بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (282)

قوله تعالى :{ يا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } روي عن ابن عباس أنه قال : الآية نزلت في السلم . ويقال كل دين إلى أجل سلماً كان أو غيره . { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني إلى أجل معلوم .

وفي الآية دليل أن المداينة لا تجوز إلا بأجل معلوم { فاكتبوه } يعني الدين والأجل . ويقال : أمر بالكتابة ، ولكن المراد به الكتابة والإشهاد ، لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة . ويقال : أمر بالكتابة لكي لا ينسى . ويقال : من أدان ديناً ، ولم يكتب ، فإذا نسي ودعا الله َ تعالى بأن يُظهِرَه يقول الله تعالى : أمرتك بالكتابة فعصيت أمري ، وإذا دعا بالنَّجاة من الزوجة يقول الله تعالى جعلت الطلاق بيدك إن شئت طلقها ، وإن شئت فأمسكها .

ثم قال تعالى : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل } يعني يكتب الكاتب عن البائع والمشتري يعدل بينهما في كتابته ، ولا يزاد على المطلوب على حقه ، ولا ينقص من حق الطالب .

ويقال : إن هذا أمر للكاتب بالكتابة ، وكانت المكاتبة واجبة في ذلك الوقت على الكاتب ، لأن الكتبة كانوا قليلاً ثم نسخ بقوله : { يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أَجَلِهِ ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ للشهادة وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَ أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 282 ] وقال بعضهم : الكتابة لم تكن واجبة ، ولكن الأمر على معنى الاستحباب ثم قال : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ } يقول ولا يمتنع الكاتب عن الكتابة أن يكتب { كَمَا عَلَّمَهُ الله } يعني يكتب شكراً لما أنعم الله عليه حيث علمه الكتابة ، واحتاج غيره إليه ، فكما أكرمه الله تعالى بالكتابة وفضله بذلك ، فيعرف شكره ، ولا يمتنع عن الكتابة لمن طلب منه . ثم قال : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق } يعني المطلوب هو الذي يملي على الكاتب حتى يكتب الكتابة ، لأن قول المطلوب حجة على نفسه ، فإذا أملى على الكاتب يكون ذلك إقراراً منه بوجوب الحق عليه .

ثم خوف المطلوب لكيلا ينقص شيئاً من حق الطالب .

فقال تعالى : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } يعني المطلوب { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } يقول : لا ينقص من الحق شيئاً ، يعني المطلوب . ويقال : يعني الكاتب ، ولا يبخس في الكتابة شيئاً { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق } يعني إذا كان المطلوب { سَفِيهًا } أي جاهلاً بالإملاء ، ويقال أحمق { أَوْ ضَعِيفًا } يعني صبيّاً عاجزاً عن الإملاء . ويقال : أخرس أو مجنون { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ } يعني لا يحسن { أَن يُمِلَّ هُوَ } على الكاتب فيرجع الإملاء على الطالب { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } يعني : ولي الحق أي الطالب هكذا قال في رواية الكلبي . وقال في رواية الضحاك . يعني ولي المدين يعني إذا كان للصبي وصي أو ولي يرجع الإملاء عليه فليملل وليه { بالعدل } أي بالحق .

ثم أمر بالإشهاد فقال تعالى : { واستشهدوا } على حقكم { شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } يعني من أهل دينكم من الأحرار البالغين { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ } فليكن رجلاً { وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء } يعني من العدول { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } يعني إذا نسيت إحدى المرأتين . { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } يعني : إذا حفظت إحداهما الشهادة فتذكر صاحبتها ويقال : إذا امتنعت إحداهما عن أداء الشهادة ، فتعظها الأُخرى حتى تشهد . قرأ حمزة { إن تضل } بكسر الألف ونصب التاء وجزم اللام ، وإنما كسر الألف على معنى الابتداء والشرط ، وجزم اللام لحرف الشرط ، { فَتُذْكِرُ } بضم الراء . وقرأ الباقون بنصب الألف ، ومعناه لأن تضل . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ، فتذكر بالتخفيف . وقرأ الباقون بنصب الذال وتشديد الكاف ، وهما لغتان أذكرته وذكرته .

ثم قال : { وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ } يعني : الشاهد إذا دعي إلى الحاكم ليشهد ، فلا يمتنع عن أداء الشهادة والإباء عن الشهادة حرام ، لأن الله تعالى نهى عن الإباء عن الشهادة . ويقال : إباء الشهادة على ثلاثة أوجه : أحدهما أن يمتنع عن أدائه . والثاني أن يشهد ويقصر في أدائه ، لكيلا تقبل شهادته . والثالث بأن لا يصون نفسه عن المعاصي ، فيصير منهما لا تقبل شهادته ، فكأنه وهو الذي أبطل حق المدعي ، وخانه حيث عصى الله تعالى حتى ردت شهادته بمعصيته . ثم قال تعالى { وَلاَ تسْأموا } يقول ولا تملوا { أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } يعني قليل الحق أو كثيره { إِلَى أَجَلِهِ } لأن الكتابة أحصى للأجل وأحفظ للمال { ذلكم أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ } أي أعدل { وَأَقْوَمُ } وأصوب { للشهادة وَأَدْنَى } يقول : أحرى وأجدر { أَلاَّ تَرْتَابُواْ } يعني : لا تشكوا في شيء من حقوقكم .

ثم استثنى الله تعالى { إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً } قرأ عاصم { تجارة حاضرة } بالنصب وقرأ الباقون بالرفع ، فمن قرأ بالنصب جعله خبر تكون ، والاسم مضمر معناه إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة .

ومن قرأ بالرفع جعله اسمه يعني إذا كان البيع بالنقد { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } يعني تداولونها أيديكم ، ولم يكن المال مؤجلاً { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي حرج { أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } يعني التجارة . ثم قال { وَأَشْهِدُواْ } على حقكم { إِذَا تَبَايَعْتُمْ } على كل حال ، نقداً كان أو مؤجلاً ، وهذا أمر استحباب ، ولو ترك الإشهاد جاز البيع . ثم قال تعالى { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } يقال لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد ، فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة ، ولهما حاجة مهمة ، فيمنعهما عن حاجتهما ، وليتركهما حتى يفرغا من حاجتهما ، أو يطلب غيرهما { وَإِن تَفْعَلُواْ } يقول : إن تضاروا الكاتب والشاهد { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } يقول معصية منكم وترك الأدب قوله : { واتقوا الله } في الضرر ويقال : واتقوا الله ولا تعصوه فيما أمركم من أمر الكتابة والإشهاد { وَيُعَلّمُكُمُ الله } في أمر الكتابة ، ويقال : ويؤدبكم الله { والله بِكُلّ شَيْء } من أعمالكم { عَلِيمٌ } .