قوله تعالى :{ وانكحوا الأيامى منكم } الأيامى : جمع الأيم ، وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة ، يقال : رجل أيم وامرأة أيمة وأيم ، ومعنى الآية : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم ، { والصالحين من عبادكم وإمائكم } وهذا الأمر أمر ندب واستحباب . يستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبة النكاح أن يتزوج ، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته بالصوم ، لما أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسين الطوسي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفرايني ، أنبأنا أبو بكر محمد بن مرداد بن مسعود ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أيوب البجلي ، أنبأنا محمد بن كثير ، أنبأنا سفيان عن الأعمش عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط " . وقال صلى الله عليه وسلم : " من أحب فطرتي فليستن بسنتي ، ومن سنتي النكاح " . أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة له أفضل من النكاح عند الشافعي رحمه الله ، وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل . قال الشافعي : وقد ذكر الله تعالى عبداً أكرمه فقال : { وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين } والحصور : الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه ، وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح . وفي الآية دليل على أن تزويج النساء الأيامى إلى الأولياء ، لأن الله تعالى خاطبهم به ، كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات ، لقوله عز وجل : { والصالحين من عبادكم وإمائكم } . وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ، روي ذلك عن عمر ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، وشريح ، وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق . وجوز أصحاب الرأي للمرأة الحرة تزويج نفسها . وقال مالك : إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها ، وإن كانت شريفة فلا . والدليل على أن الولي شرط من جهة الإخبار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي ، أنبأنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أنبأنا قتيبة بن سعيد ، أنبأنا أبو عوانة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا نكاح إلا بولي " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سعيد بن سالم عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، ثلاثاً ، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له " . قوله عز وجل : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم } قيل : الغنى ها هنا : القناعة . وقيل : اجتماع الرزقين ، رزق الزوج ورزق الزوجة . وقال عمر : عجبت لمن ابتغى الغنى بغير النكاح ، والله عز وجل يقول : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } . وروي عن بعضهم : أن الله تعالى وعد الغنى بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وقال تعالى : { وإن يتفرقا يغني الله كلاً من سعته } .
يأمر تعالى الأولياء والأسياد ، بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى وهم : من لا أزواج لهم ، من رجال ، ونساء ثيب ، وأبكار ، فيجب على القريب وولي اليتيم ، أن يزوج من يحتاج للزواج ، ممن تجب نفقته عليه ، وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم ، كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب أولى .
{ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } يحتمل أن المراد بالصالحين ، صلاح الدين ، وأن الصالح من العبيد والإماء -وهو الذي لا يكون فاجرا زانيا- مأمور سيده بإنكاحه ، جزاء له على صلاحه ، وترغيبا له فيه ، ولأن الفاسد بالزنا ، منهي عن تزوجه ، فيكون مؤيدا للمذكور في أول السورة ، أن نكاح الزاني والزانية محرم حتى يتوب ، ويكون التخصيص بالصلاح في العبيد والإماء دون الأحرار ، لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة ، ويحتمل أن المراد بالصالحين الصالحون للتزوج المحتاجون إليه{[562]} من العبيد والإماء ، يؤيد هذا المعنى ، أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه ، قبل حاجته إلى الزواج . ولا يبعد إرادة المعنيين كليهما ، والله أعلم .
وقوله : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ } أي : الأزواج والمتزوجين { يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فلا يمنعكم ما تتوهمون ، من أنه إذا تزوج ، افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه ، وفيه حث على التزوج ، ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر . { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } كثير الخير عظيم الفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحق فضله الديني والدنيوي أو أحدهما ، ممن لا يستحق ، فيعطي كلا ما علمه واقتضاه حكمه .
وإلى هنا كان علاج المسألة علاجا نفسيا وقائيا . ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة ، لا بد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية . . هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج ، والمعاونة عليه ؛ مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائيا :
وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم . إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . والله واسع عليم . وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله . والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم - إن علمتم فيهم خيرا - وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ؛ ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء - إن أردن تحصنا - لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم . .
إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية . وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة .
فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج ، لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها . والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت ، وتحصين النفوس . والإسلام نظام متكامل ، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها ، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء . فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر .
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال :
( وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم . إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) . .
والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين . . والمقصود هنا الأحرار . وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك : ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) .
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) . .
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم . والجمهور على أن الأمر هنا للندب . ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم يزوجوا . ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم . ونحن نرى أن الأمر للوجوب ، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج ؛ ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج ، وتمكينهم من الإحصان ، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية ، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة . وهو واجب . ووسيلة الواجب واجبة .
وينبغي أن نضع في حسابنا - مع هذا - أن الإسلام - بوصفه نظاما متكاملا - يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجا أساسيا ؛ فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب ، وتحصيل الرزق ، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال . ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات . . فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله . وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة واجبا للأفراد . أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام .
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي - بعد ذلك - أيامى فقراء وفقيرات ، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج ، فعلى الجماعة أن تزوجهم . وكذلك العبيد والإماء . غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين .
ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج - متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالا ونساء - فالرزق بيد الله . وقد تكفل الله بإغنائهم ، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) . وقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف " .
وقوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى } هذه المخاطبة لكل من تصور أن ينكح في نازلة ما ، فهم المأمورون بتزويج من لا زوج له وظاهر الآية أن المرأة لا تتزوج إلا بولي ، والأيم يقال للرجل وللمرأة ومنه قول الشاعر :
«لله در بني على أيم منهم وناكح »{[8703]} ، ولعموم هذا اللفظ قالت فرقة إن هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى : { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين }{[8704]} [ النور : 3 ] وقوله : { والصالحين } يريد للنكاح{[8705]} ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من عبيدكم » والجمهور على «عبادكم » والمعنى واحد إلا أن قرينة الترفيع بالنكاح يؤيد قراءة الجمهور ، وهذا الأمر بالإنكاح يختلف بحسب شخص شخص ، ففي نازلة يتصور وجوبه ، وفي نازلة الندب وغير ذلك وهذا بحسب ما قيل في النكاح ، ثم وعد الله تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين طلب رضى الله عنهم واعتصاماً من معاصيه ، وقال ابن مسعود التمسوا الغنى في النكاح ، وقال عمر رضي الله عنه عجبي ممن لا يطلب الغنى بالنكاح وقد قال تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله }{[8706]} ، قال النقاش هذه الآية حجة على من قال إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيراً لا يقدر على النفقة لأن الله قال { يغنهم } ولم يقل يفرق بينهما ، وهذا انتزاع ضعيف ، وليست هذه الآية حكماً فيمن عجز عن النفقة وإنما هي وعد بالإغناء كما وعد مع التفرق في قوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[8707]} [ النساء : 13 ] ونفحات رحمة الله مأمولة في كل حال موعود بها ، وقوله : { واسع عليم } صفتان نحو المعنى الذي فيه القول أي { واسع } الفضل { عليم } بمستحق التوسعة والإغناء .