأتاه بألف دينار وقال : والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه . قال : هل كنت بعثت إلي بشيء ؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه ؟ قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة ، فانصرف بألفك راشدًا " .

وهذا إسناد صحيح{[4680]} وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة{[4681]} معلقًا بصيغة الجزم ، فقال : وقال الليث بن سعد ، فذكره{[4682]} . ويقال : إنه رواه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث ، عنه .

وقوله : { لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } أي : بالقسط والحق ، ولا يَجُرْ في كتابته على أحد ، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان .

وقوله : { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } أي : ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سُئِل أن يكتبَ للناس ، ولا ضرورة عليه في ذلك ، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم ، فَلْيتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب ، كما جاء في الحديث : " إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو تصنع لأخْرَق " {[4683]} . وفي الحديث الآخر : " من كتم علمًا يَعْلَمه ألْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار " {[4684]} .

وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب .

وقوله : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } أي : وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين ، وليتق الله في ذلك ، { وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } أي : لا يكتم منه شيئًا ، { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } محجورًا عليه بتبذير ونحوه ، { أَوْ ضَعِيفًا } أي : صغيرًا أو مجنونًا { أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ } إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه . { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }

وقوله { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم } أمْرٌ بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة ، { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال ، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة ، كما قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو بن أبي عَمْرو ، عن المَقْبُري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا معشر النساء ، تصدقن وأكثرن الاستغفار ، فإني رأيتكُن أكثر أهل النار " ، فقالت امرأة منهن جَزْلة : وما لنا - يا رسول الله - أكثر أهل النار{[4685]} ؟ قال : " تُكْثرْنَ اللعن ، وتكفُرْنَ العشير ، ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن " . قالت : يا رسول الله ، ما نقصان العقل والدين ؟ قال : " أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تَعْدل شهادة رجل ، فهذا نقصان العقل ، وتمكث الليالي لا تصلي ، وتفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين " {[4686]} .

وقوله : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود ، وهذا مقيَّد ، حَكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن ، من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط . وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلا مرضيًا .

وقوله : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } يعني : المرأتين إذا نسيت الشهادة { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى } أي : يحصل لها ذكرى بما وقع به الإشهاد ، ولهذا قرأ آخرون : " فَتُذكر " بالتشديد من التذكار . ومن قال : إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر{[4687]} فقد أبعد ، والصحيح الأول . والله أعلم .

وقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } قيل : معناه : إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة ، وهو قول قتادة والربيع بن أنس . وهذا كقوله : { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } ومن هاهنا استفيد أن تَحَمّل الشهادة فرض كفاية .

وقيل - وهو مذهب الجمهور - : المراد بقوله : { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } للأداء ، لحقيقة قوله : { الشُّهَدَاء } والشاهد حقيقة فيمن {[4688]} تحمَّل ، فإذا دعي لأدائها{[4689]} فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية ، والله أعلم .

وقال مجاهد وأبو مِجْلَز ، وغير واحد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ، وإذا شهدت فدعيت{[4690]} فأجب .

وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن ، من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة ، عن زيد بن خالد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " {[4691]} .

فأما الحديث الآخر في الصحيحين : " ألا أخبركم بشر الشهداء ؟ الذين يشهدون قبل أن يُستْشْهَدوا " ، وكذا قوله : " ثم يأتي قوم تسبق أيمانُهم شهادتهم وتسبق شهادَتُهم أيمانهم " . وفي رواية : " ثم يأتي قوم يَشْهَدُون ولا يُسْتَشْهَدون " {[4692]} . فهؤلاء شهود الزور . وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري : أنها تعم الحالين : التحَمّل والأداء .

وقوله : { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِه } هذا من تمام الإرشاد ، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا ، فقال : { وَلا تَسْأَمُوا } أي : لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة { إلى أجله }

وقوله { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } أي : هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو { أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : أعدل { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } أي : أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة ، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه ، كما هو الواقع غالبًا { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } وأقرب إلى عدم الريبة ، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه ، فيفصل بينكم بلا ريبة .

وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا } أي : إذا كان البيع بالحاضر يدا بيد ، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها .

فأما الإشهاد على البيع ، فقد قال تعالى : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير

في قول الله : { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم } يعني : أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن ، فأشهدوا على حقكم على كل حال . قال : وروي عن جابر بن زيد ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، نحو ذلك .

وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }

وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب ، لا على الوجوب . والدليل على ذلك حديث خُزَيمة بن ثابت الأنصاري ، وقد رواه الإمام أحمد :

حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني عمَارة بن خزيمة الأنصاري ، أن عمه حدثه - وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي ، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي ، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه ، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه ، وإلا بعتُه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي ، قال : " أو ليس قد ابتعته منك ؟ " قال الأعرابي : لا والله ما بعتك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل{[4693]} قد ابتعته منك " . فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان ، فطفق الأعرابي يقول : هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك . فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك ! إن النبي {[4694]} صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًّا . حتى جاء خزَيْمة ، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول{[4695]} هلم شهيدًا يشهد أني{[4696]} بايعتك . قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته . فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال : " بم تشهد ؟ " فقال : بتصديقك يا رسول الله . فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين .

وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب ، والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيري{[4697]} كلاهما عن الزهري ، به{[4698]} نحوه .

ولكن الاحتياط هو الإشهاد ، لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري ، عن شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بُرْدة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ، ورجل أقرض رجلا مالا فلم يُشْهد " .

ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، قال : ولم يخرجاه ، لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى ، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين " {[4699]} .

وقوله : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قيل : معناه : لا يضار الكاتب ولا الشاهد ، فيكتب هذا خلاف ما يملي ، ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية ، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما .

وقيل : معناه : لا يضر بهما ، كما قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا الحسين - يعني ابن حفص - حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس في هذه الآية : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } قال : يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة ، فيقولان : إنا على حاجة فيقول : إنكما قد أمرتما أن تجيبا . فليس له أن يضارهما .

ثم قال : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وعطية ، ومقاتل بن حَيَّان ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك .

وقوله : { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي : إن خالفتم ما أمرتم به ، وفعلتم ما نَهِيتم عنه ، فإنه فسق كائن بكم ، أي : لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه .

وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : خافوه وراقبوه ، واتبعوا أمره واتركوا زجره{[4700]} { وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [ الأنفال : 29 ] ، وكقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] .

وقوله : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها ، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل علمه محيط بجميع الكائنات .


[4669]:في جـ: "أنبأنا".
[4670]:المسند (1/251، 252).
[4671]:زيادة من أ، و.
[4672]:في أ: "بن أبي ذئاب".
[4673]:في جـ، أ: "تمام".
[4674]:المستدرك (1/64، 2/586).
[4675]:في جـ، أ: "أبي حيان".
[4676]:صحيح البخاري برقم (2240) وصحيح مسلم برقم (1604).
[4677]:زيادة من جـ، أ، و.
[4678]:صحيح البخاري برقم (1913) وصحيح مسلم برقم (1080).
[4679]:زيادة من أ، و.
[4680]:المسند (2/348).
[4681]:في جـ، أ، و: "في صحيحه".
[4682]:صحيح البخاري برقم (1498، 2291، 2404، 2430، 2744، 6261، 2063).
[4683]:رواه البخاري في صحيحه برقم (2518) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[4684]:رواه أحمد في المسند (2/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4685]:في جـ: "يا رسول الله وما لنا أكثر أهل النار".
[4686]:صحيح مسلم برقم (80).
[4687]:في و: "كشهادة رجل".
[4688]:في جـ: "فقد".
[4689]:في جـ: "فإن دعى إلى الإدلاء بها".
[4690]:في جـ: "وإذا دعيت".
[4691]:صحيح مسلم برقم (1719) وسنن أبي داود برقم (3596) وسنن الترمذي برقم (2295، 2296) وسنن النسائي الكبرى برقم (6029) وسنن ابن ماجة برقم (2364).
[4692]:صحيح البخاري برقم (6428) وصحيح مسلم برقم (2535).
[4693]:في ج: "بلى".
[4694]:في و: "إن رسول الله".
[4695]:في جـ، أ، و: "وطفق الأعرابي يقول".
[4696]:في و: "أني قد".
[4697]:في جـ: "الزبيدي".
[4698]:المسند (5/213) وسنن أبي داود برقم (3607) وسنن النسائي (7/301).
[4699]:المستدرك (2/302).
[4700]:في و: "زواجره".