فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَنكِحُواْ ٱلۡأَيَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّـٰلِحِينَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَآئِكُمۡۚ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (32)

ولما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ، ويسهل بعده غض البصر عن جميع المحرمات . وحفظ الفرج عما لا يحل فقال :

{ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 32 ) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 33 ) } .

{ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ } الأيّم بالتشديد التي لا زوج لها ومن ليس له زوجة فيشمل الرجل والمرأة غير المتزوجين والجمع أيامى والأصل أيايم قال أبو عمرو والكسائي : اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا قال أبو عبيدة : يقال رجل أيم وامرأة أيم وأكثر ما يكون في النساء وهو كالمستعار في الرجال والخطاب في الآية للأولياء والسادة .

وقيل للأزواج والأول أرجح وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها .

وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثا " {[1297]} أخرجه أبو داود والترمذي وعندهما عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا نكاح إلا بولي ) {[1298]} وقد خالف في ذلك أبو حنيفة فجوز للمرأة تزويج نفسها واختلف أهل العلم في هذا النكاح هل هو مباح ؟ أو مستحب ؟ أو واجب ، فذهب إلى الأول الشافعي وغيره وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة وإلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك فقالوا : إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه ، وإلا فلا .

والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع الخشية وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح ومن رغب عن سنتي فليس مني ولكن مع القدرة عليه وعلى مؤنه ، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) أخرجه البخاري ومسلم{[1299]} .

قال ابن عباس : أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم ووعدهم في ذلك الغنى كما سيأتي وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى ، وعن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال : ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة وقد وعد الله فيها ما وعد فقال { إِن يَكُونُوا فُقَرَاء } الآية وعن ابن مسعود نحوه .

وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنكحوا النساء يأتينكم بالمال ) أخرجه البزار والدارقطني وأخرجه أبو داود في مراسيله عن عروة مرفوعا . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله ) {[1300]} . وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها والمراد بالأيامى ههنا الأحرار والحرائر وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله :

{ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أأ وقرئ عبيدكم والصلاح هو الإيمان وقيل القيام بحقوق النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم بها وتقوم الأمة بما يلزم للزوج ، أو المراد بالصلاح أن لا تكون صغيرة لا تحتاج إلى النكاح ، وخص الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في المودة ، وكانوا مظنة التوصية والاهتمام بهم ، ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك ، وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك .

وفيه دليل على أن الملوك لا يزوج نفسه وإنما يزوجه ويتولى تزويجه مالكه وسيده ، وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح وقال مالك لا يجوز ، ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال :

{ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما مالا فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك ، فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح ، قال الزجاج : حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ولا يلزم أن يكون هذا حاصلا لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة ، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا ، وقيل المعنى أنه يغنيهم بغنى النفس أي القناعة ، وقيل المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا ، والوجه الأول أولى ويدل عليه قوله سبحانه : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك .

وقيل هو اجتماع الرزقين رزق الزوج والزوجة ، وقيل إن الله وعد الغني بالنكاح وبالتفرق وهو قوله : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } وجملة { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } مقررة لما قبلها ومؤكدة والمراد أنه سبحانه ذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده ، عليم بمصالح خلقه ، يغني من يشاء ويفقر من يشاء


[1297]:الترمذي كتاب النكاح باب 14 ـ ابن ماجة كتاب النكاح باب 15
[1298]:الترمذي كتاب النكاح باب 14 ـ أبو داوود كتاب النكاح باب 19.
[1299]:مسلم 1400 ـ البخاري 967.
[1300]:الترمذي فضائل الجهاد باب 20 ـ النسائي كتاب النكاح باب 5.