قوله : ( يَأَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ ) [ 281 ] .
قال ابن عباس : " نزلت في السلم خاصة ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم " ( {[9045]} ) . يريد بثمن نقد معلوم من غير أن يكون طعام( {[9046]} ) في طعام .
وروي عن ابن( {[9047]} ) عمر وأبي موسى الأشعري " أنه واجب أن يكتب إذا باع بدين " ( {[9048]} ) . وهو قول ابن سيرين وأبي قلابة والضحاك وجابر بن زيد ومجاهد( {[9049]} ) .
/ وقال عطاء : " أشهد إذا بعت( {[9050]} ) ، وإذا( {[9051]} ) اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو بثلث درهم أو أقل من ذلك ، فإن الله يقول : ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ )( {[9052]} ) . وهو مذهب الطبري( {[9053]} ) .
وقال أبو سعيد الخدري : " كان ذلك فرضاً ثم نسخه ( فَإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذِي اؤتُمِنَ أَمَانَتَهُ ) [ 282 ]( {[9054]} ) .
وبه قال الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد( {[9055]} ) والشعبي( {[9056]} ) .
وأكثر الفقهاء على أنه ندب وإرشاد لا على الحكم( {[9057]} ) . وهو قول( {[9058]} ) مالك والشافعي( {[9059]} ) .
وقال الطبري : " الآية على الأمر حتى يأتي دليل يدل على( {[9060]} ) أنها ندب وإرشاد( {[9061]} ) " . وقال : " من جعل الإشهاد فرضاً( {[9062]} ) ، لا يجوز أن يكون هذا منسوخاً لأنه يلزم منه رفع حكم الإشهاد . والإشهاد جائز بإجماع . وفي تركه وقع الاختلاف فلو كانت منسوخة لم يجز الإشهاد( {[9063]} ) لأن حكم المنسوخ ألا يبقى حكمه ولم تأت آية فيها/ : " لا تكتبوا ولا تشهدوا " . بل ذلك حسن جائز بإجماع وواجب عندنا . وإنما معنى ( فَإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ) عند عدم الكاتب( {[9064]} ) والشهود " ( {[9065]} ) .
قال( {[9066]} ) أبو محمد رضي الله عنه : وهذا( {[9067]} ) الاعتراض لا يلزم لأنه يجب منه ألا يعمل بما نسخ البتة( {[9068]} ) . وقد نسخ فرض صوم عاشوراء وفرض صوم ثلاثة أيام من كل شهر . ونسخ فرض قيام الليل ، وفعل ذلك حسن مُرَغَّبٌ فيه . كذلك فرض الإشهاد هو منسوخ( {[9069]} ) ، وفعله حسن جائز( {[9070]} ) . وقول الطبري : " الآية على الأمر حتى يأتي دليل يدل على الندب " .
جوابه : أن الدليل على أنه صار ندباً قوله : ( فَإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ) . ولا يحمل على معنى عدم الكاتب( {[9071]} ) والشهود إلا بدليل( {[9072]} ) .
قوله : / ( وَلاَ يَابَ كَاتِبٌ ) [ 281 ] .
قيل : هو واجب عليه أن يكتب إذا دُعي إلى ذلك( {[9073]} ) .
قال( {[9074]} ) الضحاك : " نسخها : ( وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ ) " [ 281 ]( {[9075]} ) .
وقال السدي : " لا يأب كاتب أن يكتب إذا كان فارغاً " ( {[9076]} ) .
( وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً )[ 281 ] .
أي لا يظلم ولا ينقص من حق الرجل/ الذي له الحق شيئاً .
قوله : ( فَإِن كَانَ الذِي عَلَيْهِ الحَقُّ )[ 281 ] . أي من عليه الدين .
( سَفِيهاً )/ [ 281 ] . أي جاهل بالصواب الذي يمليه على الكاتب( {[9077]} ) .
( اَوْ ضَعِيفاً ) [ 281 ] . أي أخرق( {[9078]} ) . قاله ابن عباس ، وقاله مجاهد وغيره( {[9079]} ) .
وقال السدي( {[9080]} ) : " السفيه الصغير( {[9081]} ) " .
وأصل " السفيه( {[9082]} ) " الخفيف العقل من قولهم : " تَسَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّيْء " إذا استخفته فحركته( {[9083]} ) .
قال السدي : " الضعيف الأحمق " ( {[9084]} ) .
( فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالعَدْلِ ) [ 281 ] : أي ولي( {[9085]} ) السفيه والضعيف . قاله الضحاك( {[9086]} ) .
وقال ابن عباس : " ولي الدين هو الذي هو( {[9087]} ) عليه( {[9088]} ) " أي فَلْيُقِرْ وَلِيُّهُ بِمَا عَلَيْهِ وَلْيَشْهَدْ .
وقيل : ولي الدين( {[9089]} ) هو العيي واليتيم( {[9090]} ) .
فالهاء في ( وَلِيُّهُ ) تعود على الدِّين أو على صاحب الدِّين أو على المطلوب( {[9091]} ) .
قوله : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ) [ 281 ] .
اختير " فَعِيلٌ " لأنه للتكثير ، فمعناه : استشهدوا من عُرف بالشهادة والشاهد يقع لغير التكثير ، يقال : " فُلاَنٌ شَهِيدِي( {[9092]} ) وَشَاهِدِي " .
قوله : ( مِن رِّجَالِكُمْ ) [ 281 ] أي من الأحرار المسلمين .
قوله : ( فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْن فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) [ 281 ] .
قال ابن بكير : " هذا مخاطبة للحكام( {[9093]} ) " ، أي إن لم يأت صاحب الحق برجلين أتى برجل وامرأتين( {[9094]} ) ، فليس معناها أنه لا يشهد الرجل والامرأتان( {[9095]} ) إلا عند عدم الرجلين( {[9096]} ) . لأن فاعلاً لو فعله وهو واحد الرجلين لتم( {[9097]} ) إشهاده " .
ومعنى الآية/ عند غيره أنها مخاطبة لصاحب الدين ، أي فاستشهدوا [ من حضر ]( {[9098]} ) ؛ رجلين ، أو رجلاً وامرأتين .
ومعنى : ( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ) [ 281 ] .
أي من العدول المرضيين ، وإنما تجوز شهادة النساء عند مالك ، ومن قال بقوله في الأموال خاصة ؛ لأنه المكان الذي تكون فيه لا يتعدى إلى غيره( {[9099]} ) .
قوله : ( فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) [ 281 ] .
أي فتصير إحداهما ذكراً باجتماعهما( {[9100]} ) . تقول العرب " اذَّكَرَتِ( {[9101]} ) المَرْأَةُ " إذا ولدت ذكراً( {[9102]} ) ، قال ذلك ابن عيينة( {[9103]} ) . وليس هو عنده من الذِّكر بعد النسيان( {[9104]} ) .
وأكثر الناس على أنه من الذكر بعد النسيان لقوله تعالى : ( أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ) أي إن تنسى( {[9105]} ) فتذكرها الأخرى( {[9106]} ) ما نسيت( {[9107]} ) .
قوله : ( وَلاَ يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا )[ 281 ] .
أي لا يتخلفوا عن أداء الشهادة إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق . قاله قتادة والحسن( {[9108]} ) .
وقيل : معناه : لا يتأخروا إذا دُعُوا ليؤدوا ما قد شهدوا عليه ، وذلك إذا لم يجد غيره ، فإن وجد غيره( {[9109]} ) فهو مخير/ فأما إذا دعيت إلى شهادة لم تشهد بعد بها ، فأنت مخير في ذلك( {[9110]} ) .
هذا/ قول مجاهد وعطاء( {[9111]} ) وغيرهما( {[9112]} ) . وهو قول مالك .
والألف واللام في ( الشُّهَدَاءُ ) يدلان على أنه لشهادة( {[9113]} ) متقدمة إذا دعوا [ ليوصلوها إلى ]( {[9114]} ) حكم ، فلا يتخلفوا إذا لم يوجد( {[9115]} ) غيرهم( {[9116]} ) .
وعن عطاء أنه إذا دعي ليشهد لزمه ذلك( {[9117]} ) .
قوله : ( وَلاَ تَسْئَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً اَوْ كَبِيراً اِلَى أَجَلِهِ ) [ 281 ] .
أي لا تملوا أن تكتبوا صغير حقوقكم وكبيرها إلى أجله ، فإن الكتاب أحضر( {[9118]} ) للأجل والمال( {[9119]} ) .
( ذَلِكُمُ أَقْسَطُ )( {[9120]} ) [ 281 ] أي أعدل .
( وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا ) [ 281 ] .
أي أقرب ألا تشكوا في الدين والأجل . ثم أرخص في التجارة الحاضرة( {[9121]} ) التي هي يداً( {[9122]} ) بيد غير أن يكون طعام في طعام متفاضلاً ألا تكتبوها( {[9123]} ) .
ثم قال : ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) [ 281 ] .
قال الضحاك : " ما كان من بيع حاضر ، فإن شاء أشهد وإن شاء ترك . وما كان من بيع إلى أجل فليشهد " ( {[9124]} ) .
قال مالك : " هو مخير في الإشهاد ، وتركه " ( {[9125]} ) .
/ويروى عن ابن عمر أنه قال( {[9126]} ) : " الشهادة واجبة في كل ما يباع من قليل أو كثير بقوله عز وجل : ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ )( {[9127]} ) .
وهذا عند جماعة منسوخ بقوله : ( فإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذِي اؤتُمِنَ أَمَانَتَهُ ) ، وهو نسخ/فرض إلى نَدَب( {[9128]} ) ، كنسخ رمضان ليوم عاشوراء ؛ من شاء صامه ، ومن شاء تركه . وكالامتحان ؛ من امتحن ، ومن شاء ترك ، بعد قوله : ( فَامْتَحِنُوهُنَّ )( {[9129]} ) . فكان الإشهاد واجباً ثم صار ندباً بقوله : ( فإِنَ اَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً )( {[9130]} ) . ففي( {[9131]} ) هذا الحكم ثلاثة أقوال : الأول : أنه( {[9132]} ) محكم يعمل به ، والثاني : أنه منسوخ ، والثالث : أنه ندب وترغيب .
قوله : ( وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ) [ 281 ] .
قال الحسن وغيره : " معناه لا يضار كاتب فيزيد ما لم يملل عليه في الكتاب أو يُحرّف( {[9133]} ) ، ولا شهيد فيكتم الشهادة أو يغيرها " ( {[9134]} ) .
وقال ابن عباس وغيره : " معناه لا يضارا( {[9135]} ) فيتخلفا عن الكتابة والشهادة ويقولان : علينا شغل ولنا حاجة " ( {[9136]} ) .
وقيل : المعنى : لا [ يضار فيما قد شهدا ]( {[9137]} ) فيه فيتخلفا( {[9138]} ) عن أدائه إلى الحاكم( {[9139]} ) .
وفي كل هذه الأقوال يرتفع [ الكاتب والشهيدعاً بفعلهما ]( {[9140]} ) .
وروي عن( {[9141]} ) عمر رضي الله عنه أنه كان( {[9142]} ) يقرأ : " وَلاَ يُضَارَر " براءين ظاهرتين الأولى مفتوحة( {[9143]} ) .
وكذلك روى الضحاك عن ابن مسعود . وكذلك روى ابن( {[9144]} ) كثير عن مجاهد . وتأويله : أن يضارا في أن يدعيا( {[9145]} ) وعنهم غنى ، ويشغلا( {[9146]} ) عن أشغالهما ، ويعنفا تعمداً( {[9147]} ) .
وقال الضحاك : " هو أن يكونا على حاجة مهمة فيقولان : اطلب غيرنا ، فيقول : إن الله أمركما( {[9148]} ) بذلك ، ليؤثمهما " ( {[9149]} ) .
وكذلك قال السدي وطاوس( {[9150]} ) ، وهو اختيار الطبري( {[9151]} ) ، لأن الخطاب من أول الآية( {[9152]} ) إنما هو للمكتوب( {[9153]} ) له والمشهود له ، وليس للكاتب والشاهد خطاب تقدم فيرد هذا عليه ، ويبين هذا قوله : ( وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) ، ولم يقل : " وإن تفعلا " ، فيرد على الكاتب( {[9154]} ) والشاهد إنما رده على أهل الكتابة/ والشهادة فالنهي لهم أبين ، ألا يضاروا الكاتب والشهيد فيشغلوهما عن شغلهما وهم يجدون غيرهما( {[9155]} ) .
ومعناه : وإن تضاروهما فإنه إثم حال بكم( {[9156]} ) . فيكون الكاتب والشهيد على هذا التأويل مرفوعين على أنهما مفعولان لم يسم فاعلهما( {[9157]} ) .
وكان الزجاج يختار أن يكون النهي للكاتب ألا يزيد في كتابته ولا يحرف ، و[ للشهيد( {[9158]} ) ألا ] يتخلف ولا يغير ، ويكون قوله : ( وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ )( {[9159]} ) رداً إلى الكاتب والشهداء ؛ أي إن حرفتم أو زدتم أو تخلفتم من غير عذر فإنه إثم وخروج عن الحق .
والهاء في ( فَإِنَّهُ ) عائدة( {[9160]} ) على الضرار( {[9161]} ) .
وقيل : على الفعل ، أي فإن هذا الفعل فسوق بكم( {[9162]} ) .
وقيل : الفسوق هنا الكذب في الشهادة والكتاب( {[9163]} ) .
قوله : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) [ 281 ] .
أي في ترك المضارة ، وفيما تقدم ذكره من حدوده .
قوله : ( وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) [ 281 ] .
أي يبين الله لكم الواجب لكم وعليكم( {[9164]} ) لتعمَلُوا به .
( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ 281 ] .
أي يعلم جميع ما تعملون ويحصبها عليكم ليجازيكم بها ، فاحذروا المخالفة .