معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

قوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } الآية . قال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، إن الرجال يغزون ولا نغزو ، ولهم ضعف ما لنا من الميراث ، فلو كنا رجالاً غزونا كما غزوا ، وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا . فنزلت هذه الآية .

وقيل : لما جعل الله عز وجل للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث ، قالت النساء : نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الرجال ، لأنا ضعيفات وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منا ، فأنزل الله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } . وقال قتادة والسدي : لما أنزل قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } ، قال الرجل إنا لنرجو أن نفضل على السناء بحسناتنا في الآخرة ، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث .

قوله تعالى : { للرجال نصيب مما اكتسبوا } من الأجر .

قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما اكتسبن } . معناه : أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء ، وذلك أن الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي فيها الرجال ، والنساء ، وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء . وقيل معناه : ( للرجال نصيب مما اكتسبوا ) من أمر الجهاد ( وللنساء نصيب مما اكتسبن ) من طاعة الأزواج ، وحفظ الفروج . قوله تعالى : { واسألوا الله من فضله } ، قرأ ابن كثير والكسائي : ( وسلوا ، وسل ، وفسل ) إذا كان قبل السين واو ، أو فاء بغير همز ، ونقل حركة الهمزة إلى السين ، والباقون بسكون السين مهموزاً ، فنهى الله تعالى عن التمني لما فيه من دواعي الحسد ، والحسد : أن يتمنى زوال النعمة عن صاحبه ، سواء تمناها لنفسه أم لا ، وهو حرام والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز . قال الكلبي : لا يتمنى الرجل مال أخيه ، ولا امرأته ، ولا خادمه ، ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله ، وهو كذلك في التوراة وذلك في القرآن . قوله : { واسألوا الله من فضله } قال ابن عباس : ( واسألوا الله من فضله ) أي : من رزقه ، وقال سعيد بن جبير : من عبادته ، فهو سؤال التوفيق للعبادة . قال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي . { إن الله كان بكل شيء عليماً } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

{ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }

ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة . فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء ، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه ، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها . ولأنه يقتضي السخط على قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب . وإنما المحمود أمران : أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية ، ويسأل الله تعالى من فضله ، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه . ولهذا قال تعالى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا } أي : من أعمالهم المنتجة للمطلوب . { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } فكل منهم لا يناله غير ما كسبه وتعب فيه . { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } أي : من جميع مصالحكم في الدين والدنيا . فهذا كمال العبد وعنوان سعادته لا من يترك العمل ، أو يتكل على نفسه غير مفتقر لربه ، أو يجمع بين الأمرين فإن هذا مخذول خاسر .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } فيعطي من يعلمه أهلا لذلك ، ويمنع من يعلمه غير مستحق .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

24

وفي سياق الحديث عن الأموال ، وتداولها في الجماعة ، تجيء تكملة فيما بين الرجال والنساء من ارتباطات ومعاملات . وفيما كان من عقود الولاء وعلاقاتها بنظام التوريث العام . الذي سبق تفصيله في أوائل السورة :

ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . . للرجال نصيب مما اكتسبوا ، وللنساء نصيب مما اكتسبن . . واسألوا الله من فضله . إن الله كان بكل شيء عليما . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون . والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .

والنص عام في النهي عن تمني ما فضل الله بعض المؤمنين على بعض . . من أي أنواع التفضيل ، في الوظيفة والمكانة ، وفي الاستعدادات والمواهب ، وفي المال والمتاع . . وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة . . والتوجه بالطلب إلى الله ، وسؤاله من فضله مباشرة ؛ بدلا من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت ؛ وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد ؛ ومن حنق كذلك ونقمة ، أو من شعور بالضياع والحرمان ، والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور . . وما قد ينشأ عن هذا كله من سوء ظن بالله ؛ وسوء ظن بعدالة التوزيع . . حيث تكون القاصمة ، التي تذهب بطمأنينة النفس ، وتورث القلق والنكد ؛ وتستهلك الطاقة في وجدانات خبيثة ، وفي اتجاهات كذلك خبيثة . بينما التوجه مباشرة إلى فضل الله ، هو ابتداء التوجه إلى مصدر الإنعام والعطاء ، الذي لا ينقص ما عنده بما أعطى ، ولا يضيق بالسائلين المتزاحمين على الأبواب ! وهو بعد ذلك موئل الطمأنينة والرجاء ؛ ومبعث الإيجابية في تلمس الأسباب ، بدل بذل الجهد في التحرق والغيظ أو التهاوي والانحلال !

النص عام في هذا التوجيه العام . ولكن موضعه هنا من السياق ، وبعض الروايات عن سبب النزول ، قد تخصص من هذا المعنى الشامل تفاوتًا معينًا ، وتفضيلا معينا هو الذي نزل هذا النص يعالجه . . هو التفاضل في أنصبة الرجال وأنصبة النساء . . كما هو واضح من سياق الآية في عمومها بعد ذلك . . وهذا الجانب - على أهميته الكبرى في تنظيم العلاقة بين شطري النفس البشرية وإقامتها على الرضا وعلى التكامل ؛ وإشاعة هذا الرضا - من ثم - في البيوت وفي المجتمع المسلم كله ؛ إلى جانب إيضاح الوظائف المنوعة فيه بين الجنسين والمهام . . هذا الجانب على أهميته هذه لا ينفي عموم النص مع خصوص السبب . . ولهذا روت التفاسير المأثورة ، هذا المعنى وذاك :

قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، تغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث . . فأنزل الله : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) .

ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه . من حديث الثوري ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله . لا نقاتل فنستشهد ، ولا نقطع الميراث . . فنزلت الآية . . ثم أنزل الله : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم ، من ذكر أو أنثى ) . . الآية .

وقال السدي في الآية : إن رجالاً قالوا : إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان ! وقالت النساء : إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء ، فإننا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا ! فأبى الله ذلك ، ولكن قال لهم : سلوني من فضلي . قال ليس بعرض الدنيا . . وروى مثل ذلك عن قتادة . . كذلك وردت روايات أخرى بإطلاق معنى الآية :

قال علي بن أبى طلحة عن ابن عباس في الآية ، قال : " ولا يتمنى الرجل فيقول : ليت لي مال فلان وأهله . فنهى الله عن ذلك . ولكن يسأل من فضله " . . وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا . .

ونجد في الأقوال الأولى ظلالاً من رواسب الجاهلية في تصور ما بين الرجال والنساء من روابط ؛ كما نجد روائح للتنافس بين الرجال والنساء ، لعلها قد أثارتها تلك الحريات والحقوق الجديدة التي علمها الإسلام للمرأة ، تمشيًا مع نظريته الكلية في تكريم الإنسان بجنسيه ، وفي إنصاف كل جنس فيه وكل طبقة وكل أحد . . إنصافه حتى من نفسه التي بين جنبيه . .

ولكن الإسلام إنما كان يستهدف من هذا كله تحقيق منهجه المتكامل بكل حذافيره . لا لحساب الرجال ، ولا لحساب النساء ! ولكن لحساب " الإنسان " ولحساب " المجتمع المسلم " ولحساب الخلق والصلاح والخير في إطلاقه وعمومه . وحساب العدل المطلق المتكامل الجوانب والأسباب .

إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف ؛ وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء . والفطرة ابتداء جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة ؛ وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة ؛ لتنوط بكل منهما وظائف معينة . . لا لحسابه الخاص . ولا لحساب جنس منهما بذاته . ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم ، وتنتظم ، وتستوفي خصائصها ، وتحقق غايتها - من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة - عن طريق هذا التنوع بين الجنسين ، والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف . . وعن طريق تنوع الخصائص ، وتنوع الوظائف ، ينشأ تنوع التكاليف ، وتنوع الأنصبة ، وتنوع المراكز . . لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى . . المسماة بالحياة . .

وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداء ، ثم يدرس الجانب الخاص منه بالارتباطات بين شطري النفس الواحدة ، لا يبقى مجال لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات ، ولا كذلك للجدل الحديث ، الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام . ويطغى أحيانًا على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام !

إنه عبث تصوير الموقف كما لو كان معركة حادة بين الجنسين ، تسجل فيه المواقف والانتصارات . . ولا يرتفع على هذا العبث محاولة بعض الكتاب الجادين تنقص " المرأة " وثلبها ، وإلصاق كل شائنة بها . . سواء كان ذلك باسم الإسلام أو باسم البحث والتحليل . . فالمسألة ليست معركة على الإطلاق ! إنما هي تنويع وتوزيع . وتكامل . وعدل بعد ذلك كامل في منهج الله .

يجوز أن تكون هناك معركة في المجتمعات الجاهلية ؛ التي تنشى ء أنظمتها من تلقاء نفسها ؛ وفق هواها ومصالحها الظاهرة القريبة . أو مصالح طبقات غالبة فيها ، أوبيوت ، أو أفراد . . ومن ثم تنتقص من حقوق المرأة لأسباب من الجهالة بالإنسان كله ، وبوظيفة الجنسين في الحياة ، أو لأسباب من المصالح الاقتصادية في حرمان المرأة العاملة من مثل أجر الرجل العامل في نفس مهنتها . أو في توزيع الميراث ، أو حقوق التصرف في المال - كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية الحديثة !

فأما في المنهج الإسلامي فلا . . لا ظل للمعركة . ولا معنى للتنافس على أعراض الدنيا . ولا طعم للحملة على المرأة أو الحملة على الرجل ؛ ومحاولة النيل من أحدهما ، وثلبه ، وتتبع نقائصه ! . . ولا مكان كذلك للظن بأن هذا التنوع في التكوين والخصائص ، لا مقابل له من التنوع في التكليف والوظائف ، ولا آثار له في التنوع في الاختصاصات والمراكز . . فكل ذلك عبث من ناحية وسوء قهم للمنهج الإسلامي ولحقيقة وظيفة الجنسين من ناحية !

وننظر في أمر الجهاد والاستشهاد ونصيب المرأة منه ومن ثوابه . . وهو ما كان يشغل بال الصالحات من النساء في الجيل الصالح ، الذي يتجه بكليته إلى الآخرة ؛ وهو يقوم بشئون هذه الدنيا . . وفي أمر الإرث ونصيب الذكر والأنثى منه . وقد كان يشغل بعض الرجال والنساء قديمًا . . وما يزال هو وأمثاله يشغل رجالا ونساء في هذه الأيام . .

إن الله لم يكتب على المرأة الجهاد ولم يحرمه عليها ؛ ولم يمنعها منه - حين تكون هناك حاجة إليها ، لا يسدها الرجال - وقد شهدت المغازي الإسلامية آحادًا من النساء - مقاتلات لا مواسيات ولا حاملات أزواد - وكان ذلك على قلة وندرة بحسب الحاجة والضرورة ؛ ولم يكن هو القاعدة . . وعلى أية حال ، فإن الله لم يكتب على المرأة الجهاد كما كتبه على الرجال .

إن الجهاد لم يكتب على المرأة ، لأنها تلد الرجال الذين يجاهدون . وهي مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها ، العضوي والنفسي ؛ ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة سواء . وهي - في هذا الحقل - أقدر وأنفع . . هي أقدر لأن كل خلية في تكوينها معدة من الناحية العضوية والناحية النفسية لهذا العمل ؛ وليست المسألة في هذا مسألة التكوين العضوي الظاهر ؛ بل هي - وعلى وجه التحديد - كل خلية منذ تلقيح البويضة ، وتقرير أن تكون أنثى أو ذكرًا من لدن الخالق - سبحانة - ثم يلي ذلك تلك الظواهر العضوية ، والظواهر النفسية الكبرى . . وهي أنفع - بالنظر الواسع إلى مصلحة الأمة على المدى الطويل - فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث ؛ تدع للأمة مراكز إنتاج للذرية تعوض الفراغ . والأمر ليس كذلك حين تحصد النساء والرجال - أو حتى حين تحصد النساء وتستبقي الرجال ! فرجل واحد - في النظام الإسلامي - وعند الحاجة إلى استخدام كل رخصه وإمكانياته - يمكن أن يجعل نساء أربعًا ينتجن ، ويملأن الفراغ الذي تتركه المقتلة بعد فترة من الزمان . ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد ، لتعويض ما وقع في المجتمع من اختلال . وليس ذلك إلا بابًا واحدًا من أبواب الحكمة الإلهية في إعفاء المرأة من فريضة الجهاد . . . ووراءه أبواب شتى في أخلاق المجتمع وطبيعة تكوينه ، واستبقاء الخصائص الأساسية لكلا الجنسين ، لا يتسع لها المجال هنا ، لأنها تحتاج إلى بحث خاص . . وأما الأجر والثواب ، فقد طمأن الله الرجال والنساءعليه ، فحسب كل إنسان أن يحسن فيما وكل إليه ليبلغ مرتبة الإحسان عند الله على الإطلاق . .

والأمر في الميراث كذالك . . ففي الوهلة الأولى يبدو أن هناك إيثارًا للرجل في قاعدة : ( فللذكر مثل حظ الأثنين ) . . ولكن هذه النظرة السطحية لا تفتأ أن تتكشف عن وحدة متكاملة في اوضاع الرجل والمرأة وتكاليفهما . . فالغنم بالغرم ، قاعدة ثابتة متكاملة في المنهج الإسلامي . . فالرجل يؤدي للمرأة صداقها ابتداء ولا تؤدي هي له صداقًا . والرجل ينفق عليها وعلى أولادها منه ، وهي معفاة من هذا التكليف ، ولو كان لها مال خاص - وأقل ما يصيب الرجل من هذا التكليف أن يحبس فيه إذا ماطل ! ! - والرجل عليه في الديات والأرش [ التعويض عن الجراحات ] متكافلا مع الأسرة ، والمرأة منها معفاة . والرجل عليه في النفقة على المعسرين والعاجزين والعواجز عن الكسب في الأسرة - الأقرب فالأقرب - والمرأة معفاة من فريضة التكافل العائلي العام . . حتى أجر رضاع طفلها من الرجل وحضانته عند افتراقهما في المعيشة ، أو عند الطلاق ، يتحملها الرجل ، ويؤديها لها كنفقتها هي سواء بسواء . . فهو نظام متكامل توزيع التبعات فيه هو الذي يحدد توزيع الميراث . ونصيب الرجل من التبعات أثقل من نصيبه في الميراث . ومنظور في هذا إلى طبيعته وقدرته على الكسب ؛ وإلى توفير الراحة والطمأنينة الكاملة للمرأة ، لتقوم على حراسة الرصيد البشري الثمين ؛ الذي لا يقوم بمال ، ولا يعد له إنتاج أية سلعة أو أية خدمة أخرى للصالح العام !

وهكذا نجد معالم التوازن الشامل ، والتقدير الدقيق في المنهج الإسلامي الحكيم ، الذي شرعه الحكيم العليم . .

ونسجل هنا ما منحه الإسلام للمرأة في هذا النص من حق الملكية الفردية :

( للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) . .

وهو الحق الذي كانت الجاهلية العربية - كغيرها من الجاهليات القديمة - تحيف عليه ؛ ولا تعترف به للمرأة - إلا في حالات نادرة - ولا تفتأ تحتال للاعتداء عليه . إذ كانت المرأة ذاتها مما يستولى عليه بالوراثة ، كالمتاع !

وهو الحق الذي ظلت الجاهليات الحديثة - التي تزعم أنها منحت المرأة من الحقوق والاحترام ما لم يمنحه لها منهج آخر - تتحيفه ، فبعضها يجعل الميراث لأكبر وارث من الذكور . وبعضها يجعل إذن الولي ضروريًا لتوقيع أي تعاقد للمرأة بشأن المال ؛ ويجعل إذن الزواج ضروريًا لكل تصرف مالي من الزوجة في مالها الخاص ! وذلك بعد ثوارت المرأة وحركاتها الكثيرة ؛ وما نشأ عنها من فساد في نظام المرأة كله ، وفي نظام الأسرة ، وفي الجو الأخلاقي العام .

فأما الإسلام فقد منحها هذا الحق ابتداء ؛ وبدون طلب منها ، وبدون ثورة ، وبدون جمعيات نسوية ، وبدون عضوية برلمان ! ! منحها هذا الحق تمشيًا مع نظرته العامة إلى تكريم الإنسان جملة ؛ وإلى تكريم شقي النفس الواحدة ؛ وإلى إقامة نظامه الاجتماعي كله على أساس الأسرة ؛ وإلى حياطة جو الأسرة بالود والمحبة والضمانات لكل فرد فيها على السواء .

ومن هنا كانت المساواة في حق التملك وحق الكسب بين الرجال والنساء من ناحية المبدأ العام .

وقد أورد الدكتور عبد الواحد وافي في كتاب " حقوق الإنسان " لفتة دقيقة إلى وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الدول الغربية جاء فيه :

" وقد سوى الإسلام كذلك بين الرجل والمرأة أمام القانون ، وفي جميع الحقوق المدنية سواء في ذلكالمرأة المتزوجة وغير المتزوجة . فالزواج في الإسلام يختلف عن الزواج في معظم أمم الغرب المسيحي ، في أنه لا يفقد المرأة اسمها ولا شخصيتها المدنية ، ولا أهليتها في التعاقد ولا حقها في التملك . بل تظل المرأة المسلمة بعد زواجها محتفظة باسمها واسم أسرتها ، وبكامل حقوقها المدينة ؛ وبأهليتها في تحميل الالتزامات ، وإجراء مختلف العقود ، من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية ؛ وما إلى ذلك ؛ ومحتفظة بحقها في التملك تملكًا مستقلا عن غيرها . فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة ، وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثروته . ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا من مالها - قل ذلك أو كثر - قال تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا ؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا ؟ . . وقال : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا ) . . وإذا كان لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا مما سبق أن آتاه لزوجته فلا يجوز له من باب أولى أن يأخذ شيئًا من ملكها الأصيل إلا أن يكون هذا أو ذاك برضاها ، وعن طيب نفس منها . وفي هذا يقول الله تعالى : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا ، فكلوه هنيئًا مريئًا ) ولا يحل للزوج كذلك أن يتصرف في شيء من أموالها ، إلا إذا أذنت له بذلك ، أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها ، وفي هذه الحالة يجوز أن تلغي وكالته ، وتوكل غيره إذا شاءت .

" وهذه المنزلة من المساواة لم يصل إلى مثلها - بعد - أحدث القوانين في أرقى الأمم الديمقراطية الحديثة . فحالة المرأة في فرنسا كانت إلى عهد قريب - بل لا تزال إلى الوقت الحاضر - أشبه شيء بحالة الرق المدني . فقد نزع منها القانون صفة الأهلية في كثير من الشئون المدنية ، كما تنص على ذلك المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون المدني الفرنسي . إذ تقرر أن : " المرأة المتزوجة - حتى ولو كان زواجها قائمًا على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها - لا يجوز لها أن تهب ، ولا أن تنقل ملكيتها ، ولا أن ترهن ، ولا أن تمتلك بعوض أو بغير عوض ، بدون اشتراك زوجها في العقد ، أو موافقته عليه موافقة كتابية ! " . . وأورد نصها الفرنسي . .

" ومع ما أدخل على هذه المادة من قيود وتعديلات ، فيما بعد ، فإن كثيرًا من آثارها لا يزال ملازمًا لوضع المرأة الفرنسية من الناحية القانونية إلى الوقت الحاضر . . وتوكيدًا لهذا الرق المفروض على المرأة الغربية تقرر قوانين الأمم الغربية ، ويقضي عرفها ، أن المرأة بمجرد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها ، فلا تعود تسمى فلانة بنت فلان ؛ بل تحمل اسم زوجها وأسرته ؛ فتدعى " مدام فلان " أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته ، بدلًا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها . . وفقدان اسم المرأة ، وحملها لاسم زوجها ، كل ذلك يرمز إلى فقدان الشخصية المدنية للزوجة ، واندماجها في شخصية الزوج .

" ومن الغريب أن الكثير من سيداتنا يحاولن أن يتشبهن بالغريبات - حتى في هذا النظام الجائر - ويرتضين لأنفسهن هذه المنزلة الوضيعة ؛ فتسمي الواحدة منهن نفسها باسم زوجها ؛ أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته ، بدلا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها ، كما هو النظام الإسلامي ، وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحاكاة العمياء ! وأغرب من هذا كله أن اللاتي يحاكين هذه المحاكاة ، هن المطالبات بحقوق النساء ، ومساواتهن بالرجال ؛ ولا يدرين أنهن بتصرفهن هذا يفرطن في أهم حق منحه الإسلام لهن ؛ ورفع به شأنهن ، وسواهن فيه بالرجال " [ ص 651 ، 652 ] من هذا الجزء

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

سبب الآية أن النساء قلن : ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو ، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أونحوه{[3988]} ، وقال الرجال : ليت لنا في الآخرة حظاً زائداً على النساء ، كما لنا عليهن في الدنيا ، فنزلت الآية .

قال القاضي أبو محمد : لأن في تمنيهم هذا تحكماً على الشريعة ، و تطرقاً إلى الدفع في صدر حكم الله ، فهذا نهي عن كل تمنٍّ لخلاف حكم شرعي ، ويدخل في النهي أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا ، على أن يذهب ما عند الآخر ، إذ هذا هو الحسد بعينه ، وقد كره بعض العلماء أن يتمنى أحد حال رجل ينصبه في فكره وإن لم يتمنَّ زوال حاله ، وهذا في نعم الدنيا ، وأما في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن ، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمناه فذلك جائز ، وذلك موجود في حديث النبي عليه السلام في قوله «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل »{[3989]} وفي غير موضع ، ولقوله تعالى : { واسألوا الله من فضله } .

وقوله تعالى : { للرجال نصيب } الآية قال قتادة : معناه من الميراث ، لأن العرب كانت لا تورث النساء .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف ولفظة الاكتساب ترد عليه رداً بيناً ، ولكنه يتركب على قول النساء : ليتنا ساوينا الرجال في الميراث ، فكأنه قيل بسببهن : لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه ، وقالت فرقة : معناه من الأجر والحسنات ، فكأنه قيل للناس : لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به ، لاختيار ترونه أنتم ، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيباً من الأجر والفضل ، بحسب اكتسابه فيما شرع له .

قال القاضي أبو محمد : وهذا القول الواضح البيِّن الأعم ، وقالت فرقة : معناه : لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله ، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به ، فهي نصيبه ، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال ، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت اللنساء .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كقول الذي قبله ، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال ، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل ، وتنبيه على كسب الخير ، وقرأ جمهور السبعة «واسألوا » بالهمز وسكون السين ، وقرأ الكسائي وابن كثير «وسلوا » ألقيا حركة الهمزة على السين ، وهذا حيث وقعت اللفظة إلا في قوله { واسألوا ما أنفقتم }{[3990]} فإنهم أجمعوا على الهمز فيه ، قال سعيد بن جبير ، وليث بن أبي سليم : هذا في العبارات والدين وأعمال البر ليس في فضل الدنيا ، وقال الجمهور : ذلك على العموم ، وهو الذي يقتضيه اللفظ{[3991]} ، وقوله : { واسألوا } يقتضي مفعولاً ثانياً ، فهو عند بعض النحويين في قوله : { من فضله } التقدير واسألوا الله فضله ، وسيبويه لا يجيز هذا لأن فيه حذف «من » في الواجب ، والمفعول عنده مضمر ، تقديره واسألوا الله الجنة أو كثيراً أو حظاً من فضله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الأصح ، ويحسن عندي أن يقدر المفعول - أمانيكم ، إذ ما تقدم يحسن هذا التقدير ، وقوله : { بكل شيء عليماً } معناه : أن علم الله قد أوجب الإصابة والإتقان والإحكام ، فلا تعارضوا بتمن ولا غيره ، وهذه الآية تقتضي أن الله يعلم الأشياء ، والعقائد توجب أنه يعلم المعدومات الجائز وقوعها وإن لم تكن أشياء ، والآية لا تناقض ذلك ، بل وقفت على بعض معلوماته وأمسكت عن بعض .


[3988]:- أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والترمذي، والحاكم، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزوا، ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله: {ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض}. وأنزل فيها: {إن المسلمين والمسلمات}. الدر المنثور.
[3989]:- هذا الحديث هو الذي صدر به البخاري كتاب التمني في صحيحه، وهو يدل على جواز تمني أفعال الخير، والرغبة فيها، وفي الصحيح: (إن الشهيد يقال له: تمنّ، فيقول: أتمنى أن أرجع إلى الدنيا حتى أقتل في سبيلك مرة أخرى). قال (ق): "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى إيمان أبي طالب وأبي لهب وصناديد قريش، مع علمه بأنه لا يكون". والتمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي، فنهى الله سبحانه عن التمني، لأن فيه تعلق البال، ونسيان الأجل- ذكر هذا التعليل القرطبي في تفسيره.
[3990]:- من الآية (10) من سورة (الممتحنة)- وقد علق أبو حيان في البحر المحيط على كلام ابن عطية هذا بقوله: "وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم، بل نصوص =المقرئين في كتبهم على أن {واسألوا ما أنفقتم} من جملة المختلف فيه بين ابن كثير والكسائي، وبين الجماعة. ونص على ذلك بلفظ ابن شيطا في كتاب "التذكار"، ولعل الوهم وقع له في ذلك من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة: "ولم يختلفوا في قوله: {وليسألوا ما أنفقوا} أنه مهموز لأنه لغائب" راجع "البحر المحيط" 3/236.
[3991]:- يؤيد هذا الذي ذهب إليه الجمهور أحاديث كثيرة، فقد روى الترمذي عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج).