معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ} (107)

قوله تعالى : { خالدين فيها } ، لابثين مقيمين فيها ، { ما دامت السماوات والأرض } ، قال الضحاك : ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما وكل ما علاك وأظلك فهو سماء ، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض . قال أهل المعاني : هذا عبارة عن التأييد على عادة العرب ، يقولون لا آتيك ما دامت السماوات والأرض ، ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار ، يعنون : أبدا .

قوله تعالى : { إلا ما شاء ربك } . اختلفوا في هذين الاستثنائين فقال بعضهم : الاستثناء في أهل الشقاء يرجع إلى قوم من المؤمنين يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها ، ثم يخرجوهم منها فيكون ذلك استثناء من غير الجنس ، لأن الذين أخرجوا من النار سعداء استثناهم الله من جملة الأشقياء ، وهذا كما : أخبرنا عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا حفص بن عمر ، ثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها ، عقوبة ، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته ، فيقال لهم : الجهنميون " .

وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي قال : أنا أحمد بن عبد الله النعييمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أخبرنا يحي عن الحسن بن ذكوان أنبأنا أبو رجاء حدثني عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى عليه وسلم قال " يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين " وأما الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدة لبثهم في النار قبل دخول الجنة . وقيل : إلا ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ما بين الموت والبعث ، قبل مصيرهم إلى الجنة أو النار . يعني : هم خالدون في الجنة أو النار إلا هذا المقدار . وقيل : لا ما شاء ربك : سوى ما شاء ربك ، معناه خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الزيادة على قدر مدة بقاء السماوات والأرض ، وذلك هو الخلود فيها ، كما تقول : لفلان علي ألف إلا الألفين ، أي : سوى الألفين اللتين تقدمتا . وقيل : إلا بمعنى الواو ، أي : وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة ، كقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } [ البقرة-150 ] ، أي : ولا الذين ظلموا . وقيل : معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء أنه حكم لهم بالخلود . قال الفراء : هذا الاستثناء الله ولا يفعله ، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ} (107)

{ خَالِدِينَ فِيهَا ْ } أي : في النار ، التي هذا عذابها { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ْ } أي : خالدين فيها أبدا ، إلا المدة التي شاء الله ، أن لا يكونوا فيها ، وذلك قبل دخولها ، كما قاله جمهور المفسرين ، فالاستثناء على هذا ، راجع إلى ما قبل دخولها ، فهم خالدون فيها جميع الأزمان ، سوى الزمن الذي قبل الدخول فيها .

{ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ْ } فكل ما أراد فعله واقتضته حكمته فعله ، تبارك وتعالى ، لا يرده أحد عن مراده .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ} (107)

100

هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم ( ما دامت السماوات والأرض ) . وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار . وللتعبير ظلال . وظل هذا التعبير هنا هو المقصود .

وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين . وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية . فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها . إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله :

( إن ربك فعال لما يريد ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ} (107)

وأما قوله { ما دامت السماوات والأرض } فقيل معناه أن الله تعالى يبدل السماوات والأرض يوم القيامة ، ويجعل الأرض مكاناً لجهنم والسماء مكاناً للجنة ، ويتأبد ذلك ، فقرنت الآية خلود هؤلاء ببقاء هذه ؛ ويروى عن ابن عباس أنه قال : إن الله خلق السماوات والأرض من نور العرش ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة ، فلهما ثم بقاء دائم ، وقيل معنى قوله { ما دامت السماوات والأرض } العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب ، وذلك أن من فصيح كلامها إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول : لا أفعل كذا وكذا مدى الدهر ، وما ناح الحمام و { ما دامت السماوات والأرض } ، ونحو هذا مما يريدون به طولاً من غير نهاية ، فأفهمهم الله تعالى تخليد الكفرة بذلك وإن كان قد أخبر بزوال السماوات والأرض .

وأما قوله : { إلا ما شاء ربك } فقيل فيه : إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام ، فهو على نحو قوله : { لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين }{[6514]} استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قال : إن شاء الله ، فليس يحتاج إلى أن يوصف بمتصل ولا بمنقطع ، ويؤيد هذا قوله : { عطاء غير مجذوذ } وقيل : هو استثناء من طول المدة ، وذلك على ما روي من أن جهنم تخرب ويعدم أهلها وتغلق أبوابها{[6515]} فهم - على هذا - يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مختل ، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين ، وهو الذي يسمى جهنم ، وسمي الكل به تجوزاً .

وقيل : إنما استثنى ما يلطف الله تعالى به للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار ، فيجيء قوله : { إلا ما شاء ربك } أي لقوم ما ، وهذا قول قتادة والضحاك وأبي سنان وغيرهم ، وعلى هذا فيكون قوله : { فأما الذين شقوا } عاماً في الكفرة والعصاة - كما قدمنا - ويكون الاستثناء من { خالدين }{[6516]} ، وقيل : { إلا } بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاء الله زائداً على ذلك ، ونحو هذا قول الشاعر : [ الوافر ]

وكل أخ مفارقه أخوه*** لعمر أبيك إلا الفرقدان{[6517]}

قال القاضي أبو محمد : وهذا البيت يصح الاستشهاد به على معتقدنا في فناء الفرقدين وغيرهما من العالم ، وأما إن كان قائله من دهرية العرب{[6518]} فلا حجة فيه ، إذ يرى ذلك مؤبداً فأجرى «إلا » على بابها .

وقيل { إلا } في هذه الآية بمعنى سوى ، والاستثناء منقطع ، كما تقول : لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك ، بمعنى سوى تلك ، فكأنه قال : { خالدين فيها ما دامت المساوات والأرض } سوى ما شاء الله زائداً على ذلك ، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد : { عطاء غير مجذوذ } ، وهذا قول الفراء ، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب «سوى » ؛ وسيبويه يقدره ب «لكن » ؛ وقيل سوى ما أعده لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير ونحوه ، وقيل استثناء من مدة السماوات : المدة التي فرطت لهم في الحياة الدنيا ؛ وقيل في البرزخ بين الدنيا والآخرة ؛ وقيل : في المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولهم إنما هو زمراً بعد زمر ؛ وقيل : الاستثناء من قوله : { ففي النار } كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير عن ذلك ، وهذا قول رواه أبو نضرة عن جابر أو عن أبي سعيد الخدري{[6519]} .

ثم أخبر منبهاً على قدرة الله تعالى بقوله : { إن ربك فعال لما يريد } .


[6514]:- من الآية (27) من سورة (الفتح)
[6515]:- المروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (ليأتينّ على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها). راجع تعليق المؤلف على هذا فهو القول السليم. وأقرب معاني (خفق) التي يمكن إيرادها هنا هو قولهم: خفق المكان: خلا. روى ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن مسعود: (ليأتينّ عليها زمان تخفق أبوابها)- الدر المنثور.
[6516]:- يؤيد هذا ما قاله القرطبي: "وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال: هؤلاء الجهنميون). والحممة واحدة الحمم وهو الرماد والفحم وكل ما احترق واسودّ من النار.
[6517]:- البيت لعمرو بن معد يكرب (سيبويه 1-371)- واللسان. وقيل: لحضرمي بن عامر (كما في المؤتلف والمختلف 116)- وفي حاشية سيبويه: لسوار بن المضرب، والفرقدان: نجمان في السماء لا يغربان، وقيل: كوكبان قريبان من القطب، وقيل: كوكبان في بنات نعش الصغرى، يقال: لأبكينك الفرقدين: أي طول طلوعهما، ينصب على الظرف مثل بقية النجوم حيث يقال: لأبكينك الشمس والقمر، ويجوز أن تكون "إلا" في البيت بمعنى "غير"، قال سيبويه: كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، فهو نعت لـ (كل). والبيت مذكور في الخزانة أيضا (2-55).
[6518]:- الدهري: الرجل الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة ويقول ببقاء الدهر.
[6519]:- ذكر ابن عطية عشرة أقوال في الاستثناء الوارد في هذه الآية، وقد ذكرها القرطبي أيضا، ونقلها أبو حيان في "البحر المحيط" عن ابن عطية، وللمفسرين أقوال أخرى.