السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (32)

ولما نهى عما سيفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عنه مبالغة فيه عقبه بالحكم الثامن وهو الأمر بالنكاح المذكور في قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم } جمع أيم والأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم فقلبا ، والأيم هي من ليس لها زوج بكراً كانت أو ثيباً ، ومن ليس له امرأة فيشمل ذلك الذكر والأنثى قال الشاعر :

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي *** وإن كنت أفتى منكم أتأيم

أي : أقرب إلى الشباب منك وأتأيم بالرفع على قلة جواب إن تتأيمي ، وما بينهما جملة معترضة ، والمعنى أوافقك في حالتي التزوج والتأيم ، وإن كنت أقرب إلى الشباب منك ، وعنه صلى الله عليه وسلم : «اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة ، والأيمة والقزم والقرم العيمة : شهوة اللبن ، والغيمة : العطش ، والأيمة : شهوة النكاح مع الخلو من الزوجية ، والقزم : البخل ، والقرم : شهوة اللحم ، وهذا في الأحرار والحرائر ، وأما غيرهم فهو قوله تعالى : { والصالحين } أي : المؤمنين{ من عبادكم } وهو من جموع عبد ، { وإمائكم } والخطاب للأولياء والسادة ، وهذا الأمر أمر ندب ، فيستحب لمن تاقت نفسه للنكاح ووجد أهبته أن يتزوج ومن لم يجد أهبته استحب له أن يكسر شهوته بالصوم لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » أي : قاطع لشهوته لأن الوجاء بكسر الواو نوع من الخصاء وهو أن ترض عروق الأنثيين وتترك الخصيتان كما هما ، فشبه الصوم في قطعه شهوة النكاح بالوجاء الذي يقطع النسل ، والباءة بالمد مؤن النكاح ، وهي المهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه .

فإن لم تنكسر شهوته بالصوم فلا يكسرها بالكافور ونحوه بل يتزوج ، ويكره لغير التائق إن فقد الأهبة أو وجدها وكان به علة كهرم فإن وجدها ولا علة به وهو غير تائق فالتخلي للعبادة أفضل من النكاح إن كان متعبداً فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل من تركه لقوله صلى الله عليه وسلم : «من أحب فطرتي فليستن بسنتي » وهي النكاح ، وعنه صلى الله عليه وسلم «من كان له مال يتزوج به فلم يتزوج فليس منا » ، وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا تزوج أحدكم عج شيطانه يا ويلاه عصم ابن آدم مني ثلثي دينه » والأحاديث في ذلك كثيرة ، وربما كان واجب الترك إذا أدى إلى معصية أو مفسدة ، وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال » ، وفي رواية : «يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية ، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة » ، ويندب النكاح للمرأة التائقة وفي معناها المحتاجة إلى النفقة ، والخائفة من اقتحام الفجرة ، ويستحب أن تكون المنكوحة بكراً إلا لعذر لقوله صلى الله عليه وسلم «هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك » ، ولوداً لقوله صلى الله عليه وسلم «تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » ، وفي رواية : «يا عياض لا تتزوج عجوزاً ولا عاقراً ، فإني مكاثر دينة » لما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال : «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة » .

وقيل : المراد بالصالحين الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه ، و قوله تعالى : { إن يكونوا } أي : الأحرار { فقراء يغنهم الله } أي : بالتزويج { من فضله } ردّ لما عساه أن يمنع من النكاح والمعنى لا يمنعهن فقر الخاطب والمخطوبة من المناكحة ، فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غادٍ ورائح ، أو وعد من الله تعالى بالغنى لقوله صلى الله عليه وسلم «اطلبوا الغنى في هذه الآية » .

لكن ينبغي أن تكون شريطة الله تعالى غير منسية في هذا الوعد ونظائره ، وهي مشيئته ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة ، ونحوه : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً 2 ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق ، 2 - 3 ] ، وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم } [ التوبة ، 28 ] ، ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضاً بعزب كان غنياً فأفقره النكاح .

وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء ففني وأصبح مسكيناً ، وورد : «التمسوا الرزق بالنكاح » ، وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل الحاجة فقال : «عليك بالباءة » أي : النكاح ، وعن عمر رضي الله عنه : عجبت لمن يبتغي الغنى بغير النكاح ، والله تعالى يقول : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } ، وحكي عنه أنه قال : عجبت لمن لم يطلب الغنى بالباءة ، وقال طلحة بن مطرف : تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع في أخلاقكم ويزيد الله في ثروتكم ؛ قال الزمخشري : ولقد كان عندنا رجل رازح الحال ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت ، فسألته فقال : كنت في أول أمري على ما علمت وذلك قبل أن أرزق ولداً ، فلما رزقت بكر ولدي تراخيت عن الفقر فلما ولد لي الثاني ازددت خيراً فلما تتاموا ثلاثة صبَّ الله علي الخير ، فأصبحت إلى ما ترى ، انتهى . { والله } أي : الذي له الملك كله { واسع } أي : ذو سعة لخلقه لا تنفد نعمه إذ لا تنتهي قدرته { عليم } بهم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .