مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسۡـَٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (32)

قوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسألوا الله من فضله أن الله كان بكل شيء عليما }

اعلم أن في النظم وجهين : الأول : قال القفال رحمه الله : إنه تعالى لما نهاهم في الآية المتقدمة عن أكل الأموال بالباطل ، وعن قتل النفس ، أمرهم في هذه الآية بما سهل عليهم ترك هذه المنهيات ، وهو أن يرضى كل أحد بما قسم الله له ، فإنه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد ، وإذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس ، فإما إذا رضي بما قدره الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال .

الوجه الثاني : في كيفية النظم : هو أن أخذ المال بالباطل وقتل النفس ، من أعمال الجوارح فأمر أولا بتركهما ليصير الظاهر طاهرا عن الأفعال القبيحة ، وهو الشريعة . ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد ، ليصير الباطن طاهرا عن الأخلاق الذميمة ، وذلك هو الطريقة . ثم في الآية مسائل :

المسألة الأولى : التمني عندنا عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ، ولهذا قلنا : إنه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن لكان متمنيا . وقالت المعتزلة : النهي عن قول القائل : ليته وجد كذا ، أو ليته لم يوجد كذا ، وهذا بعيد لأن مجرد اللفظ إذا لم يكن له معنى لا يكون تمنيا ، بل لا بد وأن يبحث عن معنى هذا اللفظ ، ولا معنى له إلا ما ذكرناه من إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون .

المسألة الثانية : اعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية ، أو بدنية ، أو خارجية .

أما السعادات النفسانية فنوعان : أحدهما : ما يتعلق بالقوة النظرية ، وهو : الذكاء التام والحدس الكامل ، والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية . وثانيهما : ما يتعلق بالقوة العملية ، وهي : العفة التي هي وسط بين الخمود والفجور ، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن ، واستعمال الحكمة العملية الذي هو توسط بين البله والجربزة ، ومجموع هذه الأحوال هو العدالة .

وأما السعادات البدنية : فالصحة والجمال ، والعمر الطويل في ذلك مع اللذة والبهجة .

وأما السعادات الخارجية : فهي كثرة الأولاد الصلحاء ، وكثرة العشائر ، وكثرة الأصدقاء والأعوان ، والرياسة التامة ، ونفاذ القول ، وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر فيهم ، مطاع الأمر فيهم ، فهذا هو الإشارة إلى مجامع السعادات ، وبعضها فطرية لا سبيل للكسب فيه ، وبعضها كسبية ، وهذا الذي يكون كسبيا متى تأمل العاقل فيه يجده أيضا محض عطاء الله ، فإنه لا ترجيح للدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات ، وإلا فيكون سبب السعي والجد مشتركا فيه ، ويكون الفوز بالسعادة والوصول إلى المطلوب غير مشترك فيه ، فهذا هو أقسام السعادات التي يفضل الله بعضهم على بعض فيها .

المسألة الثانية : أن الإنسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لإنسان ، ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها ، فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ، ثم يعرض ههنا حالتان : إحداهما : أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان ، والأخرى : أن لا يتمنى ذلك ، بل يتمنى حصول مثلها له . أما الأول فهو الحسد المذموم ، لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه : الإحسان إلى عبيده والجود إليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم ، فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله تعالى فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين ، وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الإنسان فيكون هذا اعتراضا على الله وقدحا في حكمته ، وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ، ويزيل عن قلبه نور الإيمان ، وكما أن الحسد سبب للفساد في الدين ، فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا ، فإنه يقطع المودة والمحبة والموالاة ، ويقلب كل ذلك إلى أضدادها ، فلهذا السبب نهى الله عباده عنه فقال : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } .

واعلم أن سبب المنع من هذا الحسد يختلف باختلاف أصول الأديان ، أما على مذهب أهل السنة والجماعة ، فهو أنه تعالى فعال لما يريد : { لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون } فلا اعتراض عليه في فعله . ولا مجال لأحد في منازعته ، وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وإذا كان كذلك فقد صارت أبواب القيل والقال مسدودة ، وطرق الاعتراضات مردودة . وأما على مذهب المعتزلة فهذا الطريق أيضا مسدود ، لأنه سبحانه علام الغيوب فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ودقائق الحكم ، ولهذا المعنى قال : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } وعلى التقديرين فلا بد لكل عاقل من الرضا بقضاء الله سبحانه ، ولهذا المعنى حكى الرسول صلى الله عليه وسلم عن رب العزة أنه قال : «من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب ربا سواي » فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الإنسان ، ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها فإن الله هو رازقها » والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد . أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك إلا أن المحققين قالوا : هذا أيضا لا يجوز ، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة عليه في الدنيا ، فلهذا السبب قال المحققون : إنه لا يجوز للإنسان أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ، وزوجة مثل زوجة فلان ، بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي .

وإذا تأمل الإنسان كثيرا لم يجد دعاء أحسن مما ذكره الله في القرآن تعليما لعباده وهو قوله : { آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } وروى قتادة عن الحسن أنه قال : لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال ، كما في حق ثعلبة وهذا هو المراد بقوله في هذه الآية : { واسألوا الله من فضله } .

المسألة الرابعة : ذكروا في سبب النزول وجوها : الأول : قال مجاهد قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ، ولهم من الميراث ضعف ما لنا ، فليتنا كنا رجالا فنزلت الآية ، الثاني : قال السدي : لما نزلت آية المواريث قال الرجال : نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث وقال النساء : نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما في الميراث فنزلت الآية : الثالث : لما جعل الله الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء : نحن أحوج لأنا ضعفاء ، وهم أقدر على طلب المعاش فنزلت الآية . الرابع : أتت واحدة من النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : رب الرجال والنساء واحد ، وأنت الرسول إلينا وإليهم ، وأبونا آدم وأمنا حواء . فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا ، فنزلت الآية . فقالت : وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «إن للحامل منكن أجر الصائم القائم فإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر ، فإذا أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس » .

ثم قال تعالى : { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } .

واعلم أنه يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما يتعلق بأحوال الدنيا ، وأن يكون ما يتعلق بأحوال الآخرة ، وأن يكون ما يتعلق بهما .

أما الاحتمال الأول : ففيه وجوه : الأول : أن يكون المراد لكل فريق نصيب مما اكتسب من نعيم الدنيا ، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له . الثاني : كل نصيب مقدر من الميراث على ما حكم الله به فوجب أن يرضى به ، وأن يترك الاعتراض ، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والإحراز . الثالث : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ، فأبطل الله ذلك بهذه الآية ، وبين أن لكل واحد منهم نصيبا ، ذكرا كان أو أنثى ، صغيرا كان أو كبيرا .

وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد بهذه الآية : ما يتعلق بأحوال الآخرة ففيه وجوه : الأول : المراد لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه ، فلا تتمنوا خلاف ذلك . الثاني : لكل أحد جزاء مما اكتسب من الطاعات ، فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم وتقديره : لا تضيع مالك وتتمن ما لغيرك . الثالث : للرجال نصيب مما اكتسبوا سبب قيامهم بالنفقة على النساء ، وللنساء نصيب مما اكتسبن ، يريد حفظ فروجهن وطاعة أزواجهن ، وقيامها بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش ، فالنصيب على هذا التقدير هو الثواب .

وأما الاحتمال الثالث : فهو أن يكون المراد من الآية : كل هذه الوجوه : لأن هذا اللفظ محتمل ، ولا منافاة .

ثم قال تعالى : { واسألوا الله من فضله } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير والكسائي : { واسألوا الله من فضله } بغير همز ، بشرط أن يكون أمرا من السؤال ، وبشرط أن يكون قبله واو أو فاء ، والباقون بالهمز في كل القرآن .

أما الأول : فنقل حركة الهمزة إلى السين ، واستغنى عن ألف الوصل فحذفها .

وأما الثاني : فعلى الأصل . واتفقوا في قوله : { وليسألوا } أنه بالهمزة ، لأنه أمر لغائب .

المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : قوله : { من فضله } في موضع المفعول الثاني في قول أبي الحسن ويكون المفعول الثاني محذوفا في قياس قول سيبويه ، والصفة قائمة مقامه ، كأنه قيل : واسألوا الله نعمته من فضله .

المسألة الثالثة : قوله : { واسألوا الله من فضله } تنبيه على أن الإنسان لا يجوز له أن يعين شيئا في الطلب والدعاء ، ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الإطلاق .

ثم قال : { إن الله كان بكل شىء عليما } والمعنى أنه تعالى هو العالم بما يكون صالحا للسائلين ، فليقتصر السائل على المجمل ، وليحترز في دعائه عن التعيين ، فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر ، والله أعلم .