تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

و بعد أن أمر سبحانه المؤمنين أن يسارعوا في التصدق على المحتاجين وأن يجتنبوا الربا والمرابين وبين لهم ان أموالهم تزكو وتنمو بالإنفاق في وجوه الخير وتمحق وتذهب بتعاطي الربا بعد ان وضح كل ذلك ساق لهم آية جامعة متى اتبعوا توجيهاتها واستطاعوا أن يحفظوا أموالهم بأفضل طريق وأشرف وسيلة وأن يصونوها عن الهلاك والضياع عندما يعطي أحدهم أخاه شيئا من المال على سبيل الدين او القرض الحسن المنزه عن الربا استمع إلى القرآن وهو يتكلم عن أحكام الدين وعن أحكام بعض المعاملات التجارية الحاضرة فيقول :

{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو وضيعا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونوا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم }

قال ابن كثير : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها وقد نبه على ذلك في آخر الآية حيث قال : { ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا } .

و روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : أشهد ان السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله وأذن فيه ثم قرأ : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم . . } الآية .

و ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلقون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ( 89 ) .

و معنى { تداينتم } تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا ، وحقيقة الدين كما يقول القرطبي : " عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة فإن العين عند العرب ما كان حاضرا والدين ما كان غائبا " ( 90 ) .

و الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد واجل الإنسان الوقت المحدد لانقضاء عمره وأجل الدين هو الوقت المعين لأدائه في المستقبل وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أي تأخر والآجل نقيض العاجل .

و المعنى : أيها الذين آمنوا إذا عامل بعضكم بعضا بالدين إلى وقت معين فاكتبوا هذا الدين لأن في هذه الكتابة حفظا له وضبطا لمقداره ومنعا للتنازع من ان يقع بينكم .

قال صاحب الكشاف فإن قلت هلا قيل إذا تداينتم إلى أجل مسمى وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟ قلت : ذكر لفظ الدين ليرجع الضمير إليه في قوله : فاكتبوه إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال .

فإن قلت : ما فائدة قوله : مسمى . قلت : ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام ولو قال إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية " ( 91 ) .

و جمهور العلماء على ان الأمر في قوله : " فاكتبوه " للندب ولأن الله تعالى قد قال بعد ذلك : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته } ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم الدائنين بكتابة ديونهم ولا المدينين بأن يكتبوها .

و قال الظاهرية إن الأمر هنا للوجوب ومن لم يفعل ذلك كان آثما لأن الأصل في الأمر للوجوب . . .

وقوله : { وليكتب بينكم كاتبا بالعدل } بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها عقب الأمر بها على سبيل الإجمال .

أي : عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها وما يكون من الشروط موافقا لشريعة الإسلام وما يكون منها غير موافق .

و على هذا الكتاب أن يلتزم الحق مع الدائن والمدين في كتابته لأن الله تعالى يقول : { و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } ( المائدة : 8 ) . فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين ان يختاروا لكتابته شخصا تتوافر فيه إجادة الكتابة والخبرة بشروط العقود وتوثيقها كما تتوافر فيه الاستقامة وتحري الحق . ومفعول " يكتب " محذوف ثقة بالفهامة أي وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل والتقييد والظرف بينكم للإيذان بأنه ينبغي للكتاب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين لأن في هذا الانفراد تهمة يجب ان يربأ بنفسه عنها .

و الجار والمجرور وهو : " بالعدل " متعلق بمحذوف صفة لكاتب المتصدى للكتابة من شأنه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين أو متعلق بالفعل يكتب أي وليكتب بالحق .

ثم نهى الله تعالى من كان قادرا على الكتابة عن الامتناع عنها متى دعى إليها فقال ولا يأب كاتب أن يكتب عما علمه الله فليكتب .

أي : ولا يمتنع كاتب من ان يكتب للمتداينين ديونهما بالطريقة التي علمه الله بأن يتحرى العدل والحق في كتابته وان يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإسلامية .

فالكاف ومجرورها في قوله تعالى : { كما علمه الله } نعت لمصدر محذوف والتقدير : فليكتب كتابه مثل ما علمه الله تعالى بمعنى أن يلتزم الحق والعدل فيها .

و يجوز ان تكون الكاف للتعليل فيكون المعنى لا يمتنع عن الكتابة لأنه كما علمه الله إياها ويسرها له ونفعه بها فعليه ان ينفع غيره بها فهو كقوله تعالى : { و أحسن كما أحسن الله إليك } ( القصص 77 ) . وفي الحديث الشريف : " إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق " ( 92 ) . وفي حديث " من كتم علما يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " ( 93 ) .

و قوله : { فليكتب } تفريع على قوله : { و لا يأب كاتب } أي فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله ولا يأب كاتب أي فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله ولا يأب كاتب ويجوز أن يكون توكيدا للأمر الصريح في قوله وليكتب بينكم كاتب بالعدل .

قال القرطبي : واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد فقال الطبري : واجب الكاتب إذا أمر أن يكتب وقال الحسن : ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع فإن كان كذلك فهو فريضة وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام بها غيره " ( 94 ) .

و إلى هنا تكون الآية الكريمة قد قررت مبدأ الكتابة في الدين وبينت كيفية الكتابة وأشارت إلى إجادة الكاتب لها ونهته عن الامتناع عنها إذا دعى لها .

ثم انتقلت الآية بعد ذلك إلى بيان من يتولى الإملاء فقال تعالى : { و لملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا } .

و الإملال معناه الإملاء فهما لغتان معناهما واحد وقد جاء القرآن باللغتين فقال تعالى : { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } . ( الفرقان : 5 ) .

أي وعلى المدين الذي عليه الدين وقد التزم بأدائه أن يمل على الكاتب هذا الدين وذلك ليكون إملاؤه إقرارا به وبالحقوق التي يجب عليه الوفاء بها . وعليه كذلك أن يراقب الله تعالى في إملائه فلا ينقص من الدين الذي عليه شيئا لأن هذا الإنقاص ظلم حرمه الله تعالى وقد أمر الله تعالى بأن يكون الذي يملي على الكاتب هو المدين لانه هو المكلف بأداء مضمون الكتابة ولأنه بإملائه يكون قد أقر على نفسه بما عليه ولأنه لو أملى الدائن فربما يزيد في الدين أو يملي شيئا ليس محل اتفاق بينه وبين المدين في الغالب في موقف ضعيف فأعطاه الله تعالى حق الإملاء على الكاتب حتى لا يغبن من الدائن .

فأنت ترى أن الله تعالى قد مكن المدين من الإملاء على الكاتب حتى تكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره و لكنه في الوقت نفسه أوجب عليه أمرين تقوى الله وعدم الإنقاص من الدين الذي عليه وان ذلك لتشريع حكيم عادل لا ظلم فيه للدائن ولا للمدين .

ثم بين سبحانه الحكم فيما إذا كان الذي عليه الدين لا يحسن الإملاء فقال تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق } وهو المدين { سفيها } أي جاهلا بالإملاء أو ناقص العقل أو متلافا مبذرا لا يحسن تدبير أمره .

أو ضعيفا بان يكون صبيا أو شيخا تقدمت به الشيخوخة .

{ أو لا يستطيع ان يمل هو } بان يكون عييا أو أخرسا أو لا خبرة له بإملاء أمثال هذه المكاتبات .

{ فليملل وليه بالعدل } أي فعلى ولي أمره أو من يهمه شأنه ولا يرضى له أن يضيع حقه أن يتولى الإملاء متحريا الحق والعدل فيما يكلف به .

و بعد هذا البيان الحكيم عن الكتابة وأحكامها في شأن الديون انتقل القرآن إلى الحديث عن الإشهاد فيه قال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم أي اطلبوا شاهدين عدليين من الرجال ليشهدوا على ما يجري بينكم من معاملات مؤجلة لأن هذا الإشهاد يعطي الديون والكتابة وتثبيتا والسين والتاء في قوله :

" واستشهدوا " للطلب .

قال الألوسي : " و في اختيار صيغة المبالغة في شهيدين للإيماء إلى من تكررت منه الشهادة فهو عالم بها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك والامر وللندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك " ( 95 ) .

و قوله : { من رجالكم } متعلق بقوله : { و استشهدوا } ومن لابتداء الغاية ويجوز ان يكون متعلقا بمحذوف صفة لشهيدين ومن للتبعيض أي من رجالكم المسلمين الأحرار فإن الكلام في معاملاتهم .

ثم بين سبحانه الحكم إذا لم يتيسر شاهدان من الرجال فقال : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } .

و قوله : { ممن ترضون }

متعلق بمحذوف على انه صفة لرجل وامرأتان أي فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيين عندكم بعدالتهم .

وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود إلا انه ذكر هنا للتشدد في اعتباره لأن اتصاف النساء به قد لا يتوافر كثيرا .

وقوله : { من الشهداء } متعلق بمحذوف حال من ضمير المفعول المقدر في " ترضون " العائد إلى الموصول : أي فليشهد رجل وامرأتان ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وثقتكم بهم .

و قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } أدق في الدلالة على صدق الشهادة من العدالة لأن الإنسان العدل قد يكون مرضيا في دينه وخلقه و لكنه يتأثر بالمشاهد المؤثرة فتخونه ذاكرته في وقت الحاجة إليها وقد يكون ممن يمنعه منصبه وجاهه ومقامه في الناس من الكذب إلا أنه قد يرتكب بعض المعاصي فجاء سبحانه بهذه الجملة الحكيمة لكي يقول للناس : اختاروا الشهداء من الذين يرتضى قولهم ويقيمون الشهادة على وجهها بدون التأثر بأي نوع من أنواع المأثرات .

هذا وشهادة النساء مع الرجال عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة وكل شيء إلا الحدود والقصاص . وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة ، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة .

ثم بين سبحانه العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة فقال أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .

قال القرطبي معنى تضل تنسى والضلال عن الشهادة وإنما نسيان جزء منها وذكر ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالا " ( 96 ) .

و المعنى : جعلنا المرأتين بدل رجل واحد في الشهادة خشية أن تنسى إحداهما فتذكر كل واحدة منهما الأخرى إذ المرأة لقوة عاطفتها وشدة انفعالها بالحوادث قد تتوهم ما لم تر فكان من الحكمة أن يكون مع المرأة أخرى في الشهادة بحيث تتذاكران الحق فيما بينهما .

و العلة في الحقيقة هي التذكير ولكن الضلال لما كان سببا في التذكير نزل منزلة العلة وذلك كأن تقول : أعددت السلاح خشية أن يجيء العدو فأدفعه فإن العلة هي الدفاع عن النفس ولكن لما كان مجيء العدو سببا فيه نزل منزلته .

و كما أمر الله تعالى الكتاب في أول الآية بعدم الامتناع عن الكتابة أمر الشهود أيضا بعدم الامتناع عن الشهادة فقال : { و لا يأب الشهداء إذا ما دعوا } أي ولا يمتنع الشهود عن أداء الشهادة وتحملها متى دعوا إليها لأن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها قد يؤدي إلى ضياع الحقوق والله تعالى قد شرع الشهادة لإلحاق الحق ونشر العدالة بين الناس فعلى من اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم أن يؤدوا الشهادة كما أمرهم الله تعالى . ثم أمر سبحانه بكتابة الدين سواء أكبر الدين أم صغر فقال : { و لا تسأموا أن كتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله } .

السأم : الضجر والملل يقال سئمت الشيء أسأمه سأما وسآمة أي مللته وضجرته . والمعنى عليكم أيها المؤمنون ألا تسأموا من كتابة الدين إلى الوقت المحدد له سواء أكان هذا الدين كبيرا أو صغيرا لأن الكتابة في الحالتين أدى إلى حفظ الحقوق وصيانتها . وإلى عدم نشوب التنازع أو التخاصم بينكم ولأن الدين قد يكون صغيرا في نظر الغني المليء إلا أنه كبير في نظر الفقير المعسر ولأن التهاون في شأن الدين الصغير قد يؤدي إلى التهاون في شأن الدين الكبير ، لذا وجب عليكم أن تنقادوا لشرع الله وأن تكتبوا ما بينكم .

و الضمير في قوله : { أن تكتبوه } يعود إلى الدين أو إلى الحق وقوله : { صغيرا أو كبيرا } حال من الضمير أي لا تسأموا أن تكتبوه على كل حال قليلا أو كثيرا وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى .

ثم بين سبحانه ثلاث فوائد تعود عليهم إذا ما امتثلوا ما أمرهم الله تعالى به فقال : { ذلكم أقسط عند الله } . واسم الإشارة ذلكم يعود إلى ما سبق ذكره في الآية من الكتابة والإشهاد ومن عدم الامتناع عنهما ومن تحري الحق والعدل .

و { أقسط } بمعنى أعدل ان يقال أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطا إذا عدل فهو مقسط قال تعالى : { إن الله تعالى يحب المقسطين } ( المائدة 42 ) . ويقال قاسط إذا جار وظلم قال تعالى : { و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } ( الجن 15 ) .

أي ذلكم الذي شرعناه في أمر الديون من الكتابة والإشهاد وغيرهما أعدل في علم الله تعالى وكل ما كان كذلك فهو أعدل وأفضل وأحكم في ذاته لانه سبحانه هو الأعلم بما فيه مصلحتكم فاستجيبوا له وتلك هي الفائدة الأولى أما الفائدة الثانية فهي قوله سبحانه : { و أقوم للشهادة } ومعنى أقوم ابلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج أي أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها واما الفائدة الثالثة فهي قوله : { و أدنى ألا ترتابوا } أي أقرب إلى زوال الشك والريبة أي أن الأوامر والنواهي السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل في علم الله تعالى وأعون في إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ واقرب إلى عدم الشك في جنس الدين وقدره وأجله وإذا توافرت هذه الفوائد الثلاث في المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم ويحل محلها النزاع والشقاق .

ثم أ باح سبحانه في التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناحا ألا تكتبوها } .

و التجارة الحاضرة التي تدور بين التجار وهي التي يجري فيه التقابض في المجلس أو التي يتأخر فيها الأداء زمنا يسيرا وسميت الحاضرة لأن البيع والثمن كلاهما حاضر .

و المعنى : ان الله تعالى يأمركم بكتابة الديون وبالإشهاد عليها إلا أنه سبحانه رحمة بكم اباح لكم عدم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكثرون إدارتها والتعامل فيها لأنه لو كلفكم بذلك لشق الامر عليكم ، وهو سبحانه : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ( الحج 78 ) . ولأن أمثال هذه التجارات التي يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها ، لا يتوقع فيها التنازع أو النسيان .

و الاستثناء هنا منقطع لأنه ليس هناك دين حتى يكتب وليست التجارة الحاضرة من جنس التعامل بالديون فكأنه قيل : إذا تداينتم فتكاتبوا وأشهدوا لكن التجارة الحاضرة التي يجري فيها التقابض لا جناح عليكم في عدم كتابتها .

و قيل الاستثناء متصل والجملة مستثناه في موضع نصب لأنه من الجنس لا لأنه أمر بالكتابة في كل معاملة واستثنى منها التجارة الحاضرة والتقدير آمركم بالكتابة والإشهاد في كل معاملة إلا في حال حضور التجارة فلا بأس من ترك الكتابة و " تجارة " قرأها الجمهور بالرفع على انها اسم تكون والخبر جملة تديرونها بينكم أو على أنها فاعل تكون إذا اعتبرناها تامة .

و قرأها عاصم بالنصب على انها خبر تكون واسمها ضمير مستتر فيها يعود على التجارة أي : إلا أن تكون التجارة حاضرة .

و قوله تعالى : { و أشهدوا إذا تبايعتم } أمر منه سبحانه بالإشهاد عند البيع وهذا أمر للإرشاد والتعليم عند جمهور العلماء ويرى الظاهرية أنه للوجوب .

قال صاحب الكشاف : هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا أي مؤجلا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كاف فيه دور الكتابة وعن الضحاك : " هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل " ( 97 ) .

ثم نهى سبحانه عن المضارة فقال : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } .

و المضارة إدخال الضرر والفعل : يضار احتمل ان يكون مبنيا للفاعل وأن أ صله " و لا يضار بكسر الراء ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول وأن أصله لا يضار بفتح الراء الأولى .

والمعنى على الأول : نهي الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضررا بأحد المتعاقدين بأن يبخس الكاتب أحدهما أو يشهد الشاهد بغير الحق .

و المعنى على الثاني : وهو الظاهر نهي الدائن والمدين عن ان ينزل أحدهما ضررا بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق فإنهما أمينان والإضرار بهما قد يحملهما على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة وذهاب الثقة ولذا قال تعالى بعد ذلك : { و إن تفعلوا فإنه فسوق بكم } .

أي وإن تفعلوا ما نهيتكم عنه أو تخالفوا ما أمرتكم به فإنكم بذلك تكونون قد خرجتم عن طاعة الله وتلبستم بمعصيته وصرتم أهلا للعقوبة فعليكم ان تقفوا عند حدود الله حتى تتحقق لكم السعادة في دينكم ودنياكم .

ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بالأمر بخشيته وبتذكيرهم بنعمه فقال : { و اتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم } .

أي : واتقوا الله فيما أمركم الله به ونهاكم عنه فهو سبحانه الذي يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له وهو سبحانه بكل شيء عليم لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء .

و بعد : فهذه هي آية الدين التي هي أطول آية في القرآن تقرؤوها فتراها قد اشتملت على أذق التشريعات واحكم التوجيهات وانجح الإرشادات التي تهدي إلى حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل .

تقرؤها فترى الدقة العجيبة في الصياغة بأن وضع كل لفظ في مكانه المناسب وترى الطلاوة في التعبير والعذوبة في الألفاظ بحيث لا تطغى دقة الصيانة على جمال العرض .

و ترى الوفاء الكامل لكل الجوانب التشريعية والاحتراس التام على المؤثرات التي قد تؤثر على سلامة التعاقد والإرشاد الجامع إلى كل ما يتضمن وصول الحق والعدل على جميع الأطراف بدون محاباة أو غبن .

و ترى قبل ذلك وبعد ذلك كيف يسوق القرآن تشريعاته بطريقة تغرس في النفوس الخوف من الله تعالى والمراقبة له والاستجابة لأوامره لا كطريقة البشر في قوانينهم التي صاغوها في قوالب صماء من الألفاظ لا تشعر معها بتأثير في النفس ولا باهتزاز في القلب .

و لو لم يكن في شريعة الله سوى هذا التأثير الذي تشعر به النفوس النقية الصافية عند تدبرها لكفاها ذلك دليلا على سموها وفضلها وعلى انها من صنع الله تعالى ولو أن المسلمين أخذوا بها وبتوجيهاتها في سائر شؤونهم لظفروا بالسعادتين الدينية والدنيوية .