الآية 282 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } فيه دليل جواز السلم من قوله : { إذا تداينتهم بدين } لأن المداينة هو فعل اثنين ، وهو السلم نفسه لأنه دين من الجانبين جميعا . وعلى ذلك روي عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، أنه قال : ( اشهدوا{[3434]} أن السلم المضمون مما أجازه الله تعالى في كتابه الكريم ) ثم تلا هذه الآية .
فأما الخبر الذي جاء أنه نهى عن [ الدين بالدين ]{[3435]} فإن ذلك على فوت القبض فيه ؛ دليله جواز ما كان دينا بدين إذا قبض أحد الجانبين . قال آخرون : { إذا تداينتهم بدين } هو بيع كل دين إلى أجل مسمى ، فهو يسمى التداين كما يسمى البائع والمشتري المتبايعين{[3436]} لأن كل واحد منهما بائع في وجه منهما بائع في وجه [ ومشتر في وجه ]{[3437]} . فعلى ذلك المداينة والتداين ، وقوله تعالى : { إلى أجل مسمى } ؛ فالعرف في الإسلام عند الناس ألا يخلي عن الأجل ، فصار الأجل العرف شرطا في جواز السلم ، وإن لم يرجل ؛ لأن الرجل لا يسلم السلف ليؤديه حاله الإسلاف ؛ لأن الحاجة هي التي تحمله على الإسلاف ؛ فهو إنما يتسلف ليؤديه في وقت ثان لأنه لو كان عنده حاضرا لا يحتاج إلى غيره ، ولكنه يبيعه ، فيصل إلى حاجته ، ولا يتحمل المؤنة العظيمة ، فصار في العرف كأنه بأجل يتسلف{[3438]} لترك بيان الأجل ، والله أعلم . وعلى ذلك [ روي ]{[3439]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( من سلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) [ البخاري : 2240 ] .
ثم أمر جل وعلا ، بالكناية في التدائن بقوله : { فاكتبوه } ، وذلك ، والله أعلم لأنه وصل إلى حاجته بقبض رأس المال ، والآخر لم يصل ، فلعل ذلك يحمله على إنكار الحق والجحود ، فأمر جل وعلا بالكناية احترازا عن الإنكار وجحود الحق له ؛ لأنه إذا تذكر أنه كتب ، وأشهد عليه ، يرتدع عن الإنكار والجحود . فهو كما ذكرنا في قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] لأنه إذا ذكر أنه يقتل ارتدع عن قتل غيره ، فكذلك /51- أ/ إذا ذكر أنه مكتوب عليه يمتنع عن الإنكار والجحود لما يخاف ظهور كذبه وفضيحته على الناس ، والله أعلم .
ولا كذلك مع العين بالعين لأن كل واحد منهما لا يصل إلا بما يصل إليه الآخر ، فليس هنالك للإنكار معنى ، لذلك لم يؤمر بالكتابة في بيع الأعيان ، وأمر في المداينات ، والله أعلم .
ويحتمل الأمر بالكتابة في التداين وجها{[3440]} آخر ، وهو أنه يجوز أن يتسنى ، فينكر ذلك ، أو ينسى بعضه ويذكر بعضا{[3441]} ، فأمر الله تعالى بالكتابة لئلا يبطل حق الآخر بترك الكتابة ، ولا كذلك بيع العين لذلك افترقا ، والله أعلم .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : والنسيان يعقب التنازع ، والمنازعة توجب التخالف ، وفيه الفساد ، فأمر بالكتابة لدفع ذلك وللوفاء بالحق ودفع الخصومات ، والله أعلم .
ولا يحتمل ألا{[3442]} يفرض الكتابة ، وأكثر ما فيه أن يحفظ الحق ، ولمن له تركه ، كذلك ألا يقضبه مع ما ليست في عقد أو فسخ ، فيكلم بوجوب واختيار ، إنما هي الحق ، فله فعل ذلك ، والله أعلم .
ثم اختلف في الكتابة : قال بعضهم : هي واجبة لازمة ، واستدلوا على وجوبها بقوله تعالى :
{ إلا أن تكون تجارة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } أخبر برفع الجناح في التجارة الحاضرة ، فلو كانت في المداينة [ غير واجبة لم يكن لرفع الجناح فيها معنى ، فدل أنها لازمة في المداينة ]{[3443]} حين رفع الجناح منها .
وأما عندنا فهي ليست بواجبة لأنه قال عز وجلا : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } [ البقرة : 283 ] ، ثم أمر ، فقال{[3444]} : { فإن أمن بعضكم بعضا فلود الذي اؤتمن أمانته } [ البقرة : 283 ] ؛ ذكر الرهن بدلا عن الكتابة ، ثم ذكر ترك . الرهن بالائتمان . فإذا كان له ترك الارتهان بالائتمان ، وهو بدل الكتابة ، فعلى ذلك له ترك الكتابة بالائتمان إن كان أصله مفروضا لم يتحمل ترك بدله بالائتمان . فإذا ذلك له دل أنه ليس بمفروض ولا لازم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } فهذا لأن الكاتب مأمول عليه ، فيؤدي حق ما ائتمن فيه ، لا يزيد على ما أملي عليه بالنصيحة وأداء الأمانة . وهكذا الواجب على كل محكم{[3445]} بين اثنين أن يحكم بالعدل والنصيحة وأداء الأمانة لقوله{[3446]} تعالى : { إن اله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمته بين الناس أن تحكموا بالعدل } [ النساء : 58 ] وقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل بينكم } [ المائدة 95 ] وقوله{[3447]} تعالى : { وأشهدوا ذوى عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] .
وقوله تعالى : { ولا يأب كاتب أن يكتب كما عمله الله فليكتب } ؛ قال بعضهم : هذا ؛ وذلك أن{[3448]} الكتبة كانوا في صدر الإسلام قليلا ، فنهوا عن ترك الكناية إذ في ذلك بطلان حقوق الناس وذهابها .
وأما اليوم فلا بأس بالإنباء عليها [ من ]{[3449]} لم يجد من يكتب له بالأجر ، فلا يبطل حقه .
وفيه وجه آخر ، وهو أن قوله تعالى : { ولا يأب كاتب } [ أي لا يأب الكاتب ]{[3450]} إذا كتب أن يكتب بالعدل ، أي له ترك الكتابة ، ولكنه{[3451]} إذا كتب لا يكتب إلا بالعدل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { كما عمله الله } وهو نقض على المعتزلة لأنهم يقولون : يكتب ، وإن لم يعلمه الله ، والله عز وجلا أخبر أنه يكتب بتعليم الله إياه ، ولو كان التعليم من الله إتيان الأسباب لم يكن لقوله{[3452]} تعالى : { وما علمناه الشعر } [ يس : 69 ] معنى لأنه قد أعطى أسبابه . والعدل ما ذكرنا : ألا يزيد على الحق ولا ينقص منه ، وأصل العدل هو وضع الشيء موضعه .
وقوله تعالى : { وليملل الذي عليه الحق } ما عليه { وليتق الله ربه [ ولا يبخس } ]{[3453]} ولا ينقص { منه شيئا } ؛ ففيه دلالة على أن القول قوله في قدر الحق حيث أوعد في ما يملي على الكتاب ألا ينقص من حق الطالب شيئا .
وقوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو } قال قائلون : هذا كله واحد : السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل ، وقال آخرون : بل يختلف : السفيه : هو الصغير { فليملل وليه بالعدل } ، والضعيف : هو المريض الذي لا يقدر أن يمل ، والذي لا يستطيع أن يمل : هو الجاهل الذي لا يعرف أن يمل .
ثم اختلف في الولي : قال بعضهم : الولي هو صاحب الحق ، يمل بالعدل بين يدي من عليه الحق لئلا يزيد على ذلك شيئا ، فإذا زاده ، أو نقصه ، أنكر عليه صاحبه ، وقال آخرون : الولي هو وصي الصغير أو ذو النسب{[3454]} منه .
ثم المسألة في الحجر ؛ قال أبو حنيفة رضي الله عنه : ( الحجر لا يمنع عقوده ) وقال محمد بن الحسن : ( لا يجوز عقوده ، ولكن الولي هو الذي يتولى ذلك استدلالا بظاهر قوله : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } وإنما جعل الإملاء إلى الولي لا إليه ، ولو كان يجوز إملاءه لكان لا معنى لجعل ذلك إلى غيره ، دل أنه لا يجوز ) .
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه ذهب إلى أنه يجوز بقوله تعالى : { وإذا تدانيتم بدين } أجاز تداينه ، فدل أن الحجر لا يمنع العقد عليه ولا تداينه ، ولأن السفينة لم يستفد الإذن من السلطان إنما استفاده عن الله تعالى ، ولا يجوز حجر من لم يستفد الأذن{[3455]} منه .
وقوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } لم يجعل الإشهاد شرطا في جواز البيع ، ولكنه معطوف على قوله { فاكتبوه } ؛ أمر جل وعلا بالإشهاد في البيع والتداين للمعنى الذي ذكرنا : أن ترك الإشهاد والكناية يحمله على الإنكار وجحود الحق ، فإذا كان هنالك شهود وكتاب يمتنع عن الإنكار لخوف{[3456]} ظهور الكذب ، ولم يصر شرطا في جواز التداين لأن الإشهاد إنما ذكر بعد المداينة والمبايعة ، وكذلك الكتابة ، فهو لما ذكرنا : أن الإنسان من طبعه النسيان والسهو ، فأمر بالإشهاد والكناية لئلا ينسى ، أو يحمله ترك الإشهاد والكناية على الإنكار .
وأما الأمر بالإشهاد في النكاح ففي عقد النكاح نفسه ؛ دليله قوله [ عليه السلام ]{[3457]} : ( لا نكاح إلا بشهود ) [ نصب الراية 3/167 ] لذلك صار شرطا في عقد النكاح ، ولم يصر شرطا في المبايعة . ووجه آخر [ وهو ]{[3458]} أن الشهادة في النكاح تدفع تهمة الزنى عنهما ، وقد يحوج إليه في أول أحواله ، والحاجة إلى الشهادة في البيع إلى ما يتعقب فيه من توهم وقوع التنازع ؛ إذ له بذل ملكه للآخر من غير عقد بيع ، وليس لها بذل فرجها له من غير عقد النكاح . لذلك صار الإشهاد شرطا في عقد{[3459]} النكاح ، ولم يكن شرطا في البيع ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالهم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } في الآية دلالة [ على أن ]{[3460]} من قضى بالشاهد واليمين قضى بخلاف ظاهر الكتاب ، وهو أيضا خلاف السنة ؛ لأن قوله تعالى : { واستشهدوا } ليس هو الإشهاد ، إنما هو الإحضار للشهادة ؛ إذ العجز لا يقع في الإشهاد إنما يقع عند الاستحضار ، ولو كان بيمينه غنية لم يأمر المرأتين هتك سترهما ، ولأن الآية ذكرت حق الفضاء في المباهاة الواقعة ، والأحكام إلى سبيلها زوم الفصل بالقضاء بين أربابها . فمن فصل القضاء [ بالقضاء ]{[3461]} بالشاهد واليمين جعل على خلاف ما جعله من له نصب الشرائع والحجج ، وقال الله تعالى : { ولا يشرك في حكمه أحد } [ الكهف : 26 ] .
وأما مخالفة السنة فقوله صلى الله عليه وسلم ( البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه ) [ الترمذي 1341 ] فإذا أتى بشاهد واحد لم يخرج الآخر من أن يكون مدعى عليه ؛ فإذا كان كذلك ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة المدعي عليه اليمين ، ولم يجعل اليمين حجة المدعي ، فلذلك{[3462]} قلنا : إنه المخالف لظاهر{[3463]} الكتاب والسنة ، ولأن الله تعالى جعل المرأتين /51-ب/ في حال الضرورة ، وهو حال عدم الرجل . فلو كان يجوز القضاء بالشاهد واليمين لم يحتج إلى أن يكلف النساء من الخروج إلى أبواب القضاء والسلاطين لأداء الشهادة ، وفي ذلك هتك الستر عليهن وكشف عورتيهن وتكلف القضاء فضل التفحص في حالهن ومعرفتهن ، لذلك بطل القضاء بالشاهد واليمين ، والله أعلم .
فإن قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قضى به ، قيل : إنه لم يروا أنه في ما قضى : في الأموال ؟ فلو{[3464]} ثبت أنه في ما قضى لكنا نقضي به .
ثم قال الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين : إنه قضى بالشاهد واليمين في الأمان .
ونحن نقضي بعض أحكام الأمان بالشاهد الواحد إذا كان عدلا ، واليمين باب من يحتاط فيه إذا شهد شاهد أنه أمنه لم يقبل ، ولكن يسترق . وأما الأموال فإن الاحتياط في ذلك ترك القضاء إلى أن تقوم الحجة التي تزيله الشبهة من جميع الوجوه ، وبالله التوفيق .
وأما شهادة النساء فإنها جائزة في الأموال وفي غير الأموال إلا في الحدود خاصة فإنها غير مقبولة . أما جوازها في غير الحدود [ فمقبول ]{[3465]} لأن الله تعالى ذكر التداين ، وذكر في التداين الأجل ، والأجل ليس بمال . ثم أجاز شهادتين في التداين وفي الأجل الذي ليس هو بمال ، دل ذلك أن علة جواز شهادتين ليس هو المالية نفسها ، وأجيزت شهادتين في المالية وفيه ، وهو الأجل . فظهرت أن علتها ليست مالية .
وأما بطلان شاهدين في الحدود فلأن شهادتين إنما أجيزت بحكم البدل عن شهادة الرجال ، والأبدال في الحدود غير مقبولة نحو الوكالات والكفالات . فعلى ذلك شاهدتين لما كانت ، جوازها بحكم البدل ، لم تقبل ، ولأنهن جعلن على السهو والغفلة ونقصان العقل والدين لقوله [ صلى الله عليه وسلم ]{[3466]} : ( إنهن ناقصات عقل ودين ) [ البخاري : 304 ] ، فإذا كان ذلك{[3467]} كذلك أورث ذلك شبهة في الحدود ، والحدود مما فيه الدرء ، لذلك لم تقبل ، والله أعلم ، ولأن شهادتين إنما ذكرت في ما يبتغي به الإعلام لا الإسرار . فعلى ذلك تقبل شهادتين في ما يبتغي ذلك المعنى . وأما الحدود وما يلزم [ بها فإنما يبتغي ]{[3468]} الإسرار والستر ؛ لذلك قلنا إن شهادتين تجوز في النكاح والطلاق والعتاق ؛ لأن النكاح يبتغي فيه الإعلان على ما جاء : ( أعلنوا النكاح ) [ البيهقي في الكبرى 7/288 ] لذلك قبلت ، والله أعلم .
ومعنى آخر أن الخصم أجاز شهادة النساء بالانفراد في كل شيء ما خلا الحدود القصاص ، لذلك قبل بالرجال ، ولأن شهادة النساء أجيرت في الأصل توسيعا ، فلا يجوز أن يرد في ما يتوسع ، ويقبل في ما يضيق . وأمر النكاح والطلاق في الشهادة وأسع ، فهو أحق أن يقبل .
وقوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ؛ فإن قيل{[3469]} : كيف جاء استشهاد المرأتين عند حدود الرجلين ، والله أمر باستحضار الرجلين عند الحاكم للشهادة ، لا أمر بالإشهاد عليها ؟ [ قيل لوجهين :
أحدهما : قوله ]{[3470]} عز وجلا { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } أي لا تكلف النساء حضور أبواب القضاء ومجلسهم لأداء الشهادة إلا عند العجز عن وجود الرجال لما في ذلك هتك أستارهن وكشف عورتهن ، والله أعلم .
والثاني : إن الله تعالى ذكر المرأتين ، وأقامهما مقام رجل فائت ، والرجل الذي قامت امرأتان مقامه هو فائت أبدا ، فهو غير موجود ؛ إذ له أن يشهد عددا على ذلك الحق ، لذلك جازت شهادتين ، وإن كان{[3471]} هناك رجلان ، والله أعلم .
فإن قيل : ما الحكمة في ذكر رجلين دون ذكر العدد أو ذكر واحد ؟ قيل : لوجوه :
أحدهما : ذكر على قدر الأشياء ومراتبها عند الناس ؛ إذا كان أمرا عظيما فضيعا لا تقبل فيه إلا شهادة عدد نحو الزنى كقوله تعالى : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } الآية{[3472]} [ النور : 4 ] ، وإذا كان خسيسا سهلا عند الناس قبل قول الفرد حرا كان أو عبدا من نحو الاستئذان للدخول على آخر ونحوه ، ثم الأموال وغيرها هي المتوسطة المترددة من هذين الحالين ، فقبل الوسط من الشهادة ، ولم يقبل دونها ، والله أعلم .
ووجه آخر : قيل : إنه ذكر ذلك عبارة لا للمعنى{[3473]} المودع فيه ، ولكن سمعا ، فهو على ما ذكر لا يطلب معناه .
والثالث : أن الواحد لم تقبل شهادته في الحقوق بالانفراد لأنه ينتفع بها ؛ لأنه من صدق في قوله يتلذذ بتصدقهم إياه . فعلى ذلك لم يقبل قول المدعي في دعواه ، وإن كان عدلا ، لما ينتفع بالتصديق وقبول قوله فيه . فإذا كانا اثنين صار تلذذ كل واحد منهما صاحبه ، فحصلت الشهادة خالصة صافية ، فقبلت ، والله أعلم .
والرابع : أن الإنسان مطبوع على السهو والغفلة ، فإذا كان فردا يخاف عليه النسيان ، فأمر بضم آخر إليه ليذكر كل واحد منهما صاحبه إذا نسيه . وعلى ذلك يخرج قوله : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } لما ذكرت{[3474]} أنهن جبلن ، وطبعن على فضل السهو والغفلة ، أمر بضم غيرها إليها إذا سهت{[3475]} ، وغفلت عنها .
ثم اختلف في قوله : { شهيدين من رجالكم } قال أصحابنا ، رحمهم الله تعالى : يرجع الخطاب إلى الأحرار خاصة دون العبيد والكفرة أما الكفرة فلأن الخطاب في الابتداء للمؤمنين بقوله : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } الآية ، فخرج الكفار من خطاب الآية ، لذلك لم تقبل شهادتهم على أهل الإسلام . وأما العبيد فلم يدخلوا تحت هذا الخطاب لوجوه :
أحدهما : ما ذكرنا أن ظاهر الخطاب للأحرار دون العبيد لما لا يملكون هم التداين والتبايع . فعلى ذلك الخطاب الشهادة . فإن قيل : أليس العبيد يملكون التبايع والتداين ؟ [ قيل : يملكون بالإذن والتولية ، لا[ يملكون بأنفسهم ، وذلك ]{[3476]} القدر من التداين ]{[3477]} وغيره يملك الكفار ، ثم لم يجب قبول شهادتهم ، ولا دخول تحت ذلك الخطاب ، فكذلك العبيد
والثاني : ما قاله عز وجلا : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } ، ثم لا يملك العبيد الإجابة لكل ما دعوا لحق السادات . فعلى ذلك ليس عليهم الإجابة في الشهادة لحق السادات ، والله اعلم .
والثالث : أن الله تعالى قسم الشهادة قسمة الميراث بقوله : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } وقال في الميراث : { للذكر مثل حظ الأنثيين } [ النساء : 11 ] ، ثم لا حظ للعبيد في الميراث . فعلى ذلك لا حظ لهم في الشهادة .
والرابع : أن الولايات تجري مجرى الشهادات والتمليكات ، ثم لا ولاية{[3478]} تكون للعبد على غيره ولا تمليك . فعلى ذلك الشهادة إذ فيها ولاية وتمليك الحاكم الحكم ، والله أعلم . وعلى ذلك بطلت شهادة الكفار على أهل الإسلام لما لا ولاية لهم عليهم .
والخامس : أن الشهوة بين حالين : بين أن يصدقوا ، فتمضي شهادتهم ، وبين أن يكذبوا [ فلا يضمنوا ]{[3479]} . ولما كان العبيد إذا كذبوا لم يضمنوا ، لأن ضمان الشهادة معروف ، لأنه لا [ بدل به ]{[3480]} بإزائه ، فمن لم يكن من [ أهل الضمان دل أنه ليس ]{[3481]} من أهل الشهادة . وعلى ذلك قلنا : إن النكاح يجوز بشهادة الفاسق والحدود في القذف ، وإنها من أهل الشهادة فيه لأنهما من أهل الضمان ، وإن كانت شهادتهما /52- أ/ ردت لتهمة الكذب في سائر الحقوق . وأما العبد فليس هو من أهل الشهادة بحال للمعنى الذي وصفنا ، والله أعلم .
وألا القياس يقتضي أن تجوزا شهادة العبيد لأنها من حق الله ؟ دليله قوله تعالى : { وأقيموا الشهادة لله } . [ الطلاق : 2 ] وقوله : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } [ المائدة : 8 ] . فإذا كانت من حق الله تعالى ، وحقوق الله تعالى لا يختلف العبيد والأحرار فيها ، فيجب أن تقبل شهادتهم . لكنها لم تقبل للوجوه التي ذكرناها ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } إلى{[3482]} أن قال : { فتذكر إحداهما الأخرى } قد ذكرنا في ما تقدم{[3483]} أنهن لما جلبن ، وطبعن على فضل سهو وغفلة ، ضمت{[3484]} إليها أخرى ليتذكرها{[3485]} الشهادة إذا نسيت .
وفي الآية دلالة أن الرجل إذا نسي الشهادة ، ثم ذكر [ فتذكر ]{[3486]} يجوز أن يشهد ، وإما أخبر بالشهادة ، ولم يتذكر ، لم يجز له أن يشهد قوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } إذ{[3487]} لم يقل : فتخبر إحداهما الأخرى .
وقوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } فيه دلالة أن من المسلمين من لا يكون مرضيا ، وكذلك فيهم من يكون عدلا ، دليله قوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] ، ولو{[3488]} لم يكن فيهم مرضيا وغير مرضي لكان يقول : واشهدوا رجلين منكم ، ولم يشترط فيه العدالة والرضا . وهو على المعتزلة لأنهم يقولون : المسلم لا يكون غير عدل ولا غير مرضي ، وفي الآية التي ذكرنا دلالة ما قلنا ، والله اعلم .
وفي قوله : { ممن ترضون من الشهداء } دلالة أن الشهود إذا شهدوا على المدعي عليه بالحق ، وكلهم مرضيون عنده يجب أن يؤدي غليه حقه لأنا قلنا : إن قوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } أمر باستحضارهم عند الحاكم ، فإذا كان كذلك فهو دليل ما قلنا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } اختلف فيه : قيل : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } للإشهاد ، وقيل : لا يأبوا إذا ما دعوا للأداء وهذا أشبه لأن للشهود أن يقولوا : أحضر الخضم ههنا لنشهد{[3489]} عليه ؟ فإنا لا نحضر المكان الذي هو فيه . وليس هذا القول في الأداء ؛ إذ الأداء لا يكون إلا عند الحاكم ، لذلك كان أولى ، كقوله تعالى : { ولا تكتموا الشهداء } [ البقرة : 283 ] ، ولا يجد من يشهدهم ، ولا يجد من يشهد له غيرهم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : دولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبير إلى أجله } فيه دلالة جواز السلم في الثياب لأن ما يكال ، ويوزن ، لا يقال فيه : الصغير والكبير ، ولا يكتب صغيرة وكبيره ، إنما يقال ذلك في العددي .
وقوله تعالى : { ذالكم أقسط عند الله } يقول : أعدل عند الله { وأقوم للشهداء } في الحجة .
وقوله تعالى : { وأدنى ألا ترتابوا } أقرب إلى دفع الظنون والشكوك الذي يحملكم على التناكر والتنازع الذي عاقبته الفسخ{[3490]} ، ولهذا ما أمر عز وجلا بالكتابة والإشهاد وذكر كل صغير وكبير لئلا يقع بينهم في العاقبة تنازع وتناكر ، فيحمل ذلك الحاكم على فسخ العقد بينها . وعلى ذلك تصبوا الأجل فيه شرطا لقطع وقوع التنازع والتناكر [ الذي حكمه الفسخ في العاقبة ]{[3491]} ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة حاضرة } الآية{[3492]} ؛ استثنى جز وحلا التجارة الحاضرة بترك الكتابة والإشهاد والرهن وغيره ، وذلك لما ذكرنا آنفا أن الديون والقروض تنسي ، وتشبيه على الناس ، فلذلك أمر بالكتابة فيها والإرشاد ، ولا كذلك التجارات الحاضرات . وعلى ذلك أمر ظاهر بين الناس أنهم يكتبون ، ويشهدون في الديون والقروض ، ولم يعلموا ذلك في التجارات الحاضرات الجاريات في ما بينهم لارتفاع ما يخاف وقوعه في الديون والقروض وخلائها عن ذلك ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } يقول : يدا بيد ، أو ليس فيها إيجاب القبض على المجلس .
وقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } أمر عز وجلا بالإشهاد جميعا ؛ فالأمر بالكتابة بالحفظ{[3493]} الحقوق ، ومعها عدة{[3494]} كل قليل وكثير فيه ، والأمر بالإشهاد للأدب ، والأمر بالرهن أمر بالوفاء ، والرهن والكتابة والإشهاد كل ذلك يمنع صاحبه عن الإنكار والجحود ، ويذكر عند النسيان والسهو عنه{[3495]} ، وذلك كله لقطع التنازع الوقع في ما بينهما في المتعقب ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } اختلف فيه{[3496]} ؛ قال بعضهم : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } لا يشتغل الكاتب ولا الشهيد بقول له : اكتب لي كذا ، واشهد على كذا ، وهو يجد غيره ، وقال آخرون : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } [ أي يضار كاتب صاحب ]{[3497]} الحق ، فيكتب ما لا ينبغي أن يكتب بالزيادة والنقصان ، وكذلك الشاهد لا يزيد عن الحق ، ولا ينقص من الحق شيئا ، ولا يكتم الشهادة أيضا . فهذا أقرب ، والله أعلم .
فإن قيل : إذا كان المعنى راجعا{[3498]} إلى ما ذكرت : ألا يزيد الكاتب ، ولا ينقص ، ألا قال : لا يضار بالرفع{[3499]} ؟ قيل : إنه لا يضارره ، [ ولا يضارره ]{[3500]} فطرحت إحداهما ، فإذا طرحت [ الفتحة أو الكسرة ]{[3501]} انتقضت علامة الطرح ، إذ هكذا عمل الإضمار .
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( الضرر{[3502]} أن القول الرجل للرجل ، وهو عنه غني ، : إن الله [ قد ]{[3503]} أمرك ألا تأبى إذا ما دعيت ، فيضاره بذلك [ وهو مكترث بغيره ، فنهاه الله تعالى عن ذلك ، وقال : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } ]{[3504]} ؛ هذا يدل على أن التأويل هو ما ذكرنا من النهي عن الزيادة والنقصان والتحريف والكتمان ؛ إذ في ذلك خروج عن الأمر ، والفسوق{[3505]} هو الخروج عن الأمر كقوله : { فسق عن أمر ربه } [ الكهف : 5 ] ، وهو على المعتزلة .
وقوله تعالى : { واتقوا الله } في المضارة من الزيادة والنقصان والكتمان .
وقوله تعالى : { ويعلمكم الله } الحكم والأدب وما يحل وما لا يحل .
[ وقوله تعالى ]{[3506]} : { والله بكل شيء عليم } حرف وعيد .