تداين : تفاعل من الدين ، يقال : داينت الرجل عاملته بدين معطياً أو آخذاً ، كما تقول : بايعته إذا بعته أو باعك .
ويقال : دنت الرجل إذا بعته بدين ، وادّنت أنا أي : أخذت بدين .
أمل وأملى لغتان : الأولى لأهل الحجاز وبني أسد ، والثانية لتميم ، يقال : أمليت وأمللت على الرجل أي : ألقيت عليه ما يكتبه ، وأصله في اللغة الإعادة مرة بعد أخرى قال الشاعر :
وقيل : الأصل أمللت ، أبدل من اللام ياء لأنها أخف .
البخس : النقص ، يقال منه : بخس يبخس ، ويقال بالصاد ، والبخس : إصابة العين ، ومنه : استعير بخس حقه ، كقولهم : عوّر حقه ، وتباخسوا في البيع تغابنوا ، كان كل واحد يبخس صاحبه عن ما يريده منه باحتياله .
السأم والسآمة : الملل من الشيء والضجر منه ، يقال منه : سئم يسأم .
الصغير : اسم فاعل من صغر يصغر ، ومعناه قلة الجرم ، ويستعمل في المعاني أيضاً .
القسط : بكسر القاف : العدل ، يقال منه : أقسط الرجل أي عدل ، وبفتح القاف : الجور ، ويقال منه : قسط الرجل أي جار ، والقسط بالكسر أيضاً : النصيب .
الرهن : ما دفع إلى الدائن على استيثاق دينه ، ويقال : رهن يرهن رهناً ، ثم أطلق المصدر على المرهون ، ويقال : رهن الشيء دام .
وأرهن لهم الشراب : دام ، قال ابن سيده : ورهنه ، أي : أدامه ، ويقال : أرهن في السلعة إذا غالى بها حتى أخذها بكثير الثمن .
يطوى ابن سلمى بها من راكب بعرا***
العيد : بطن من مهر ، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة ، ويقال ، من الرهن الذي هو من التوثقة : أرهن إرهاناً .
وقال ابن الأعرابي ، والزجاج : يقال في الرهن رهنت وأرهنت .
وتقول : رهنت لساني بكذا ، ولا يقال فيه : أرهنت ، ولما أطلق الرهن على المرهون صار إسماً ، فكسر تكسير الأسماء وانتصب بفعله نصب المفاعيل ، فرهنت رهناً كرهنت ثوباً .
الإصر : الامر الغليظ الصعب ، والآصرة في اللغة : الأمر الرابط من ذمام ، أو قرابة ، أو عهد ، ونحوه .
والإصار : الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، يقال : أصر يأصر أصراً ، والإصر ، بكسر الهمزة الاسم من ذلك ، وروي الأُصر بضمها وقد قرئ به .
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم***
والحامل الإصر عنهم بعدما عرقوا
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } قال ابن عباس : نزلت في السلم خاصة ، يعنى : أن سلم أهل المدينة كان السبب ، ثم هي تتناول جميع الديون بالإجماع .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر بالنفقة في سبيل الله ، وبترك الربا ، وكلاهما يحصل به تنقيص المال ، نبه على طريق حلال في تنمية المال وزيادته ، وأكد في كيفية حفظه ، وبسط في هذه الآية وأمر فيها بعدة أوامر على ما سيأتي بيانه .
وذكر قوله ؛ بدين ، ليعود الضمير عليه في قوله : فاكتبوه ، وإن كان مفهوماً من : تداينتم ، أو لإزالة اشتراك : تداين ، فإنه يقال ؛ تداينوا ، أي جازى بعضهم بعضاً ، فلما قال : بدين ، دل على غير هذا المعنى .
أو للتأكيد ، أو ليدل على أي دين كان صغيراً أو كبيراً ، وعلى أي وجه كان من سلم أو بيع .
{ إلى أجل مسمى } ليس هذا الوصف احترازاً من أن الدين لا يكون إلى أجل مسمى ، بل لا يقع الدين إلاَّ إلى أجل مسمى ، فأما الآجال المجهولة فلا يجوز ، والمراد بالمسمى الموقت المعلوم ، نحو التوقيت بالنسبة والأشهر والأيام ، ولو قال : إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، أو رجوع الحاج ، لم يجز لعدم التسمية ، و : إلى أجل ، متعلق : بتداينتم ، أو في موضع الصفة لقوله : بدين ، فيتعلق بمحذوف .
{ فاكتبوه } أمر تعالى بكتابته لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان ، وأبعد من الجحود .
وظاهر الأمر الوجوب ، وقد قال بعض أهل العلم ، منهم الطبري ، وأهل الظاهر .
وقال الجمهور : هو أمر ندب يحفظه به المال ، وتزال به الريبة ، وفي ذلك حث على الاعتراف به وحفظه ، فإن الكتاب خليفة اللسان ، واللسان خليفة القلب .
وروي عن أبي سعيد الخدري ، وابن زيد ، والشعبي ، وابن جريج أنهم كانوا يرون أن قوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } ناسخ لقوله : { فاكتبوه } وقال الربيع وجب بقوله : فاكتبوه ، ثم خفف بقوله : فإن أمن .
{ وليكتب بينكم كاتب بالعدل } وهذا الأمر قيل : على الوجوب على الكفاية كالجهاد ، قال عطاء ، وغيره : يجب على الكاتب أن يكتب على كل حال ، وقال الشعبي ، أيضاً : إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب ، وقال السدّي : هو واجب مع الفراغ .
واختار الراغب أن الصحيح كون الكتابة فرضاً على الكفاية ، وقال : الكتابة فيما بين المتبايعين ، وإن لم تكن واجبة ، فقد تجب على الكتابة إذا أتوه ، كما أن الصلاة النافلة ، وإن لم تكن واجبة على فاعلها ، فقد يجب على العالم تبيينها إذا أتاه مستفت .
ومعنى : بينكم ، أي : بين صاحب الدين والمستدين ، والبائع والمشتري ، والمقرض والمستقرض ، والتثنية تقتضي أن لا ينفرد أحد المتعاملين لأن يتهم في الكتابة ، فإذا كانت واقعة بينهما كان كل واحد منهما مطلعاً على ما سطره الكاتب .
ومعنى : بالعدل ، أي : بالحق والإنصاف بحيث لا يكون في قلبه ولا في قلمه ميل لأحدهما على الآخر .
واختلف فيما يتعلق به : بالعدل ، فقال الزمخشري : بالعدل ، متعلق بكاتب صفة له ، أي : بكاتب مأمون على ما يكتب ، يكتب بالسوية والاحتياط ، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ، ولا ينقص .
وفيه أن يكون الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط ، حتى يجيء مكتوبه معدّلاً بالشرع ، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب ، وأن لا يستكتبوا إلاَّ فقيهاً ديناً .
وقال ابن عطية : والباء متعلقة بقوله تعالى : وليكتب ، وليست متعلقة بكاتب ، لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلاَّ العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها ، أما أن المنتخبين لكتبها لا يجوز للولاة أن يتركوهم إلاَّ عدولاً مرضيين ، وقيل : الباء زائدة ، أي فليكتب بينكم كاتب العدل .
وقال القفال في معنى { بالعدل } : أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ، لا يرفع إلى قاض فيجد سبيلاً إلى إبطاله بألفاظ لا يتسع فيها التأويل ، فيحتاج الحاكم إلى التوقف .
وقرأ الحسن : وليكتب ، بكسر لام الأمر ، والكسر الأصل .
{ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة .
و : كاتب ، نكرة في سياق النهي ، فتعم .
وأن يكتب مفعول ، ولا يأب ، ومعنى : كما علمه الله ، أي : مثل ما علمه الله من كتابة الوثائق ، لا يبدّل ولا يغير ، وفي ذلك حث على بذل جهده في مراعاة شروطه مما قد لا يعرفه المستكتب ، وفيه تنبيه على المنة بتعليم الله إياه .
وقيل : المعنى كما أمره الله به من الحق ، فيكون : علم ، بمعنى : أعلم ، وقيل : المعنى كما فضله الله بالكتاب ، فتكون الكاف للتعليل ، أي : لأجل ما فضله الله ، فيكون كقوله { وأحسن كما أحسن الله إليك } أي : لأجل إحسان الله إليك .
والظاهر تعلق الكاف بقوله : أن يكتب ، وقيل : تم الكلام عند قوله : أن يكتب ، وتتعلق الكاف بقوله : فليكتب ، وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلقاً بقوله : فليكتب ، لكان النظم : فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى .
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون : كما ، متعلقاً بما في قوله : ولا يأب ، أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه . انتهى .
وتكون الكاف في هذا القول للتعليل ، وإذا كان متعلقاً بقوله : أن يكتب ، كان قوله : ولا يأب ، نهياً عن الامتناع من الكتابة المقيدة ، ثم أمر بتلك الكتابة ، لا يعدل عنها ، أمر توكيد .
وإذا كان متعلقاً بقوله : فليكتب ، كان ذلك نهياً عن الامتناع من الكتابة على الإطلاق ، ثم أمر بالكتابة المقيدة .
وقال الربيع ، والضحاك : ولا يأب ، منسوخ بقوله : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } .
{ فليكتب وليملل الذي عليه الحق } أي : فليكتب الكاتب ، وليملل من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمّته ، والمستوثق منه بالكتابة .
{ وليتق الله ربه } ، فيما يمليه ويقربه ، وجمع بين اسم الذات وهو : الله ، وبين هذا الوصف الذي هو : الرب ، وإن كان اسم الذات منطوقاً على جميع الأوصاف .
ليذكره تعالى كونه مربياً له ، مصلحاً لأمره ، باسطاً عليه نعمه .
وقدم لفظ : الله ، لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم .
{ ولا يبخس منه شيئاً } أي : لا ينقص بالمخادعة أو المدافعة ، والمأمور بالإملال هو المالك لنفسه .
وفك المضاعفين في قوله : وليملل ، لغة الحجاز ، وذلك في ما سكن آخره بجزم ، نحو ، هذا ، أو وقف نحو : أملل ، ولا يفك في رفع ولا نصب .
{ فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } قال مجاهد ، وابن جبير : هو الجاهل بالأمور والإملاء .
وقال الحسن : الصبي والمرأة ، وقال الضحاك ، والسدّي : الصغير .
وضعف هذا لأنه قد يصدق السفيه على الكبير ، وذكر القاضي أبو يعلى : أنه المبذر .
وقال الشافعي : المبذر لماله المفسد لدينه .
وروي عن السدي : أنه الأحمق ، وقيل : الذي يجهل قدر المال فلا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره .
وقال ابن عباس : الجاهل بالاسلام .
{ أو ضعيفاً } قال ابن عباس : وابن جبير : إنه العاجز ، والأخرس ، ومن به حمق .
وقال مجاهد ، والسدي : الأحمق .
وذكر القاضي أبو يعلى ، وغيره : أنه الصغير .
وقيل : المدخول العقل ، الناقص الفطرة .
وقال الشيخ : الكبير ، وقال الطبري : العاجز عن الإملاء لعيّ أو لخرس .
{ أو لا يستطيع أن يملّ هو } قال أبن عباس : لعي أو خرس أو غيبة ، وقيل : بجنون ، وقيل : بجهل بما له أو عليه .
والذي يظهر تباين هؤلاء الثلاثة ، فمن زعم زيادة : أو ، في قوله : أو ضعيفاً ، أو زيادتها في هذا ، وفي قوله : أو لا يستطيع ، فقوله ساقط ، إذ : أو ، لا تزاد ، وأن السفه هو تبذير المال والجهل بالتصرف ، وأن الضعف هو في البدن لصغر أو إفراط شيخ ينقص معه التصرف ، وأن عدم استطاعته الإملاء لعي أو خرس ، لأن الإستطاعة هي القدرة على الإملاء .
وهذا الشرح أكثره عن الزمخشري .
وقال ابن عطية : ذكر تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمان ، ويترتب الحق لهم في كل جهات سوى المعاملات : كالمواريث إذا قسمت ، وغير ذلك .
والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ ولا الإعطاء ، وهذه الصفة لا تخلو من حجر ولي أو وصي ، وذلك وليه .
والضعيف المدخول العقل الناقص الفطرة ، ووليه وصي أو أب ، والذي لا يستطيع أن يمل هو الغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك ، ووليه وكيله ، والأخرس من الضعفاء ، والأولى أنه ممن لا يستطيع ، وربما اجتمع اثنان أو الثلاثة في شخص . انتهى .
وفيه بعض تلخيص ، وهو توكيد الضمير المستكن في : أن يملّ ، وفيه من الفصاحة ما لا يخفى ، لأن في التأكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير ، والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه .
وقرئ شاذاً بإسكان هاء : هو ، وإن كان قد سبقها ما ينفصل ، إجراء للمنفصل مجرى المتصل بالواو والفاء واللام ، نحو : وهو ، فهو ، لهو .
وهذا أشذ من قراءة من قرأ : ثم هو يوم القيامة ، لأن ثم شاركت في كونه للعطف ، وأنها لا يوقف عليها فيتم المعنى .
الضمير في وليه عائد على أحد هؤلاء الثلاثة ، وهو الذي عليه الحق ، وتقدّم تفسير ابن عطية للولي .
وقال الزمخشري : الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يملّ عنه وهو يصدّقه .
وذهب الطبري إلى أن الضمير في وليه يعود على الحق ، فيكون الولي هو الذي له الحقّ .
وروي ذلك عن ابن عباس والربيع .
قال ابن عطية : ولا يصح عن ابن عباس ، وكيف تشهد البينة على شيء ويدخل مالا في ذمّة السفيه ، بإملاء الذي له الدين ، هذا شيء ليس في الشريعة .
قال الراغب : لا يجوز أن يكون ولي الحق كما قال بعضهم ، لأن قوله لا يؤثر إذ هو مدّع .
و : بالعدل ، متعلق بقوله : فليملل ، ويحتمل أن تكون الباء للحال ، وفي قوله : بالعدل ، حث على تحريه لصاحب الحق ، والمولى عليه ، وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على الصغير ، واستدل بها على جواز تصرف السفيه ، وعلى قيام ولاية التصرفات له في نفسه وأمواله .
{ واستشهدوا شهيدين من رجالكم } أي : اطلبوا للإشهاد شهيدين ، فيكون استفعل للطلب ، ويحتمل أن يكون موافقة أفعل أي : وأشهدوا ، نحو : استيقن موافق أيقن ، واستعجله بمعنى أعجله .
ولفظ : شهيد ، للمبالغة ، وكأنهم أمروا بأن يستشهدوا من كثرت منه الشهادة ، فهو عالم بمواقع الشهادة وما يشهد فيه لتكرر ذلك منه ، فأمروا بطلب الأكمل ، وكان في ذلك إشارة إلى العدالة ، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلاَّ وهو مقبول عندهم .
من رجالكم ، الخطاب للمؤمنين ، وهم المصدّر بهم الآية ، ففي قوله : من رجالكم ، دلالة على أنه لا يستشهد الكافر ، ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأجاز ذلك أبو حنيفة .
وإن اختلفت مللهم ، وفي ذلك دلالة على اشتراط البلوغ ، واشتراط الذكورة في الشاهدين .
وظاهر الآية أنه : يجوز شهادة العبد ، وهو مذهب شريح ، وابن سيرين ، وابن شبرمة ، وعثمان البتي ، وقيل عنه : يجوز شهادته لغير سيده .
وروي عن علي أنه كان يقول : شهادة العبد على العبد جارية جائزة .
وروي المغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه .
وروي عن أنس أنه قال : ما أعلم أن أحداً ردّ شهادة العبد .
وقال الجمهور : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة في إحدى الروايتين ، ومالك ، وابن صالح ، وابن أبي ليلى ، والشافعي : لا تقبل شهادة العبد في شيء .
وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، والحسن .
وظاهر الآية يدل على أن شهادة الصبيان لا تعتبر ، وبه قال الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة ، وابن شبرمة ، والشافعي .
وروي ذلك عن : عثمان ، وابن عباس ، وابن الزبير .
وقال ابن أبي ليلى : تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وروي ذلك عن علي ، قال مالك : تجوز شهادتهم في الجراح وحدها بشروط ذكرت عنه في كتب الفقه .
وظاهر الآية اشتراط الرجولية فقط في الشاهدين .
فلو كان الشاهد أعمى ، ففي جواز شهادته خلاف .
ذهب أبو حنيفة ، ومحمد إلى أنه لا يجوز بحال .
وروي ذلك عن علي ، والحسن ، وابن جبير ، وإياس بن معاوية .
وقال ابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، والشافعي : إذا علم قبل العمى جازت ، أو بعده فلا .
وقال زفر : لا يجوز إلا في النسب ، يشهد أن فلان بن فلان ، وقال شريح ، والشعبي : شهادته جائزة .
قال مالك ، والليث : تجوز ، وإن علمه حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه ، وإن شهد بزنا أو حدّ قذف لم تقبل شهادته .
ولو كان الشاهد أخرس ، فقيل : تقبل شهادته بإشارة ، وسواء كان طارئاً أم أصلياً ، وقيل : لا تقبل .
وإن كان أصمّ ، فلا تقبل في الأقوال ، وتقبل فيما عدا ذلك من الحواس .
ولو شهد بدوي على قروي ، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تجوز إلاَّ في الجراح .
وروى ابن القاسم عنه : لا تجوز في الحضر إلاَّ في وصية القروي في السفر وفي البيع .
{ فإن لم يكونا رجلين } الضمير عائد على الشهيدين أي : فإن لم يكن الشهيدان رجلين ، والمعنى أنه : إن أغفل ذلك صاحب الحق ، أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له ، وكان على هذا التقدير ناقصة .
وقال قوم : بل المعنى : فإن لم يوجد رجلان ، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلاَّ مع عدم الرجال ، وهذا لا يتم إلاَّ على اعتقاد أن الضمير في : يكونا ، عائد على : شهيدين ، بوصف الرجولية ، وتكون : كان ، تامّة ، ويكون : رجلين ، منصوباً على الحال المؤكد ، كقوله : { فإن كانتا اثنتين } على أحسن الوجهين .
{ فرجل وامرأتان } ارتفاع رجل على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالشاهد ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، أي : فرجل وامرأتان يشهدون ، أو : فاعل ، أي فليشهد رجل ، أو : مفعول لم يسم فاعله ، أي فليستشهد ، وقيل : المحذوف فليكن ، وجوّز أن تكون تامّة ، فيكون رجل فاعلاً ، وأن تكون ناقصة ، ويكون خبرها محذوفاً وقد ذكرنا أن أصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان لا اقتصاراً ولا اختصاراً .
وقرئ شاذاً : وامرأتان ، بهمزة ساكنة ، وهو على غير قياس ، ويمكن أن سكنها تخفيفاً لكثرة توالي الحركات وجاء نظير تخفيف هذه الهمزة في قول الشاعر :
يقولون جهلاً ليس للشيخ عيّل***
يريد : وأنا رقوب ، قيل : خفف الهمزة بإبدالها ألفاً ثم همزة بعد ذلك ، قالوا : الخأتم ، والعأم .
وظاهر الآية يقتضي جواز شهادة المرأتين مع الرجل في سائر عقود المداينات ، وهي كل عقد وقع على دين سواء كان بدلاً أم بضعاً ، أم منافع أم دم عمد ، فمن ادّعى خروج شيء من العقود من الظاهر لم يسلم له ذلك إلاَّ بدليل .
وقال الشافعي : لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ، ولا يجوز في الوصية إلاَّ الرجل ، ويجوز في الوصية بالمال .
وقال الليث : تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق ، ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا قتل العمد الذي يقاد منه .
وقال الأوزاعي : لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح .
وقال الحسن بن حيى : لا تجوز شهادتهنّ في الحدود .
وقال الثوري : تجوز في كل شيء إلاَّ الحدود .
وقال مالك لا تجوز في الحدود ولا القصاص ، ولا الطلاق ولا النكاح ، ولا الأنساب ولا الولاء ولا الإحصان ، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق .
وقال الحسن ، والضحاك : لا تجوز شهادتهنّ إلاَّ في الدين .
وقال عمر ، وعطاء ، والشعبي : تجوز في الطلاق .
وقال شريح : تجوز في العتق ، وقال عمر ، وابنه عبد الله : تجوز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح .
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وعثمان البتي : لا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ، وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق .
وأدلة هذه الأقوال مذكورة في كتب الفقة .
وأما قبول شهادتهنّ مفردات فلا خلاف في قبولها في : الولادة ، والبكارة ، والاستهلال ، وفي عيوب النساء الإماء وما يجري مجرى ذلك مما هو مخصوص بالنساء .
وأجاز أبو حنيفة شهادة الواحدة العدلة في رؤية الهلال إذ هو عنده من باب الإخبار ، وكذلك شهادة القابلة مفردة .
{ ممن ترضون من الشهداء } قيل : هذا في موضع الصفة لقوله : { فرجل وامرأتان } وقيل : هو بدل من قوله : رجالكم ، على تكرير العامل ، وهما ضعيفان ، لأن الوصف يشعر باختصاصه بالموصوف ، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن شهيدين ، ولأن البدل يؤذن بالاختصاص بالشهيدين الرجلين ، فعرى عنه : رجل وامرأتان ، والذي يظهر أنه متعلق بقوله : واستشهدوا ، أي : واستشهدوا ممن ترضون من الشهداء ، ليكون قيداً في الجميع ، ولذلك جاء متأخراً بعد ذكر الجميع ، والخطاب في ترضون ظاهره أنه للمؤمنين ، وفي ذلك دلالة على أن في الشهود من لا يرضى ، فيدل على هذا على أنهم ليسوا محمولين على العدالة حيث تثبت لهم .
وقال ابن بكير وغيره : الخطاب للحكام ، والأول أوْلى لأنه الظاهر ، وإن كان المتلبس بهذه القضايا هم الحكام ، ولكن يجيء الخطاب عاماً ويتلبس به بعض الناس ، وقيل : الخطاب لأصحاب الدين .
واختلفوا في تفسير قوله : { ممن ترضون } فقال ابن عباس : من أهل الفضل والدين والكفاءة .
وقال الشعبي : ممن لم يطعن في فرج ولا بطن ، وفسر قوله بأنه لم يقذف امرأة ولا رجلاً ، ولم يطعن في نسب .
وروي : من لم يطعن عليه في فرج ولا بطن ، ومعناه : لا ينسب إلى ريبة ، ولا يقال إنه ابن زنا .
وقال الحسن : من لم تعرف له خربة .
وقال النخعي : من لا ريبة فيه .
وقال الخصاف : من غلبت حسناته سيآته مع اجتناب الكبائر .
وقيل : المرضي من الشهود من اجتمعت فيه عشر خصال : أن يكون حراً ، بالغاً ، مسلماً ، عدلاً ، عالماً بما يشهد به ، لا يجر بشهادته منفعة لنفسه ، ولا يدفع بها عن نفسه مضرة ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ، ولا بترك المروءة ، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة .
وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف : أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود ، وما يجب فيها من العظائم ، وأدّى الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار ، قبلت شهادته ، لأنه لا يسلم عبد من ذنب ، ولا تقبل شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر ، ولا من يلعب بالشطرنج يقامر عليها ، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها ، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافاً أو مجانةً أو فسقاً ، لا أن تركها على تأويل ، وكان عدلاً ، ومن يكثر الحلف بالكذب ، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر ، ولا معروف بالكذب الفاحش ، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شتام الناس والجيران ، ولا من اتهمه الناس بالفسق والفجور ، ولا متهم بسب الصحابة حتى يقولوا : سمعناه يشتم .
وقال ابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : تقبل شهادة أهل الأهواء العدول ، إلاَّ صنفاً من الرافضة وهم الخطابية .
وقال محمد : لا أقبل شهادة الخوارج ، وأقبل شهادة الحرورية ، لأنهم لا يستحلون أموالنا ، فإذا خرجوا استحلوا .
وروي عن أبي حنيفة أنه : لا يجوز شهادة البخيل .
وعن إياس بن معاوية لا يجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ، ولا التجار الذين يركبون البحر ، وعن بلال بن أبي بردة ، وكان على البصرة ، أنه لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته .
وردّ عمر بن عبد العزير شهادة من ينتف عنفقته ويخفي لحيته .
ورد شريح شهادة رجل اسمه ربيعة ويلقب بالكويفر ، فدعي : يا ربيعة ، فلم يجب ، فدعي : يا ربيعة الكويفر ، فأجاب ، فقال له شريح : دعيت باسمك فلم تجب ، فلما دعيت بالكفر أجبت ! فقال : أصلحك الله ! إنما هو لقب .
فقال له : قم ، وقال لصاحبه : هات غيره .
وعن أبي هريرة : لا يجوز شهادة أصحاب الحمر ، يعني : النخاسين .
وعن شريح : لا يجيز شهادة صاحب حمام ، ولا حمال ، ولا ضيق كم القباء ، ولا من قال : أشهد بشهادة الله عز وجل ، وعن محمد : لا تقبل شهادة من ظهرت منه مجانة ، ولا شهادة مخنث ، ولا لاعب بالحمام يطيرهنّ ، ورد ابن أبي ليلى شهادة الفقير ، وقال : لا يؤمن أن يحمله فقره على الرغبة في المال .
وقال مالك : لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير ، وتجوز في الشيء التافه .
وعن الشافعي : إذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته ، وعنه : إذا كان أكثر أمره الطاعة ، ولم يقدم على كبيرة ، فهو عدل ، وينبغي أن تفسر المروءة بالتصاون ، والسمت الحسن ، وحفظ الحرمة ، وتجنب السخف ، والمجون ، لا تفسر بنظافة الثوب ، وفراهة المركوب ، وجودة الآلة ، والشارة الحسنة .
لأن هذه ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين .
واختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة ، هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد ؟ ففي كتاب عمر لأبي موسى : والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلاَّ مجلوداً في حدّ ، أو مجرباً عليه شهادة زور ، أو ظنيناً أو قرابة .
وكان الحسن ، لما ولي القضاء ، يجيز شهادة المسلمين إلاَّ أن يكون الخصم يجرح الشاهد .
وقال ابن شبرمة : إن طعن المشهود عليه فيهم سألت عنهم في السرّ والعلانية .
وقال محمد ، وأبو يوسف : يسأل عنهم ، وإن لم يطعن فيهم في السرّ والعلانية ، ويزكيهم في العلانية .
وقال مالك : لا يقضي بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السرّ .
وقال الليث : إنما كان الوالي يقول للخصم : إن كان عندك من يخرج شهادتهم فأت به ، وإلاَّ أجزنا شهادتهم عليك .
وقال الشافعي : يسأل عنه في السرّ ، فإذا عدل سأل عن تعديله في العلانية .
وأما ما ذكر من اعتبار نفي التهمة عن الشاهد إذا كان عدلاً ، فاتفق فقهاء الأمصار على بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلاَّ ما حكي عن البتي ، قال : تجوز شهادة الولد لوالديه ، والأب لأبنه وامرأته ، وعن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لأبنه .
وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث إلى أنه : لا يجوز شهادة أحد الزوجين للآخر .
وعن أبي حنيفة : لا تجوز شهادة الأجير الخاص لمستأجره ، وتجوز شهادة الأجير المشترك له .
وقال مالك : لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلاَّ أن يكون مبرزاً في العدالة .
وقال الأوزاعي : لا تجوز مطلقاً .
وقال الثوري : تجوز إذا كان لا يجر إلى نفسه منفعة .
ومن وردت شهادته لمعنى ، ثم زال ذلك المعنى ، فهل تقبل تلك الشهادة فيه ؟
قال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا تقبل إذا ردّت لفسق أو زوجية ، وتقبل إذا ردّت لرق أو كفر أو صبي .
وقال مالك : لا تقبل إن ردت لرق أو صبي .
وروي عن عثمان بن عفان مثل هذا .
وظاهر الآية : أن الشهود في الديون رجلان ، أو رجل وامرأتان ، ممن ترضون ، فلا يقضى بشاهد واحد ويمين ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وابن شبرمة ، والثوري والحكم ، والأوزاعي .
وبه قال عطاء ، وقال : أول من قضى به عبد الملك بن مروان ، وقال الحكم : أوّل من حكم به معاوية .
واختلف عن الزهري ، فقيل ، قال : هذا شيءأحدثه الناس لا بدّ من شهيدين ، وقال أيضاً : ما أعرفه ، وإنها البدعة ، وأول من قضاه معاوية ، وروي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين وقال مالك ، والشافعي وأتباعهما ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد : يحكم به في الأموال خاصة ، وعليه الخلفاء الأربعة وهو عمل أهل المدينة ، وهو قول أبيّ بن كعب ، ومعاوية ، وأبي سلمة ، وأبي الزياد ، وربيعة .
{ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } قرأ الأعمش ، وحمزة : إن تضل بكسر الهمزة ، جعلها حرف شرط فتذكر ، بالتشديد ورفع الراء وجعله جواب الشرط .
وقرأ الباقون بفتح همزة : أن ، وهي الناصبة ، وفتح راء فتذكر عطفاً على : أن تضل وسكن الذال وخفف الكاف ابن كثير ، وأبو عمرو .
وفتح الذال ، وشدّد الكاف الباقون من السبعة .
وقرأ الجحدري وعيسى بن عمران : تضل ، بضم التاء وفتح الضاد مبنياً للمفعول ، بمعنى : تنسى ، كذا حكى عنهما الداني .
وحكى النقاش عن الجحدري : أن تضل ، بضم التاء وكسر الضاد ، بمعنى أن تضل الشهادة ، تقول : أضللت الفرس والبعير إذا ذهبا فلم تجدهما .
وقرأ حميد بن عبد الرحمن ، ومجاهد : فتذكر ، بتخفيف الكاف المكسورة ، ورفع الراء ، أي فهي : تذكر وقرأ زيد بن أسلم : فتذاكر ، من الذاكرة .
والجملة الشرطية من قوله { أن تضل إحداهما فتذكر } على قراءة الأعمش وحمزة قال ابن عطية : في موضع رفع بكونه صفة للمذكر ، وهما المرأتان . انتهى .
كان قد قدم أن قوله { ممن ترضون من الشهداء } في موضع الصفة لقوله { فرجل وامرأتان } فصار نظير : جاءني رجل وامرأتان عقلاء حبليان ، وفي جواز مثل هذا التركيب نظر ، بل الذي تقتضيه الأقيسة تقديم حبليان على عقلاء ، وأما على قول من أعرب : ممن ترضون ، بدلاً من : رجالكم ، وعلى ما اخترناه من تعلقه بقوله : واستشهدوا ، فلا يجوز أن تكون جملة الشرط صفة لقوله : وامرأتان ، للفصل بين الموصوف والصفة بأجنبي ، وأما : أن تضل ، بفتح الهمزة ، فهو في موضع المفعول من أجله ، أي لأن تضل على تنزيل السبب ، وهو الإضلال .
منزلة المسبب عنه ، وهو الإذكار ، كما ينزل المسبب منزلة السبب لالتباسهما واتصالهما ، فهو كلام محمول على المعنى ، أي : لأن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، ونظيره : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يطرق العدو فأدفعه ، ليس إعداد الخشبة لأجل الميل إنما إعدادها لإدعام الحائط إذا مال ، ولا يجوز أن يكون التقدير : مخالفة أن تضل ، لأجل عطف فتذكر عليه .
وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان يحكي عن أبي العباس أن التقدير : كراهة أن تضل ، قال أبو جعفر : وهذا غلط ، إذ يصير المعنى كراهة أن تذكر .
ومعنى الضلال هنا هو عدم الاهتداء للشهادة لنسيان أو غفلة ، ولذلك قوبل بقوله : فتذكر ، وهو من الذكر ، وأما ما روي عن أبي عمرو بن العلاء ، وسفيان بن عيينة من أن قراءة التخفيف ، فتذكر ، معناه : تصيرها ذكراً في الشهادة ، لأن شهادة امرأة نصف شهادة ، فإذا شهدتا صار مجموع شهادتها كشهادة ذكر ، فقال الزمخشري : من بدع التفاسير .
وقال ابن عطية : هذا تأويل بعيد غير صحيح ، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلاَّ الذكر . انتهى .
وما قالاه صحيح ، وينبو عنه اللفظ من جهة اللغة ومن جهة المعنى ، أما من جهة اللغة فإن المحفوظ أن هذا الفعل لا يتعدى ، تقول : أذكرت المرأة فهي مذكر إذا ولدت الذكور ، وأما : أذكرت المرأة ، أي : صيرتها كالذكر ، فغير محفوظ .
وأما من جهة المعنى ، فإن لو سلم أن : أذكر ، بمعنى صيرها ذكراً فلا يصح ، لأن التصيير ذَكَراً شامل للمرأتين ، إذ ترك شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر فليست إحداهما أذكرت الأخرى على هذا التأويل ، إذ لم تصر شهادتهما وحدها بمنزلة شهادة ذكر .
ولما أبهم الفاعل في : أن تضل ، بقوله : إحداهما ، أبهم الفاعل في : فتذكر ، بقوله : إحداهما ، إذ كل من المرأتين يجوز عليها الضلال ، والإذكار ، فلم يرد : بإحداهما ، معيَّنة .
والمعنى : إن ضلت هذه أذكرتها هذه ، وإن ضلت هذه أذكرتها هذه ، فدخل الكلام معنى العموم ، وكأنه قيل : من ضل منهما أذكرتها الأخرى ، ولو لم يذكر بعد : فتذكر ، الفاعل مظهراً للزم أن يكون أضمر المفعول ليكون عائداً على إحداهما الفاعل بتضل ، ويتعين أن يكون : الأخرى ، هو الفاعل ، فكان يكون التركيب : فتذكرها الأخرى .
وأما على التركيب القرآني فالمتبادر إلى الذهن أن : إحداهما ، فاعل تذكر ، والأخرى هو المفعول ، ويراد به الضالة ، لأن كلاًّ من الإسمين مقصور ، فالسابق هو الفاعل ، ويجوز أن يكون : إحداهما ، مفعولاً ، والفاعل هو الأخرى لزوال اللبس ، إذ معلوم أن المذكرة ليست الناسية ، فجاز أن يتقدّم المفعول ويتأخر الفاعل ، فيكون نحو : كسر العصا موسى ، وعلى هذا الوجه يكون قد وضع الظاهر موضع المضمر المفعول ، فيتعين إذ ذاك أن يكون الفاعل هو : الأخرى ، ومن قرأ : أن ، بفتح الهمزة و : فتذكر ، بالرفع على الاستئناف ، قيل : وقال : إن تضل إحداهما ، المعنى : أن النسيان غالب على طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة ، واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان عن المرأة الواحدة ، فأقيمت المرأتان مقام الرجل ، حتى إن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى ، وفيه دلالة على تفضيل الرجل على المرأة .
و : تذكر ، يتعدّى لمفعولين ، والثاني محذوف ، أي : فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، وفي قوله { فتذكر إحداهما الأخرى } دلالة على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها ، وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط ، إذ الخط والكتابة مأمور به لتذكر الشهادة ، ويدل عليه قوله : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها .
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والشافعي : إذا كتب خطه بالشهادة فلا يشهد حتى يذكرها ؛ وقال محمد بن أبي ليلى ، إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها .
وقال الثوري : إذا ذكر أنه شهد ، ولا يذكر عدد الدراهم ، فإنه لا يشهد .
{ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قال قتادة : سبب نزولها أن الرجل كان يطوف في الحراء العظيم ، فيه القوم ، فلا يتبعه منهم أحد ، فأنزلها الله .
وظاهر الآية : أن المعنى : ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة إذا ما دعوا لها ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع وغيرهم .
وهذا النهي ليس نهي تحريم ، فله أن يشهد ، وله أن لا يشهد .
وقال الشعبي : إن لم يوجد غيره تعين عليه أن يشهد ، وإن وجد فهو مخير ، وقيل : المعنى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك ، قاله مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وإبراهيم ، ولاحق بن حميد ، وابن زيد .
وروى النقاش : هكذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو صح هذا عنه ، عليه السلام ، لم يعدل عنه فيكون نهي تحريم .
وقال ابن عباس أيضاً ، والحسن ، والسدي : هي في التحمل والإقامة إذا كان فارغاً ، وقال ابن عطية : والآية كما قال الحسن ، جمعت الأمرين ، والمسلمون مندوبون إلى معاونة إخوانهم ، فإذا كانت الفسحة في كثرة الشهود ، والأمن من تعطيل الحق ، فالمدعو مندوب ، وله أن يتخلف لأدنى عذر وأن يتخلف لغير عذر ، ولا إثم عليه .
وإذا كانت الضرورة ، وخيف تعطيل الحق أدنى خوف ، قوي الندب وقرب من الوجوب .
وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة ، فواجب عليه القيام بها ، لا سيما إن كانت محصلة .
وكان الدعاء إلى أدائها ، فإن هذا الطرف آكد ، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء . انتهى .
{ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله } لما نهى عن امتناع الشهود إذا ما دعوا للشهادة ، نهى أيضاً عن السآمة في كتابة الدين ، كل ذلك ضبط لأموال الناس ، وتحريض على أن لا يقع النزاع ، لأنه متى ضبط بالكتابة والشهادة قل أن يحصل وهمٌ فيه أو إنكار ، أو منازعة في مقدار أو أجل أو وصف ، وقدم الصغير اهتماماً به ، وانتقالاً من الأدنى إلى الأعلى .
ونص على الأجل للدلالة على وجوب ذكره ، فكتب كما يكتب أصل الدين ومحله إن كان مما يحتاج فيه إلى ذكر المحل ، ونبه بذكر الأجل على صفة الدين ومقداره ، لأن الأجل بعض أوصافه ، والأجل هنا هو الوقت الذي اتفق المتداينان على تسميته .
وقال الماتريدي : فيه دلالة على جواز السلم في الثياب ، لأن ما يؤكل أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير ، وإنما يقال ذلك في العددي والذرعي . انتهى .
ولا يظهر ما قال : إذ الصغر ، والكبر هنا لا يراد به الجرم ، وإنما هو عبارة عن القليل والكثير ، فمن أسلم في مقدار ويبة ، أو في مقدار عشرين أردباً ، صدق على الأول أنه حق صغير ودين صغير ، وعلى الثاني انه دين كبير وحق كبير .
قيل : ومعنى : ولا تسأموا ، أي لا تكسلوا ، وعبر بالسأم عن الكسل ، لأن الكسل صفة المنافق ، ومنه الحديث : « لا يقل المؤمن كسلت » ، وكأنه من الوصف الذي نسبه الله إليهم في قوله : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } وقيل : معناه لا تضجروا ، و : أن تكتبوا ، في موضع نصب على المفعول به ، لأن سئم متعد بنفسه .
وقيل : يتعدّى سئم بحرف جر ، فيكون : أن تكتبوه ، في موضع نصب على إسقاط الحرف ، أو في موضع جر على الخلاف الذي تقدم بين سيبويه والخليل ، ومما يدل على أن سئم يتعدّى بحرف جر قوله :
وضمير النصب في : تكتبوه ، عائد على الدَّين ، لسبقه ، أو على الحق لقربه ، والدَّين هو الحق من حيث المعنى ، وكان من كثرت ديونه يمل من الكتابة ، فنهوا عن ذلك .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للكتاب ، و : أن تكتبوه ، مختصراً أو مشبعاً ، ولا يخل بكتابته . انتهى .
وقرأ السلمى : ولا يسأموا ، بالياء وكذلك : أن يكتبوه ، والظاهر في هذه القراءة أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الشهداء ، ويجوز أن يكون من باب الالتفات ، فيعود على المتعاملين أو على الكتاب .
وانتصاب : صغيراً أو كبيراً ، على الحال من الهاء في : أن تكتبوه ، وأجاز السجاوندي نصب : صغيراً ، على أن يكون خبراً لكان مضمرة ، أي : كان صغيراً ، وليس موضع إضمار كان ، ويتعلق : إلى أجله ، بمحذوف لا تكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدين ، إذ ينقضي في زمن يسير ، فليس نظير : سرت إلى الكوفة ، والتقدير : أن تكتبوه مستقراً في الذمة إلى أجل حلوله .
{ ذلكم أقسط عند الله } الإشارة إلى أقرب مذكور وهو الكتابة ، وقيل الكتابة والاستشهاد وجميع ما تقدّم مما يحصل به الضبط ، و : أقسط ، أعدل قيل : وفيه شذوذ ، لأنه من الرباعي الذي على وزن : أفعل ، يقال : أقسط الرجل أي عدل ، ومنه وأقسطوا ، وقد راموا خروجه عن الشذوذ الذي ذكروه ، بأن يكون : أقسط ، من قاسط على طريقة النسب بمعنى : ذي قسط ، قاله الزمخشري .
وقال ابن عطية : انظر هل هو من قسط بضم السين ، كما تقول : أكرم من كرم . انتهى .
وقيل : من القسط بالكسر ، وهو العدل ، وهو مصدر لم يشتق منه فعل ، وليس من الإقساط ، لأن أفعل لا يبنى من الأفعال .
وقال الزمخشري : فإن قلت : مم بنى فعلاً التفضيل .
قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام . انتهى .
لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل .
بني من أفعل ، إنما يؤخذ ذلك بالاستدلال ، لأنه نص في أول كتابه على أن بناء أفعل للتعجب يكون من : فعل وفعل وفعل وأفعل ، فظاهر هذا أن أفعل الذي للتعجب يبني من أفعل ، ونص النحويون على أن ما يبنى منه أفعل للتعجب يبني منه أفعل التفضيل ، فما انقاس في التعجب : انقاس في التفضيل ، وما شذ فيه شذ فيه .
وقد اختلف النحويون في بناء أفعل للتعجب على ثلاثة مذاهب : الجواز ، والمنع ، والتفضيل .
بين أن يكون الهمزة للنقل فلا يبني منه أفعل للتعجب ، أو لا تكون للنقل ، فيبنى منه .
وزعم أن هذا مذهب سيبويه ، وتؤول قوله : وأفعل على أنه أفعل الذي همزته لغير النقل ، ومن منع ذلك مطلقاً ضبط قول سيبويه .
وأفعل على أنه على صيغة الأمر ، ويعني أنه يكون فعل التعجب على أفعل ، وبناؤه من : فعل وفعل وفعل وعلى أفعل وحجج هذه المذاهب مستوفاة في كتب النحو .
والذي ينبغي أن يحمل عليه أقسط هو أن يكون مبنياً من قسط الثلاثي بمعنى عدل قال ابن السيد في ( الاقتضاب ) ما نصبه : حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد عن أبي عبيدة : قسط جار ، وقسط عدل ، وأقسط بالألف عدل لا غير .
وقال ابن القطاع : قسط قسوطاً وقسطاً ، جار وعدل ضد ، فعلى هذا لا يكون شاذاً .
أعدل في حكم الله أن لا يقع التظالم .
{ وأقوم للشهادة } إن كان من أقام ففيه شذوذ على قول بعضهم ، ومن جعله مبنياً من قام بمعنى اعتدل فلا شذوذ فيه ، وتقدّم قول الزمخشري إنه جائز على مذهب سيبويه أن يكون من أقام ، وقال أيضاً : يجوز أن يكون على معنى النسب من قويم . انتهى .
وعد بعض النحويين في التعجب ما أقومه في الشذوذ ، وجعله مبنياً من استقام ، ويتعلق : للشهادة ، بأقوم ، وهو من حيث المعنى مفعول كما تقول : زيد أضرب لعمرو من خالد ، ولا يجوز حذف هذه اللام والنصب إلاَّ في الشعر كما قال الشاعر .
وقد تؤول على إضمار فعل أي : تضرب القوانس ومعنى : أقوم للشهادة ، أثبت وأصح .
{ وأدنى أن لا ترتابوا } أي أقرب لانتفاء الريبة .
وقرأ السلمي : أن لا يرتابوا بالياء ، والمفضل عليه محذوف ، وحسن حذفه كونه أفعل الذي للتفضيل وقع خبراً للمبتدأ ، وتقديره : الكتب أقسط وأقوم وأدنى لكذا من عدم الكتب ، وقدّر : أدنى ، لأن : لا ترتابوا ، وإلى أن لا ترتابوا ، و : من أن لا ترتابوا .
ثم حذف حرف الجر فبقي منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي سبق .
ونسق هذه الأخبار في غاية الحسن ، إذ بدئ أولاً بالأشرف ، وهو قوله { أقسط عند الله } أي : في حكم الله ، فينبغي أن يتبع ما أمر به ، إذ اتباعه هو متعلق الدين الإسلامي ، وبنى لقوله : { وأقوم للشهادة } لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة ، وجاء بالياء .
و { أدنى أن لا يرتابو } لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله في الكتابة والإشهاد ، فعنهما تنشأ أقربية انتفاء الريبة ، إذ ذلك هو الغاية في أن لا يقع ريبة ، وذلك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالباً ، فيثلج الصدر بما كتب ، وأشهد عليه .
و : ترتابوا ، بني افتعل من الريبة ، وتقدم تفسيرها في قوله { لا ريب فيه } قيل : والمعنى : أن لا ترتابوا بمن عليه الحق أن ينكر ، وقيل : أن لا ترتابوا بالشاهد أن يضل ، وقيل : في الشهادة ومبلغ الحق والأجل ، وقيل : المعنى أقرب لنفي الشك للشاهد والحاكم والمتعاملين ، وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك ولا لبس ولا نزاع .
{ إلاَّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها } في التجارة الحاضرة قولان : أحدهما : ما يعجل ولا يدخله أجل من بيع وثمن ؛ والثاني : ما يجوزه المشتري من العروض المنقولة ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل : كالمطعوم ، بخلاف الأملاك .
ولهذا قال السدي ، والضحاك : هذا فيما إذا كان يداً بيدٍ تأخذه وتعطي .
وفي معنى الإدارة ، قولان : أحدهما : يتناولونها من يد إلى يد .
والثاني : يتبايعونها في كل وقت ، والإدارة تقتضي التقابض والذهاب بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض ، وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة ، ولا يعاب عليها حسن الكتب والإشهاد فيها ، ولحقت بمبايعة الديون ، ولما كانت الكتابة في التجارة الحاضرة الدائرة بينهم شاقة ، رفع الجناح عنهم في تركها ، ولأن ما بيع نقداً يداً بيدٍ لا يكاد يحتاج إلى كتابة ، إذ مشروعية الكتابة إنما هي لضبط الديون ، إذ بتأجيلها يقع الوهم في مقدارها وصفتها وأجلها ، وهذا مفقود في مبايعة التاجر يداً بيد .
وهذا الاستثناء في قوله : إلاَّ أن تكون ، منقطع لأن ما بيع لغير أجل مناجزة لم يندرج تحت الديون المؤجلة .
وقيل : هو استثناء متصل ، وهو راجع إلى قوله { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلاَّ أن يكون الأجل قريباً .
وهو المراد من التجارة الحاضرة .
وقيل : هو متصل راجع إلى قوله : { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله } وقرأ عاصم : تجارة حاضرة ، بنصبهما على أن كان ناقصة ، التقدير إلاَّ أن تكون هي أي التجارة .
وقرأ الباقون برفعهما على أن يكون : تكون ، تامة .
و : تجارة ، فاعل بتكون ، وأجاز بعضهم أن تكون ناقصة وخبرها الجملة من قوله : تديرونها بينكم .
ونفي الجناح هنا معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ، هذا على مذهب أكثر المفسرين ، إذا الكتابة عندهم ليست واجبة ، ومن ذهب إلى الوجوب فمعنى : لا جناح ، لا إثم .
{ وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ، ناجزاً أو كالئاً ، لأنه أحوط وأبعد مما عسى أن يقع في ذلك من الاختلاف ، وقيل : يعود إلى التجارة الحاضرة ، لما رخص في ترك الكتابة أمروا بالإشهاد .
قيل : وهذه الآية منسوخة بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً } روي ذلك عن الجحدري ، والحسن ، وعبد الرحمن بن يزيد ، والحكم .
وقيل : هي محكمة ، والأمر في ذلك على الوجوب قال ذلك أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، والنخعي ، وداود بن علي ، وابنه أبو بكر ، والطبري .
قال الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل وقال عطاء : أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم ، أو نصف درهم ، أو ثلاث دراهم ، أو أقل من ذلك .
وقال الطبري : لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلاَّ أن يشهد ، وإلاَّ كان مخالفاً لكتاب الله عز وجل .
وذهب الحسن وجماعة إلى أن هذا الأمر على الندب والإرشاد لا على الحتم .
قال ابن العربي : وهذا قول الكافة .
{ ولا يضار كاتب ولا شهيد } هذا نهي ، ولذلك فتحت الراء لأنه مجزوم .
والمشدّد إذا كان مجزوماً كهذا كانت حركته الفتحة لخفتها ، لأنه من حيث أدغم لزم تحريكه ، فلو فك ظهر فيه الجزم .
واحتمل هذا الفعل أن يكون مبنياً للفاعل فيكون الكاتب والشهيد قد نهيا أن يضارّا أحداً بأن يزيد الكاتب في الكتابة ، أو يحرف .
وبأن يكتم الشاهد الشهادة ، أو يغيرها أو يمتنع من أدائها .
قال معناه الحسن ، وطاووس ، وقتادة ، وابن زيد .
واختاره : الزجاج لقوله بعد : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، ويمتنع من الشهادة ، حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد ، ولأنه تعالى قال ، فيمن يمتنع من أداء الشهادة { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } والآثم والفاسق متقاربان .
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء : بأن يقولا : علينا شغل ولنا حاجة .
واحتمل أن يكون مبنياً للمفعول ، فنهى أن يضارّهما أحد بأن يعنتا ، ويشق عليهما في ترك أشغالهما ، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة قال معناه أيضاً ابن عباس ، ومجاهد ، وطاووس ، والضحاك ، والسدي .
ويقوي هذا الاحتمال قراءة عمر : ولا يضارر ، بالفك وفتح الراء الأولى .
رواها الضحاك عن ابن مسعود ، وابن كثير عن مجاهد ، واختاره الطبري لأن الخطاب من أول الآيات إنما هو للمكتوب له ، وللمشهود له ، وليس للشاهد والكاتب خطاب تقدّم ، إنما رده على أهل الكتابة والشهادة ، فالنهي لهم أبين أن لا يضار الكاتب والشهيد فيشغلونهما عن شغلهما ، وهم يجدون غيرهما .
ورجح هذا القول بأنه لو كان خطاباً للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكما ، وإذا كان خطاباً للمداينين فالمنهيون عن الضرار هم ، وحكى أبو عمرو عن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق : أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضاً فتحها ، وفك الفعل .
والفك لغة الحجاز ، والإدغام لغة تميم .
وقرأ ابن القعقاع ، وعمرو بن عبيد : ولا يضار ، بجزم الراء ، وهو ضعيف لأنه في التقدير جمع بين ثلاث سواكن ، لكن الألف لمدّها يجري مجرى المتحرك ، فكأنه بقي ساكنان ، والوقف عليه ممكن .
وقرأ عكرمة : ولا يضارر ، بكسر الراء الأولى والفك ، كاتباً ولا شهيداً بالنصب أي : لا يبدأهما صاحب الحق بضرر .
ووجوه المضارة لا تنحصر ، وروي مقسم عن عكرمة أنه قرأ : ولا يضارّ ، بالإدغام وكسر الراء لالتقاء الساكنين .
وقرأ ابن محيصن : ولا يضارّ ، برفع الراء المشدّدة ، وهي نفي معناه النهي .
وقد تقدّم تحسين مجيء النهي بصورة النفي ، وذلك أن النهي إنما يكون عن ما يمكن وقوعه ، فإذا برز في صورة النفي كان أبلغ ، لأنه صار مما لا يقع ، ولا ينبغي أن يقع .
{ وإن تفعلوا فأنه فسوق بكم } ظاهره أن مفعول : تفعلوا ، المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : ولا يضار ، وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه ، أي الضرار ، فسوق بكم أي : ملتبس بكم ، أو تكون الباء ظرفية ، أي : فيكم ، وهذا أبلغ ، إذ جعلوا محلاً للفسق .
والخطاب في : تفعلوا ، عائد على الكاتب والشاهد ، إذ كان قوله : ولا يضار ، قد قدر مبنياً للفاعل ، وأما إذا قدر مبنياً للمفعول فالخطاب للمشهود لهم .
وقيل : هو راجع إلى ما وقع النهي عنه ، والمعنى وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه ، أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به ، فهو عام في جميع التكاليف ، فإنه فسوق بكم ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته .
{ واتقوا الله } أي : في ترك الضرار ، أو : في جميع أوامره ونواهيه ، ولما كان قوله { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } خطاباً على سبيل الوعيد ، أمر بتقوى الله حتى لا يقع في الفسق .
{ ويعلمكم الله } هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها : التعليم للعلوم ، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في : واتقوا ، تقديره : واتقوا الله مضموناً لكم التعليم والهداية .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالاً مقدرة . انتهى .
وهذا القول ، أعني : الحال ، ضعيف جداً ، لأن المضارع الواقع حالاً ، لا يدخل عليه واو الحال إلاَّ فيما شذ من نحو : قمت وأصك عينه .
ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ .
{ والله بكل شيء عليم } إشارة إلى احاطته تعالى بالمعلومات ، فلا يشذ عنه منها شيء .
وفيها إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي ، وأعيد لفظ الله في هذه الجمل الثلاث على طريق تعظيم الأمر ، جعلت كل جملة منها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى ربط بالضمير ، بل اكتفي فيها بربط حرف العطف ، وليست في معنى واحد ، فالأولى : حث على التقوى ، والثانية : تذكر بالنعم ، والثالثة : تتضمن الوعد والوعيد .
وقيل : معنى الآية الوعد ، فإن من اتقى علمه الله ، وكثيراً ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة ، من الفقه وغيره ، إذا ذكر له العلم ، والاشتغال به ، قالوا : قال الله : واتقوا الله ويعلمكم الله ، ومن أين تعرف التقوى ؟ وهل تعرف إلاَّ بالعلم ؟ .