نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

ولما نهى عن القتل{[21259]} وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح ، ليصير الظاهر طاهراً{[21260]} عن المعاصي الوخيمة ؛ نهى عن التمني {[21261]}الذي هو{[21262]} مقدمة الأكل ، ليكون نهياً عن الأكل بطريق الأولى ، فإن التمني قد يكون حسداً ، وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية : وهو{[21263]} حرام والرضى بالحرام ، والتمني{[21264]} على{[21265]} هذا الوجه يجر إلى الأكل والأكل يعود إلى القتل ، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ، والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال : { ولا تتمنوا } أي تتابعوا أنفسكم في ذلك { ما فضل الله } أي الذي له العظمة كلها ، فلا ينقصه شيء { به } اي {[21266]}من المال{[21267]} وغيره { بعضكم عن بعض } أي في الإرث{[21268]} وغيره من جميع الفضائل النفسانية المتعلقة{[21269]} بالقوة النظرية كالذكاء التام والحدس الكامل وزيادة المعارف بالكمية والكيفية ، أو بالقوة العملية كالعفة التي هي وسط بين الجمود والفجور ، والشجاعة التي هي{[21270]} وسط بين التهور والجبن ، والسخاء الذي هو{[21271]} وسط بين الإسراف والبخل ، وكاستعمال هذه{[21272]} القوى على الوجه الذي ينبغي وهو العدالة ، أو{[21273]} الفضائل البدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل مع اللذة والبهجة ، أو{[21274]} الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء ، وكثرة العشائر والأصدقاء والأعوان ، والرئاسة التامة ونفاذ القول ، وكونه محبوباً للناس حسن الذكر فيهم ؛ فهذه مجامع السعادات ، وبعضها نظرية لا مدخل للكسب فيها ، وبعضها كسبية ، ومتى{[21275]} تأمل العاقل في ذلك وجده{[21276]} محض عطاء من الله ، فمن شاهد غيره أرفع منه في{[21277]} شيء من هذه الأحوال تألم قلبه وكانت له{[21278]} حالتان : إحداهما أن يتمنى حصول مثل تلك السعادة له{[21279]} ، والأخرى أن يتمنى زوالها عن صاحبها ، وهذا هو الحسد المذموم ، لأنه كالاعتراض على الله الذي قسم هذه القسمة ، فإن اعتقد أنه أحق منه فقد فتح على نفسه باب الكفر ، واستجلب ظلمات البدعة ، ومحا نور الإيمان ، فإن الله فعال لما يريد ، لا يسأل عما يفعل فلا اعتراض عليه ، و{[21280]}كما أن الحسد سبب الفساد في الدين فهو سبب الفساد في الدنيا ؛ فعلى{[21281]} كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ذلك{[21282]} مصلحة ، ولو كان غير ذلك فسد ، فإن ذلك كله قسمة من الله صادرة عن حكمه{[21283]} وتدبيره وعلمه بأحوال العباد فيما يصلحهم ويفسدهم .

وأما تمني المثل فإن كان دينياً{[21284]} كان حسناً{[21285]} ، كما قال صلى الله عليه وسلم " لا حسد إلا في اثنتين{[21286]} " وإن كان دنيوياً فمن الناس من جوز ذلك ، ومنهم من قال - وهم المحققون : لا يجوز ذلك ، لأن تلك{[21287]} النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة في الدنيا كقصة{[21288]} قارون - قال معنى ذلك الإمام الرازي .

ولما نهى سبحانه عن ذلك علله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب ، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من{[21289]} أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " وكما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم{[21290]} والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك{[21291]} ، واستعن بالله ولا تعجز{[21292]} ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان{[21293]} كذا وكذا . ولكن قل{[21294]} : قدر الله ، وما شاء فعل ، فإن{[21295]} لو تفتح عمل الشيطان " فقال مشيراً إلى أنه لا ينال أحد جميع ما يؤمل{[21296]} : { للرجال نصيب } أي قد فرغ من تقديره فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص ، وبين سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل ، كما أشار إليه الحديث فقال{[21297]} : { مما اكتسبوا } أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها{[21298]} في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث و{[21299]}السعي في المكاسب والأرباح " جعل رزقي تحت ظل رمحي{[21300]} " " لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصاً وتروح بطاناً " { وللنساء نصيب مما اكتسبن } {[21301]}أي وكذلك{[21302]} فالتمني حينئذ غير نافع{[21303]} ، فالاشتغال{[21304]} به مجرد عناء .

ولما أشار بالتبعيض إلى أن الحصول بتقديره ، لا بالكسب الذي جعله سبباً ، فإنه تارة ينجحه وتارة يخيبه{[21305]} ، فكان التقدير : فاكتسبوا ولا تعجزوا فتطلبوا{[21306]} بالتمني ؛ أمر بالإقبال - في الغنى وكل{[21307]} شيء - عليه إشارة إلى تحريك السبب مع الإجمال في الطلب فقال : { وسئلوا الله } أي {[21308]}الذي له جميع صفات الكمال .

ولما كان سبحانه تعالى عظمته لا ينقصه شيء وإن جل قال : { من فضله } أي من خزائنه التي{[21309]} لا تنفد ولا يقضيها{[21310]} شيء ، وفي ذلك تنبيه على عدم التعيين{[21311]} ، لأنه ربما كان سبب الفساد ، بل يكون الطلب لما هو له{[21312]} صلاح ، وأحسن الدعاء المأثور ، وأحسنه

{ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار{[21313]} }[ البقرة : 201 ] ثم علل ذلك بقوله : { إن الله } أي الملك الأعظم الذي بيده مقاليد كل شيء { كان بكل شيء عليماً * } أي فكان على كل شيء قديراً ، فإن كمال العلم يستلزم شمول القدرة - كما سيبين إن شاء الله تعالى في سورة طه ، والمعنى أنه قد فعل بعلمه ما يصلحكم فاسألوه{[21314]} بعلمه وقدرته ما ينفعكم ، فإنه يعلم ما يصلح كل عبد وما يفسده .


[21259]:زيدت الواو من ظ ومد.
[21260]:من مدن وفي الأصل وظ: ظاهرا ـ كذا بالظاء المعجمة.
[21261]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[21262]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[21263]:زيد من ظ ومد.
[21264]:من مد، وفي الأصل وظ: النهي ـ كذا.
[21265]:في ظ: عن.
[21266]:من مد، وفي الأصل وظ: بالمال.
[21267]:من مد، وفي الأصل وظ: بالمال.
[21268]:من ظ ومد، وفي الأصل: الأدب.
[21269]:زيد بعده في الأصل: به، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[21270]:من ظ ومد، وفي الأصل: هو.
[21271]:في ظ: هي.
[21272]:في ظ: هذا.
[21273]:في ظ ومد "و".
[21274]:في ظ "و".
[21275]:في ظ: من.
[21276]:من ظ ومد، وفي الأصل: وحده.
[21277]:زيد من ظ ومد.
[21278]:زيد من مد.
[21279]:زيدت الواو من ظ ومد.
[21280]:زيدت الواو من ظ ومد.
[21281]:في الأصول: فعل.
[21282]:في ظ: صالحه ـ كذا.
[21283]:في مد: حكمة.
[21284]:من ظ ومد، وفي الأصل: مبينا ـ كذا.
[21285]:من مد، وفي الأصل وظ: حسدا.
[21286]:من مسند الإمام أحمد 2/9، وفي الأصول: اثنين.
[21287]:سقط من ظ.
[21288]:من مد، وفي الأصل وظ: لقصة ـ كذا.
[21289]:من ظ ومد ومسند الإمام أحمد 4/124، وفي الأصل: وإن.
[21290]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد.
[21291]:من ظ ومد والصحيح لمسلم ـ كتاب القدر، وفي الأصل: يتعدى ـ كذا.
[21292]:زيد من ظ ومد والصحيح لمسلم.
[21293]:زيد من الصحيح لمسلم.
[21294]:سقط من ظ.
[21295]:في ظ: إن.
[21296]:من ظ ومد، وفي الأصل: يرسل.
[21297]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد.
[21298]:من ظ، وفي الأصل ومد: اتبعوها.
[21299]:سقطت الواو من ظ.
[21300]:في ظ: رمى.
[21301]:في ظ ومد: لذلك.
[21302]:في ظ ومد: لذلك.
[21303]:في مد: منافع.
[21304]:من ظ مد، وفي الأصل: فالانتقال ـ كذا.
[21305]:من ظ ومد، وفي الأصل: ينجيه ـ كذا.
[21306]:في ظ: واطلبوا.
[21307]:من ظ ومد، وفي الأصل: في.
[21308]:سقط من مد.
[21309]:من مد، وفي الأصل وظ: الذي ـ كذا.
[21310]:في الأصل: لا يفيضها، وفي ظ: لا يقتضيها، وفي مد: لا يقيضيها ـ كذا.
[21311]:من مد، وفي الأصل: التعبير، وفي ظ: اليقين ـ كذا.
[21312]:سقط من مد.
[21313]:سورة 2 آية 201.
[21314]:في الأصول: فسألوه.