فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا بخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أولا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم 282

( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ) هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا ، أي إذا داين بعضكم بعضا وعامله بذلك سواء كان معطيا أو آخذا ، وذكر الدين بعد ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) وقيل إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله فاكتبوه ، ولو قال فاكتبوه الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله ( إذا تداينتم بدين ) والدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة فإن العين عند العرب ما كان حاضرا والدين ما كان غائبا .

وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله ( إلى أجل مسمى ) يعني إلى مدة معلومة الأول والآخر ، مثل السنة والشهر ، والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محل الأجل ، وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصا أجل السَّلم .

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم " {[290]} وقد قال بذلك الجمهور ، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين قالوا ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك وجوزه مالك ، قال ابن عباس : لما حرم الربا أباح السلم .

( فاكتبوه ) أي الدين بأجله بيعا كان ذلك أو سلما أو قرضا لأنه أدفع للنزاع وأقطع للخلاف ، قال ابن عباس : نزلت يعني هذه الآية في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم ، وأخرج البخاري وغيره عنه : قال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله قد أحله وقرأ هذه الآية .

( وليكتب بينكم كاتب ) هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وظاهر الأمر الوجوب ، وبه قال عطاء والشعبي وابن جريج والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري ، وأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ولم يوجد كاتب سواه وقيل الأمر للندب والاستحباب ، وبه قال الجمهور .

( بالعدل ) صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانبين ، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب منصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه وقلمه هوادة لأحدهما على الآخر ، بل يتحرى الحق بينهم والعدالة فيهم .

( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ) النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم أي لا يمتنع أحد من الكتاب من أن يكتب كتاب التداين على الطريقة التي علمه الله من الكتابة أو كما علمه الله بقوله بالعدل ( فليكتب ) بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخيره بل يكتب ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة ويكون كل واحد منهما آمنا من إبطال حقه وأن يحترز من الالفاظ التي يقع النزاع فيها .

( وليملل ) الإملال والإملاء لغتان ، الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد ، والثانية لغة بني تميم فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى ( فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) والإدغام في مثل ذلك جائز لا واجب .

( الذي عليه الحق ) هو من عليه الدين أمره الله تعالى بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون على اقراره بثبوت الدين في ذمته ( وليتق الله ) الذي عليه الحق ( ربه ) أمره بالتقوى فيما يمليه على الكاتب فلا يجحد جميع الحق والبعض كما سيأتي ، وبالغ في ذلك بالجمع بين الإسم والوصف ( ولا يبخس منه شيئا ) نهاه عن البخس وهو النقص ، وقيل إنه نهي للكاتب ، والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ولو كان نهيا للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص .

( فإن كان الذي عليه الحق ) إظهار في مقام الإضمار لزيادة الكشف والبيان لا لأن الأمر والنهي لغيره ( سفيها ) السفيه هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء ، شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج ، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى ، وبالجملة فالسفيه هو المبذر إما لجهله بالتصرف أو لتلاعبه بالمال عبثا مع كونه لا يجهل الصواب ، وقيل الطفل أي جاهلا بالإملاء .

( أو ضعيفا ) وهو الشيخ الكبير أو الصبي ، قال أهل اللغة : الضعف بضم الضاد في البدن وفتحها في الرأي لعته أو جنون ( أو لا يستطيع أن يمل هو ) يعني لخرس أو عي أو عجمة في كلامه أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب أو يجهل بماله وعليه أو لا يقدر على التعبير كما ينبغي ، فهؤلاء كلهم لا يصح إقرارهم فلا بد أن يقوم غيرهم مقامهم ، وقيل إن الضعيف هو المدخول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء ، والذي لا يستطيع هو الصغير .

( فليملل وليه ) الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيمل عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله ، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعفه وليه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي ، ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي .

وقال الطبري : إن الضمير في قوله وليه يعود إلى الحق ، وهو ضعيف جدا .

قال القرطبي في تفسيره : وتصرف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف انتهى .

( بالعدل ) أي الصدق من غير زيادة ولا نقص .

( واستشهدوا شهيدين ) الاستشهاد طلب الشهادة وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة ( من رجالكم ) أي كائنين من المسلمين فيخرج الكفار ، ولا وجه لخروج العبيد عن هذه الآية فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين ، وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل واسحق بن راهويه وأبو ثور .

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق ، وقال الشعبي والنخعي : تصح في الشئ اليسير دون الكثير ، واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة ، والعبيد لا يملكون شيئا تجري فيه المعاملة ، ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

وأيضا العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك . وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب أو مندوب ؟ قال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي الظاهري وابنه أنه واجب ، ورجحه ابن جرير الطبري ، وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه أنه مندوب .

وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع واستدل الموجبون بقوله تعالى ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله ( واستشهدوا ) فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة .

( فإن لم يكونا رجلين ) أي الشاهدان أي بحسب القصد والارادة أي فإن لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين ( فرجل وامرأتان ) أي فليشهد رجل وامرأتان أوفرجل وامرأتان يكفون ، كائنون ( ممن ترضون ) دينهم وعدالتهم حال كونهم ( من الشهداء ) .

و فيه أن المرأتين في الشهادة برجل ، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة .

و اختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي ؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية .

وذهب أبو حنيفة و أصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك .

وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي ، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه وهو زيادة لم يخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها ، وقد أوضحنا ذلك في شرح بلوغ المرام ، وأوضحه الشوكاني في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته .

ومعلوم عند كل من يفهم انه ليس في هذه الآية ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين ، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبينة على جرف هار هي قولهم إن الزيادة على النص نسخ ، وهذه دعوى باطلة بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها ، وقد أوضحت ذلك في كتابي حصول المأمول من علم الأصول فليرجع إليه .

وأيضا كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب ، ولا بيمين الرد على الطالب ، وقد حكموا بهما ، والجواب الجواب .

( أن تضل إحداهما ) قال أبو عبيد : معنى تضل تنسى أي لنقص عقلهن وضبطهن ، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ( فتذكر إحداهما ) أي الذاكرة ( الأخرى ) أي الناسية ، قرئ فتذكر بالتخفيف ومعناها تزيدها ذكرا وقراءة الجماعة بالتشديد أي تنبهها إذا غفلت ونسيت .

وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء أي فليشهد رجل ولتشهد امرأتان عوضا عن الرجل الآخر لأجل تذكير إحداهما الأخرى إذا ضلت ، وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضا عن الرجل الواحد ، فقيل وجهه أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .

والعلة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته وأبهم الفاعل في تضل وتذكر لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان ، فالمعنى إن ضلت هذه ذكرتها هذه وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين أي إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها الأخرى .

وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال .

وقد يكون الوجه في الإبهام ان ذلك يعني الضلال والتذكير يقع بينهما متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه ، وضلت تلك عن وجه آخر ، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتهما .

قال سفيان بن عيينة : معنى قوله ( فتذكر إحداهما الأخرى ) تصيرها ذكرا يعني ان مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد ، وروى نحوه عن أبي عمرو بن العلاء ، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل .

( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل ، وقيل إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم ، وحملها الحسن على المعنيين وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام .

( ولا تسأموا ) أي لا تملوا ولا تضجروا ، والخطاب للمؤمنين أو للمتعاملين أو للشهود ( أن تكتبوه ) أي الدين الذي تداينتم به وقيل الحق وقيل الشاهد وقيل الكتاب ، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا .

ثم بالغ في ذلك فقال ( صغيرا أو كبيرا ) أي لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيرا أو قليلا وعلى أي حال كان الكتاب مختصرا أو مشبعا ، وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه ان يقال أن هذا مال صغير أي قليل لا احتياج إلى كتبه ( إلى أجله ) أي إلى محل الدين أو الحق .

( ذلكم ) أي المكتوب المذكور في ضمير قوله أن تكتبوه ( أقسط عند الله ) أي أعدل وأحفظ وأصح ، من القسط بالكسر ، والقسوط الجور والعدول عن الحق ( وأقوم للشهادة ) أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها ، وهو مبني من أقام وكذلك أقسط مبني من فعله أي أقسط وقد صرح سيبويه بأنه قياسي أي بناء أفعل التفضيل .

( وأدنى أن لا ترتابوا ) أي أقرب لنفي الريب في معاملاتكم أي الشك ، وذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائنا ما كان .

( إلا أن تكون تجارة ) أي تقع او توجد تجارة على أن كان تامة ،

والتجارة تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء والزيادة بالأرباح ، والاستثناء منقطع أي لكن وقت تبايعكم وتجارتكم فإنه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها ، وقال أبو البقاء إنه متصل والأول أولى ، وقرئ بالنصب على الناقصة أي تكون التجارة تجارة ( حاضرة ) بحضور البدلين وهي تعم المبايعة بعين أو دين ( تديرونها بينكم ) أي تتعاطونها يدا بيد ، فالإدارة التعاطي والتقابض فالمراد التبايع الناجز يدا بيد .

( فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها ) أي فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته ، وإنما رخص الله في ترك الكتابة في هذا النوع من التجارة لكثرة جريانه بين الناس ، فلو كلفوا الكتابة فيه لشق عليهم ، ولأنه إذا أخذ كل واحد حقه في المجلس لم يكن هناك خوف الجحود فلا حاجة إلى الكتابة .

( وأشهدوا إذا تبايعتم ) قيل معناه هذا التبايع المذكور هنا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي ، وقيل معناه أي تبايع كان حاضرا أو كالئا لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف ، وأقطع لمنشأ الشجار ، وهذا وما قبله أمر ندب وقد تقدم قريبا ذكر الخلاف في كون الإشهاد واجبا أو مندوبا .

( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل أو للمفعول ، فعلى ألأول معناه لا يضار كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما إما بعدم الإجابة أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابته ، ويدل على هذا قراءة عمر وابن عباس وغيرهما " لا يضارِر " بكسر الراء الأولى وعلى الثاني لا يضارَر كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما ويضيق عليهما في الإجابة ويؤذيا إن حصل منهما التراخي أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد ، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود " لا يضارر " بفتح الراء الأولى ، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعا وقد تقدم في تفسير قوله تعالى ( لا تضار والدة بولدها ) ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله تعالى .

( وإن تفعلوا ) أي ما نهيتم عنه من المضارة ( فإنه ) أي فعلكم هذا ( فسوق بكم ) خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم ( واتقوا الله ) في فعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه ( ويعلمكم الله ) ما تحتاجون إليه من العلم ، حال مقدرة أو مستأنفة وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه ، ومنه قوله تعالى ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) ( والله بكل شئ عليم ) هذا آخر آية الدَّين .

وقد حث الله سبحانه فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببا لمصالح المعاش والمعاد . قال القفال : ويدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية قي الأكثر على الاختصار ، وفي هذه الآية بسط شديد ، ألا ترى أنه قال : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) ثم قال ثانيا ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) ثم قال ثالثا ( ولا يأب كاتب ان يكتب كما علمه الله ) فكان هذا كالتكرار لقوله ( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) لأن العدل هو ما علمه الله ثم قال رابعا ( فليكتب ) وهذا إعادة للأمر الأول ثم قال خامسا ( وليملل الذي عليه الحق ) لأن الكاتب العدل إنما يكتب ما يملى عليه ، ثم قال سادسا ( وليتق الله ربه ) وهذا تأكيد ، ثم قال سابعا ( ولا يبخس منه شيئا ) وهذا كالمستفاد من قوله ( وليتق الله ربه ) ثم قال ثامنا ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ) وهو أيضا تأكيد لما مضى ثم قال تاسعا ( ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ان لا ترتابوا ) فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة .

وكل ذلك يدل على المبالغة في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ، ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخطه من الرياء وغيره ، والمواظبة على ذكر الله وتقواه ، ذكره الخطيب .


[290]:مسلم 1604 –البخاري 1123.