معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

قوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } . أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد الاصبهاني ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أنا ابن المنادي ، أنا يونس أنا يعقوب القمي عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت ، قال وما الذي أهلكك ؟ قال : حولت رحلي البارحة ، فلم يرد عليه شيئاً ، فأوحى الله إليه ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) يقول أدبر وأقبل واتق الدبر والحيضة . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري ، أنا صاحب بن أحمد الطوسي ، أنا عبد الرحيم بن منيب ، أنا ابن عيينة ، عن ابن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها : أن الولد يكون أحول ، فنزلت ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : كان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون منهن مقبلات ، ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرت عليه وقالت : إنا كنا نؤتى على حرف ، فإن شئت فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني ، حتى سرى أمرهما ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ( نساؤكم حرث لكم ) الآية يعني موضع الولد ( فاتوا حرثكم أنى شئتم ) مقبلات ومدبرات ومستلقيات " وأنى " حرف استفهام يكون سؤالاً عن الحال والمحل ، معناه : كيف شئتم وحيث شئتم ، بعد أن يكون في صمام واحد ، وقال عكرمة ( أنى شئتم ) إنما هو الفرج ، ومثله عن الحسن ، وقيل ( حرث لكم ) أي مزرع لكم ، ومنبت للولد ، بمنزلة الأرض التي تزرع ، وفيه دليل على تحريم الأدبار ، لأن محل الحرث و الزرع هو القبل لا الدبر . وقال سعيد بن المسيب هذا في العزل ، يعني إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا وسئل ابن عباس عن العزل فقال : حرثك إن شئت فأعطش ، وإن شئت فأرو ، وروى عنه أنه قال : تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية ، وبه قال أحمد وكره جماعة العزل وقال : هو الوأد الخفي ، وروى عن مالك عن نافع قال : كنت أمسك على ابن عمر الصحف فقرأ هذه الآية ( نساؤكم حرث لكم ) فقال : أتدري فيم نزلت هذه الآية ؟ قلت لا قال : نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها ، فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية . ويحكى عن مالك إباحة ذلك ، وأنكر ذلك أصحابه ، وروي عن عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله فقال له : يا أبا عمر ما حديث يحدث نافع عن عبد الله أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النساء في أدبارهن ؟ فقال : كذب العبد وأخطأ ، إنما قال عبد الله : يؤتون في فروجهن من أدبارهن ، و الدليل على تحريم الأدبار ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع أخبرنا الشافعي ، أنا عمر محمد بن علي بن شافع أخبرني عبد الله بن علي بن السائب عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح عن خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " في أي الحرمتين أو في أي الحززتين ، أي من دبرها في قبلها ، فنعم أو من دبرها في دبرها فلا ، فإن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا عبد الله الحسين بن محمد الحافظ ، أنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، أخبر محمد ابن عبد الله الحضرمي أنا عبد الله بن أبان ، أنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن مسلم بن خالد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأته في دبرها " .

قوله تعالى : { وقدموا لأنفسكم } . قال عطاء : التسمية عند الجماع . قال مجاهد : ( وقدموا لأنفسكم ) يعني إذا أتى أهله فليدع .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عثمان بن أبي شيبة ، أنا جرير عن منصور عن سالم عن كريب عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً " .

وقيل ( قدموا لأنفسكم ) يعني : طلب الولد .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الحرقي ، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .

وقيل : هو التزوج بالعفائف ليكون الولد صالحاً .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا مسدد ، أنا يحيى عن عبد الله حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها و لجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " .

وقيل : معنى الآية تقديم الإفراط .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم " .

وقال الكلبي والسدي : ( وقدموا لأنفسكم ) يعني الخير ، والعمل الصالح بدليل سياق الآية .

قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } . صائرون إليه فيجزيكم بأعمالكم .

قوله تعالى : { وبشر المؤمنين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل ، لكونه موضع الحرث ، وهو الموضع الذي يكون منه الولد .

وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر ، لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث ، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك ، ولعن فاعله .

{ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ } أي : من التقرب إلى الله بفعل الخيرات ، ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته ، ويجامعها على وجه القربة والاحتساب ، وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم .

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أحوالكم ، كونوا ملازمين لتقوى الله ، مستعينين بذلك لعلمكم ، { أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ } ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها .

ثم قال : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لم يذكر المبشر به ليدل على العموم ، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وكل خير واندفاع كل ضير ، رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة .

وفيها محبة الله للمؤمنين ، ومحبة ما يسرهم ، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

221

وفي هذا الظل يصور لونا من الوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه :

( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) . .

وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب ، وإلى أهدافها واتجاهاتها . نعم ! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه . وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع . كقوله تعالى : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . . وقوله : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . . فكل من هذه التعبيرات يصور جانبا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب . أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث . لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء . وما دام حرثا فأتوه بالطريقة التي تشاءون . ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث :

( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) . .

وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف ، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى ؛ فيكون عملا صالحا تقدمونه لأنفسكم . واستيقنوا من لقاء الله ، الذي يجزيكم بما قدمتم :

( وقدموا لأنفسكم . واتقوا الله . واعلموا أنكم ملاقوه ) . .

ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله ، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث ، فكل عمل للمؤمن خير ، وهو يتجه فيه إلى الله :

( وبشر المؤمنين ) . .

هنا نطلع على سماحة الإسلام ، الذي يقبل الإنسان كما هو ، بميوله وضروراته ، لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر ؛ ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها ؛ إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها ! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها ، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد . يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولا ، وبمشاعر دينية أخيرا ؛ فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف ؛ ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة ، وحركة واحدة ، واتجاه واحد ، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته ، خليفة الله في أرضه ، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات . . وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة . وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق ، ويشقى الإنسان فردا وجماعة . والله يعلم وأنتم لا تعلمون . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

هذه الجملة تذييل ثان لجملة : { فأتوهن من حيث أمركم الله } [ البقرة : 222 ] قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى ، كقول عمر بن الخطاب لما حمي الحمى « لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً إنها لبلادُهم » وتعتبر جملة { نساؤكم حرث } مقدِّمة لجملة { فأتوا حرثكم أنى شئتم } وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا ، والعلةُ قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة { فأتوا حرثكم أنى شئتم } ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة .

والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار . وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول .

وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالى : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها .

وقال : { والخيل المسومة والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] أي الجنات والحوائط والحقول .

وقال : { كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } [ »ل عمران : 117 ] أي فأهلكت زرعهم .

وقال : { فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } [ القلم : 22 ] يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر .

والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولاً لفعل { فأتوا حرثكم } وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه ، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل " .

والفاء في { فأتوا حرثكم أنى شئتم } فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم ، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال .

وكلمة ( أنى ) اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها ، وقد كثر استعماله مجازاً في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه ، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحو { كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] وقال في « لسان العرب » : إن ( أنى ) تكون بمعنى ( متى ) ، وقد أضيف ( أنى ) في هذه الآية إلى جملة ( شئتم ) والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل ( أنى ) على المعنى المجازي وفسره بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان .

إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم ، فمنهم من جعلوه ظرفاً لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في « صحيح البخاري » تفسيراً من ابن عمر ، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور ب ( من ) ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يئول إلى تفسيره بمعنى كيف ، ونسب القرطبي هذين التأويلين إلى سيبويه . فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض . فتحمل ( أنى ) على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا بعد قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 2 ] .

ولا مناسبة تبعث لصرف الآية عن هذا المعنى إلا أن ما طار بين علماء السلف ومن بعدهم من الخوض في محامل أخرى لهذه الآية ، وما رووه من آثار في أسباب النزول يضطّرنا إلى استفصال البيان في مختلف الأقوال والمحامل مقتنعين بذلك ، لما فيه من إشارة إلى اختلاف الفقهاء في معاني الآية ، وإنها لمسألة جديرة بالاهتمام ، على ثقل في جريانها ، على الألسنة والأقلام .

روى البخاري ومسلم في « صحيحهما » عن جابر بن عبد الله : أن اليهود قالوا إذا أتى الرجل امرأته مجبية جاء الولد أحول ، فسأل المسلمون عن ذلك فنزلت { نساؤكم حرث لكم } الآية وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال : كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً ( أي يطأونهن وهن مستلقيات عن أقفيتهن ) ومقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتَى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شَرِي أمرُهما ( أي تفاقم اللجاج ) فبلغ ذلك النبي فأنزل الله : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } أي مقبلات كن أو مدبرات أو مستلقيات يعني بذلك في موضع الولد ، وروي مثله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي ، وما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكتُ قال وما أهلكك ؟ قال : حوَّلْت رحلي الليلة ( يريد أنه أتى امرأته وهي مستدبرة ) فلم يردَّ عليه رسول الله شيئاً فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم } الآية .

وروى البخاري عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عليه المصحف يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى { فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : تدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا قال : أنزلت في كذا وكذا وفي رواية عن نافع في البخاري « يأتيها في . . . . » ولم يزد وهو يعني في كلتا الروايتين عنه إتيان النساء في أدبارهن كما صرح بذلك في رواية الطبري وإسحاق بن راهويه : أنزلت إتيان النساء في أدبارهن ، وروى الدارقطني في « غرائب مالك » والطبري عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلاً أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } وقد روى أن ذلك الرجل هو عبد الله بن عمر ، وعن عطاء بن يسار أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر الناس عليه وقالوا : أثفرها فأنزل الله تعالى { نساؤكم حرث لكم } فعلى تأويل هؤلاء يكون قوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ، تشبيهاً للمرأة بالحرث أي بأرض الحرث وأطلق { فأتوا حرثكم } على معنى : فاحرثوا في أي مكان شئتم .

أقول : قد أجمل كلام الله تعالى هنا ، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال { أمركم الله } معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها ، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا كما قدمناه ، ثم أتبع بقوله : { يحب التوابين } [ البقرة : 222 ] فربما أشعر بأن فعلاً في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله : { ويحب المتطهرين } فأشعر بأن فعلاً في هذا الشأن قد يلتبس بغيرِ التنزه والله يحب التنزه عنه ، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل { يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين } [ التوبة : 108 ] ، واحتمالها لمعنى : ويبغض غير ذلك ، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله : { نساؤكم حرث لكم } فجعلن حرثاً على احتمال وجوه في الشبه ؛ فقد يقال : إنه وكل للمعروف ، وقد يقال : إنه جعل شائعاً في المرأة ، فلذلك نيط الحكم بذات النساء كلها ، ثم قال : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات ، وقد قيل : إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان ، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأُجمِل في هذا كله إجمال بديع وأثنى ثناء حسن .

واختلاف محامل الآية في أنظار المفسرين والفقهاء طوعُ علم المتأمل ، وفيها أقوال كثيرة ومذاهب مختلفة لفقهاء الأمصار في كتب أحكام القرآن وكتب السنة ، وفي دواوين الفقه ، وقد اقتصرنا على الآثار التي تمت إلى الآية بسبب نزول ، وتركنا ما عداه إلى أفهام العقول .

{ وَقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم ملاقوه وَبَشِّرِ المؤمنين }

عطف على جملة { فأتوا حرثكم } أو على جملة { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } . عطف الإنشاء على الخبر ، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبراً فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر ؛ فكرر ذلك اهتماماً بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة .

وحذف مفعول { وقدموا } اختصاراً لظهوره ؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها بمنزلة الثَّقَل الذي يقدمه المسافر .

وقوله : { لأنفسكم } متعلق ب { قدموا } ، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها ، وقوله : { واتقوا الله } تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة ، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات ، فمضمونها أعم من مضمون جملة { وقدموا لأنفسكم } فلذلك كانت هذه تذييلاً .

وقوله : { واعلموا أنكم ملاقوه } يجمع التحذير والترغيب ، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله : { ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] وهو عطف على قوله : { واتقوا الله } .

والملاقاة : مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة . وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها ، فلذلك كان لقي ولاقى بمعنى واحد ، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن ، ليزاد من تعليمهم اهتماماً بهذا المعلوم وتنافساً فيه على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة : { اعلموا } اهتماماً بالخبر واستنصاتاً له وهي نقطة عظيمة سيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } في سورة الأنفال ( 24 ) .

وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج ؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولاً ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم ، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء ، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعاراً بأنها هي الاستعداد ثم ذكِّروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل .

وقوله : { وبشر المؤمنين } تعقيب للتحذير بالبشارة ، والمراد : المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء : « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه » وذِكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان ، وجملة : { وبشر المؤمنين } ، معطوفة على جملة : { واعلموا أنكم ملاقوه } ، على الأظهر من جعل جملة : { نساؤكم حرث لكم } ، استئنافاً غير معمولة لقل هو أذى ، وإذا جعلت جملة { نساؤكم } من معمول القول كانت جملة { وبشر } معطوفة على جملة : { قُلْ هُوَ أَذًى } ؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني .