غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (32)

27

الحكم السادس : النكاح وذلك أنه حين أمر بغض الأبصار وحفظ الفروج ارشد بعد ذلك إلى طريق الحل فيما تدعو إليه الشهوة . وأصل الأيامى أيايم فقلب الواحد أيم بتشديد الياء ، ويشمل الرجل والمرأة . قال النضر بن شميل : الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك يقول : زوِّجوا اياماكم بعضهم من بعض . وقد آم وآمت وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين . قال : فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت افتى منكم أتأيم . وظاهر الأمر الوجوب إلا أن الجمهور حملوه على الندب لأنه لو كان واجباً لشاع في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشر ، ولو انتشر لنقل لعموم الحاجة إليه . وقد ورد في الأخبار التصريح بكونه سنة كقوله صلى الله عليه وسلم " النكاح سنتي " وكقوله صلى الله عليه وسلم " من أحب فطرتي فليستسن بسنتي وهي النكاح " وقد أجمعوا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه . واتفقوا على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده أو أمته . نعم قد يجب في بعض الصور كما إذا التمست التزويج من الولي فعليه الإجابة إذا كان الخاطب كفؤاً . استدل الشافعي بعموم الآية على جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها واعترض أبو بكر الرازي بأن الأيامى شامل للرجال والنساء وحين لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم فكذا في النساء ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها " وأجيب بأن تخصيص النص لا يقدح في كونه حجة في الباقي . والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده بخلاف المرأة فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها أظهر ، على أنا لا نسلم أن لفظ الأيامى عند الإطلاق يتناول الرجال ، وفي تخصيص الآية بخبر الواحد أيضاً نزاع . واستدل أبو حنيفة بعموم الآية أيضاً على أن العم والأخ يليان تزويج الثيب الصغيرة ونوقش فيه . قال الشافعي : من تاقت نفسه إلى النكاح استحب له أن ينكح إذا وجد أهبة النكاح وإلا فليكسر شهوته بالصوم لما روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فإن الصوم له وجاء " والذي جاء لا تتوق نفسه إلى النكاح لكبر أو مرض أو عجز أو كان غير قادر على النفقة يكره له أن ينكح لأنه يلتزم مالا يمكنه القيام بحقه ، وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له أن ينكح لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى . وقال أبو حنيفة : النكاح أفضل . حجة الشافعي أنه تعالى مدح يحيى بقوله { وسيداً وحصوراً } [ آل عمران : 39 ] والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن . وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل أعمالكم الصلاة " وقال " أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن " وقال " أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح " والمباح ما استوى طرفاه ، والمندوب ما ترجح فعله ولو كان النكاح عبادة لم يصح من الكافر . والنكاح فيه شهوة النفس والعبادة فيها مشقة النفس والإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر !‍ ولو كان النكاح مساوياً للنوافل في الثواب لم تكن النوافل مشروعة لأن الطريق المؤدي إلى المطلوب مع بقاء اللذة وعدم التعب أولى بالسلوك ، وإن كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لأنه سبب لبقاء الأشخاص ونظام العالم . فالاشتغال بالزراعة أيضاً أولى من النافلة للعلة المذكورة . وقد وقع الإجماع على أن واجب العبادة مقدم على واجب النكاح ، فكذا مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال " وعنه صلى الله عليه وسلم " يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة " حجة أبي حنيفة أن النكاح يتضمن صوت النفس من ضرر الزنا ودفع الضرر أهم من جلب النفع . وأيضاً النكاح يتضمن العدل . وقد ورد في الحديث " لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة " وقال صلى الله عليه وسلم " النكاح سنتي " وقال في الصلاة " إنها خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل " ثم إن الأيامى جمع مستغرق لكنهم أجمعوا على أنه لا بد من شروط ذكرنا بعضها في سورة النساء في قوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] ومعنى { منكم } أي من حرائركم قاله كثير من المفسرين لأن حكم العبيد والإماء يعقب ذلك . ومنهم من قال : أراد من يكون تحت ولاية المأمور من الولد والقريب . ومنهم من قال : الإضافة لا تفيد الحرية والإسلام .

ثم أمر السادة أن يزوجوا أرقاءهم الصالحين . واتفقوا على أنه للإباحة والترغيب لأن في تزويج العبد التزام مؤنة زوجته وتعطل خدمته واستفادة المهر وسقوط النفقة في تزويج الأمة ليس قبوله بلازم على السيد أيضاً ، وتخصيص الصالحين بالذكر عناية من الله بحالهم ليتحصن دينهم ويتحفظ عليهم صلاحهم . وأيضاً الصالحون من الأرقاء هم الذين يشفق عليهم مواليهم ويهتمون بشأنهم حتى ينزلوهم منزلة الأولاد . ويجوز أن يراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح ، ومن جملة ذلك أن لا يكون في غاية الصغر بحيث لا يحتاج إلى النكاح . وإذن السيد لهم أن يزوجوا أنفسهم ينوب عن تزويج السيد . أما قوله { إن يكونوا فقراء } فالأصح أن هذا ليس وعداً من الله تعالى بإغناء من يتزوج حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف ، فرب غني يفقره النكاح ولكن المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح . على أن مثل هذا الوعد قد جاء مشروطاً بالمشيئة في قوله { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } [ التوبة : 28 ] فالمطلق محمول على المقيد .

وقيل : أراد بالغنى نفس العفاف بتملك البضع الذي يغنيه عن الوقوع في الزنا . وعن طائفة من الصحابة أن هذا وعد . وعن أبي بكر قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى . وعن ابن عباس : التمسوا الرزق بالنكاح . وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاجة فقال : " عليك بالباءة " . وقد يستدل بالآية على أن العبد والأمة يملكان وإلا لم يتصور فقرهما وغناهما . والمفسرون قالوا : الضمير عائد إلى الأحرار خاصة وهم الأيامى ، وإن فسر الغني بالعفاف فلا بعد في رجوعه إلى الكل { والله واسع } إفضاله ولكنه { عليم } يبسط الرزق كما يريد وعلى ما ينبغي . وفيه إشارة إلى قيد المشيئة في الوعد المذكور .

/خ34