{ يا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } شروعٌ في بيان حال المُداينة الواقعةِ في تضاعيف المعاوضات الجاريةِ فيما بينهم ببيع السلعِ بالنقود بعد بيانِ حال الربا ، أي إذا داين بعضُكم بعضاً وعامله نسيئةً معْطِياً أو آخذاً ، وفائدةُ ذكرِ الدين دفعُ توهُّمِ كونِ التدايُن بمعنى المُجازاة أو التنبيهُ على تنوعه إلى الحالِّ والمؤجّل وأنه الباعثُ على الكتابة ، وتعيينُ المرجع للضمير المنصوب المتصل بالأمر { إلى أَجَلٍ } متعلقٌ بتداينتم أو بمحذوف وقع صفةً لدَيْنٍ { مُّسَمًّى } بالأيام أو الأشهرُ ونظائرِهما مما يفيد العِلمَ ويرْفَعُ الجهالة لا بالحصاد والدّياس ونحوِهما مما لا يرفعها { فاكتبوه } أي الدَّين بأجله لأنه أوثقُ وأرفعُ للنزاع ، والجمهورُ على استحبابه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المرادَ به السَّلَم وقال : «لما حرم الله الربا أباح في السَّلَف » { وَلْيَكْتُب بَيْنَكُم كَاتِبٌ } بيان لكيفية الكتابةِ المأمورِ بها وتعيينٌ لمن يتولاها إثرَ الأمرِ بها إجمالاً ، وحذفُ المفعول إما لتعيُّنه أو للقصد إلى إيقاع نفسِ الفعلِ أي ليَفعلِ الكتابةَ ، وقوله تعالى : { بَيْنِكُمْ } [ البقرة ، الآية : 282 ] للإيذان بأن الكاتبَ ينبغي أن يتوسّط بين المتداينين ويكتُبَ كلامَهما ولا يكتفيَ بكلام أحدِهما ، وقولُه تعالى : { بالعدل } متعلق بمحذوف هو صفةٌ لكاتب أي كاتبٌ كائنٌ بالعدل أي وليكن المتصدِّي للكتابة من شأنه أن يكتُبَ بالسوية من غير مَيل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقُص ، وهو أمرٌ للمتداينين باختيار كاتبٍ فقيهٍ ديِّن حتى يجيء كتابُه موثوقاً به معدّلاً بالشرع ، ويجوز أن يكون حالاً منه أي ملتبساً بالعدل ، وقيل : متعلقٌ بالفعل أي وليكتبْ بالحق { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } أي ولا يمتنعْ أحدٌ من الكُتاب { أَن يَكْتُبَ } كتابَ الدين { كَمَا عَلَّمَهُ الله } على طريقة ما علّمه من كَتْبه الوثائقَ أو كما بينه بقوله تعالى : { بالعدل } أو لا يأب أن ينفعَ الناسَ بكتابته كما نفعه الله تعالى بتعليمِ الكتابة كقوله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص ، الآية : 77 ] { فَلْيَكْتُبْ } تلك الكتابةَ المُعْلمة ، أَمَر بها بعد النهي عن إبائها تأكيداً لها ، ويجوز أن تتعلقَ الكافُ بالأمر على أن يكون النهيُ عن الامتناع منها مطلقةً ثم الأمرُ بها مقيدة .
{ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق } الإملال هو الإملاءُ أي وليكن المُمْلي مَنْ عليه الحقُّ لأنه المشهودُ عليه فلا بد أن يكون هو المُقِرَّ { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } جُمع ما بين الاسمِ الجليلِ والنعتِ الجميل للمبالغة في التحذير ، أي وليتقِ المُمْلي دون الكاتِب كما قيل لقوله تعالى : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ } أي من الحق الذي يْمليه على الكاتب { شَيْئاً } فإنه الذي يُتوقع منه البخسُ خاصة ، وأما الكاتبُ فيُتوقع منه الزيادةُ كما يُتوقع منه النقصُ ، فلو أُريد نهيُه لنهى عن كليهما ، وقد فَعل ذلك حيث أمَر بالعدل ، وإنما شُدِّد في تكليف المُمْلي حيث جُمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهيِّ عنه ، فإن الإنسان مجبولٌ على دفع الضرر عن نفسه وتخفيفِ ما في ذمته بما أمكن { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } صَرَّح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشفِ والبيان لا لأن الأمرَ والنهيَ لغيره { سَفِيهًا } ناقصَ العقلِ مبذّراً مجازفاً { أَوْ ضَعِيفًا } صبياً أو شيخاً مختلاً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } أي غيرَ مستطيعٍ للإملاء بنفسه لخرَسٍ أو عَيَ أو جهلٍ أو غير ذلك من العوارض { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } أي الذي يلي أمرَه ويقوم مقامه من قيِّم أو وكيل أو مترجم { بالعدل } أي من غير نقص ولا زيادة . لم يكلَّف بعين ما كُلف به من عليه الحقُّ لأنه يُتوقع منه الزيادةُ كما يتوقع منه البخس { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ } أي اطلُبوهما ليتحملا الشهادةَ على ما جرى بينكم من المداينة ، وتسميتُهما شهيدين لتنزيل المُشارف منزلةَ الكائن { من رجَالِكُمْ } متعلق باستشهدوا ، ومن ابتدائية أو بمحذوف وقع صفةً لشهيدين ، ومن تبعيضية أي شهيدين كائنين من رجال المسلمين الأحرار إذ الكلامُ في معاملاتهم ، فإن خطاباتِ الشرعِ لا تنتظمُ العبيدَ بطريق العبارة كما بُيِّن في موضعه ، وأما إذا كانت المداينةُ بين الكفَرَة أو كان من عليه الحقُّ كافراً فيجوز استشهادُ الكافر عندنا .
{ فَإِن لَمْ يَكُونَا } أي الشهيدان جميعاً على طريقة نفي الشمولِ لا شُمولِ النفي { رجُلَيْنِ } إما لإعوازهما أو لسببٍ آخرَ من الأسباب { فَرَجُلٌ وامرأتان } أي فليشهد رجلٌ وامرأتانِ يكفُون ، وهذا فيما عدا الحدودَ والقصاصَ عندنا ، وفي الأموال خاصة عند الشافعي { مِمَّن تَرْضَوْنَ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لرجل وامرأتان أي كائنون مرضيّين عندكم ، وتخصيصُهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصافِ النساء به ، وقيل : نعتٌ لشهيدين أي كائنين ممن ترضَوْن ، ورُد بأنه يلزم الفصلُ بينهما بالأجنبي ، وقيل : بدل من رجالكم بتكرير العامل ، ورد بما ذكر من الفصل ، وقيل : متعلق بقوله تعالى : { واستشهدوا } [ البقرة ، الآية : 272 ] فيلزم الفصل بين اشتراط المرأتين وبين تعليله وقوله عز وجل : { مِنَ الشهداء } متعلق بمحذوف وقع حالاً من الضمير المحذوف الراجعِ إلى الموصول أي ممن ترضَوْنهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعد التهم وثقتِكم بهم ، وإدراجُ النساء في الشهداء بطريق التغليب { أَن تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } تعليلٌ لاعتبار العدد في النساء ، والعلةُ في الحقيقة هي التذكيرُ ولكنَّ الضلالَ لما كان سبباً له نُزّل منزلتَه كما في قولك : أعددتُ السلاحَ أن يجيء عدو فأدفعَه ، كأنه قيل : لأجل أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلت عن الشهادة بأن نسيتها ، ولعل إيثارَ ما عليه النظم الكريم على أن يقال : أن تضل إحداهما فتذكرَها الأخرى لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاصِ الضلال بإحداهما بعينها ، والتذكيرِ بالأخرى ، وقرئ فتُذْكِرَ من الإذكار وقرئ فتذاكِرَ وقرئ إنْ تضلَّ على الشرط فتذكرُ بالرفع كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة ، الآية 95 ] { وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُوا } لأداء الشهادة أو لتحمُّلها ، وتسميتُهم شهداءَ قبل التحمل لما مرَّ من تنزيل المُشارف منزلةَ الواقع وما مزيدة . عن قتادة أنه كان الرجل يطوف في الحِواء العظيم فيه القوم فلا يتبعُه منهم أحد فنزلت .
{ وَلاَ تسأموا } أي لا تَملُّوا من كثرة مدايناتِكم { أَن تَكْتُبُوهُ } الدينَ أو الحقَّ أو الكتابَ وقيل : كنى به عن الكسل الذي هو صفةُ المنافق كما ورد في قوله تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } [ النساء ، الآية 142 ] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يقولُ المؤمن كسِلْتُ » { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } حال من الضمير أي حالَ كونه صغيراً أو كبيراً أي قليلاً أو كثيراً أو مجملاً أو مفصّلاً { إِلَى أَجَلِهِ } متعلقٌ بمحذوف وقعَ حالاً من الهاء في تكتبوه أي مستقراً في الذمة إلى وقت حلولِه { ذلكم } الذي أقر به المديونُ إشارةً إلى ما أُمر به من الكَتْب ، والخطابُ للمؤمنين { أَقْسَطُ } أي أعدل { عَندَ الله } أي في حكمه تعالى { وَأَقْوَمُ للشهادة } أي أثبتُ لها وأعونُ على إقامتها وهما مبنيان من أقسطَ وأقامَ فإنه قياسيٌّ عند سيبويه أو من قاسط بمعنى ذي قِسط وقويم ، وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده { وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } وأقرب إلى انتفاء رَيبكم في جنس الدَّين وقدرِه وأجله وشهودِه ونحو ذلك { إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } استثناءٌ منقطع من الأمر بالكتابة أي لكنْ وقتَ كونِ تدايُنِكم أو تجارتكم تجارةً حاضرةً بحضور البدلين تُديرونها بينكم بتعاطيهما يداً بيد { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا } أي فلا بأسَ بألا تكتبوها لبُعده عن التنازع والنسيان ، وقرئ برفع تجارةٌ على أنها اسم كان وحاضرةٌ صفتُها وتديرونها خبرُها أو على أنها تامة .
{ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } هذا التبايُعَ أو مطلقاً لأنه أحوطُ ، والأوامرُ الواردةُ في الآية الكريمة للندب عند الجمهور وقيل : للوجوب ثم اختلف في أحكامها ونسخها { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } نهيٌ عن المضارة محتمل للبناءين كما ينبئ عنه قراءةُ من قرأ ولا يضارِرْ بالكسر والفتح وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتغييرِ والتحريفِ في الكتابة والشهادة ، أو نهيُ الطالب عن الضرار بهما بأن يُعْجِلَهما عن مَهمّتهما أو يكلفَهما الخروجَ عما حُدّ لهما ، أو لا يعطيَ الكاتبَ جُعلَه وقرئ بالرفع على أنه نفي في معنى النهي { وَإِن تَفْعَلُواْ } ما نُهيتم عنه من الضرار { فَإِنَّهُ } أي فعملُكم ذلك { فُسُوقٌ بِكُمْ } أي خروجٌ عن الطاعة ملتبس بكم { واتقوا الله } في مخالفة أوامرِه ونواهيه التي من جملتها نهيُه عن المضارة { وَيُعَلّمُكُمُ الله } أحكامه المتضمنة لمصالحكم { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } فلا يكاد يخفى عليه حالُكم وهو مجازيكم بذلك ، كُرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث لإدخال الروعة وتربية المهابةِ وللتنبيه على استقلال كلَ منها بمعنى على حياله فإن الأولى حثٌّ على التقوى والثانية وعدٌ بالإنعام والثالثة تعظيمٌ لشأنه تعالى .