أحدهما : قال القفَّالُ : " لما نَهاهُم في الآية المُتقدِّمَةَ عن أكل الأمْوَالِ بالباطل ، وعن قتْلِ النُّفُوسِ ، أمرهم في هذه الآيةِ بما سهَّلَ عليهم تَرْكَ هذه المنهيَّاتِ ، وهو أن يَرْضَى كُلُّ واحد بِمَا قسَمَ اللَّهُ ، فإنَّهُ إذا لم يَرْض ، وَقَعَ في الحَسَدِ ، وإذا وقع في الحَسَدِ وَقعَ لا مَحَالَة في أخْذِ الأمْوَالِ بالبَاطلِ ، وفي قتل النُّفُوسِ " .
الثَّانِي : أنَّ أخْذ الأمْوَالِ بالبَاطلِ ، وقتلَ النُّفُوسِ من أعمال الجَوَارِحِ ، فأمر أوَّلاً بتركها ليصيرَ الظَّاهِرُ طاهراً عن الأفعال القبيحة ، ثُمَّ أمَرَهُ بعْدَهَا بترك التَّعَرُّضِ لِنُفُوسِ النَّاسِ ، وأموالهم بالقَلْب على سَبيلِ الحَسَدِ ، ليصيرَ البَاطِنُ أيضاً طاهراً عن الأخلاق الذَّمِيمَةِ .
قال مُجاهِدٌ : " قالت أمُّ سلمةَ : يا رسُولَ اللَّهِ ، إنَّ الرِّجَالَ يَغْزُونَ ولا نَغْزُو ، ولهم ضِعْفُ مَا لَنَا مِنَ المِيراثِ ، فلو كُنَّا رجالاً غَزَوْنَا كما غَزَوا ، وأخذْنَا مِنَ المِيراثِ مثلما أخذُوا ؟ فنزلت هذه الآية " {[7656]} .
وقيل : لمّا جَعَلَ اللَّهُ للذَّكر مِثْلُ حَظِّ الأنثيين في الميراثِ ، قالتِ النِّسَاءُ : نَحْنُ أحْوجُ إلى الزِّيَادةِ مِنَ الرِّجَالِ ؛ لأنا ضعفاء ، وهم أقْويَاء ، وأقدر منا على المَعَاشِ فنزلت الآية .
وقال قتَادَةُ والسُّدِّيُّ : لما نزل قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } [ النساء : 11 ] ؛ قال الرِّجالُ : إنَّ لنرجو أن نُفَضَّل على النِّسَاءِ بحسناتنا في الآخرة ، فيكون أجرنا على الضّعف من أجر النِّسَاءِ كما فُضِّلْنَا عليهنَّ{[7657]} في الميراثِ في الدُّنْيَا ، فقال اللَّهُ تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ }{[7658]} [ النساء : 32 ] .
وقيل : أتَتِ امْرَأةٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت : رَبُّ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ واحِدٌ ، وأنتَ الرَّسُول إليْنَا ، وإليهم ، وأبونا آدَمُ ، وأمُّنا حَوَّاءُ ، فما السَّبَبُ في أنَّ اللَّه يَذكُرُ الرِّجَالَ ، ولا يَذْكُرُنَا ؛ فنزلت الآية ، فقالَتْ : وقد سَبَقَنَا الرِّجَالُ بالجهادِ فمَا لَنَا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ لِلْحَامِلِ مِنْكُنَّ أجْرُ الصَّائِمِ القَائِم ، فإذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ لم يدْر أحدٌ مَا لَهَا مِنَ الأجْرِ ، فَإذَا أرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بِكُلِّ مَصَّة أَجر إحيَاء نَفْسٍ " {[7659]} .
قوله : { مَا فَضَّلَ اللَّهُ } " ما " موصولة ، أو نكرة موصوفة ، والعائدُ الهاء في " بِهِ " ، و " بعضكُم " مفعول ب " فَضَّلَ " ، و " عَلَى بَعْضٍ " متعلّق به .
قال القرطبِيُّ{[7660]} : التَّمني نوع من الإرادَةِ يَتَعلَّقُ بالمستقبلِ ، واعْلَم أنَّ الإنسان إذَا شَاهَدَ أنواع الفَضَائِلِ حاصلة لإنسان ، ووجد نَفْسَهُ خالياً عن جملتها ، أو عن أكثرها ، فحينئذٍ يتألَّمُ قلبه ، ثُمَّ يعرض هاهنا حالتان :
إحداهما : [ أن يتمنى ]{[7661]} زوال تِلْكَ السعادات{[7662]} عن ذلك الإنْسَانِ .
والأخرى : لا يَتمَنَّى ذلك ، بَلْ يَتَمنَّى حصول مثلها له .
فالأوَّلُ هو الحَسَدُ المذْمُومُ ، والثَّانِي هو الغِبْطَةُ ، فأمّا كون الحسد مذموماً ؛ فلأن اللَّه تعالى لمّا دَبَّر هذا العَالَم ، وأفاض أنواع الكَرَمِ عليهم ، فمن تمنى زوال ذلك ؛ فكأنه اعْتَرَضَ على اللَّه في فعله ، وفي حِكْمَتِهِ ، وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ في نفسه ، أنَّهُ أحَقُّ بتلك النِّعمِ من ذلِكَ الإنْسَانِ ، وهذا اعْتِرَاضٌ على اللَّهِ ، فيما يلقيه من الكُفْرِ ، وفساد الدِّين ، وقطعَ المَوَدَّةِ ، والمَحَبَّةِ ، وَيَنْقَلِبُ ذلك إلى أضداده .
وأما سبب المنع من الحَسَدِ ، فعلى مذهَبِ أهْلِ السُّنَّة ، فلأنه تعالى { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }
[ البروج : 16 ] ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، ولا اعْتراضَ علَيْه في فعله ، وعلى مذْهَبِ المُعتزِلَةِ ، فلأنه تعالى علاَّم الغيوب ، فهو أعرف من خَلْقِهِ بوجوهِ المَصَالِح ، ولهذا [ المعنى ]{[7663]} قال تعالى :
{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ }
[ الشورى : 27 ] ، فلا بد لِكُلِّ عاقل من الرِّضَا بقضاء اللَّهِ ، وممَّا يؤكِّدُ ذلك ، قوله عليه السلامُ : " لاَ يَخْطبُ الرَّجُلُ علَى خِطبَةِ أخيه ، ولا يَسُومُ عَلى سَوْمِ أخيهِ ، ولا تَسْألِ المرأةُ طلاقَ أخْتِهَا لتلقي{[7664]} مَا فِي إنَائِهَا ، فإنَّ الله - تعالى - هُو رَازِقُهَا " {[7665]} والمقصودُ من كُلِّ ذلِكَ المُبَالَغة في المَنْعِ مِنَ الحَسَدِ .
وَأمَّا الثَّاني ، وهو الغِبْطَةُ ، فَمِنَ النَّاسِ من جَوَّزَهُ ، ومنعه آخرون قالوا : لأنَّهُ رُبَّمَا كانت تلك النِّعْمَةُ مفسدة في دينِهِ ، ومضرّة عليه في الدُّنْيَا ، ولذلك لا يجُوزُ للإنْسَانِ أنْ يَقُولَ : " اللَّهُمَّ أعطني دَاراً مثلَ دَارِ فُلانٍ ، وزوجةً مِثْلَ زوْجَةِ فُلانٍ ، بل ينبغِي أنْ يقُولَ : اللَّهُمَّ أعْطِنِي ما يَكُون صَلاَحاً في دِيني ودنياي ، وَمَعادي ومَعَاشي " وإذا تأمَّلَ الإنْسَانُ لم يجد دُعَاءً أحْسَنَ مِمَّا ذكرهُ اللَّهُ في القُرآنِ تعْلِيماً لِعبَادِهِ ، وهو قوله تعالى :
{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ البقرة : 201 ] ، ولهذا{[7666]} قال : { وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] .
وأمّا من جوّزه فاسْتَدَلَّ بقوله عليه السلامُ : " لاَ حَسَد إلاَّ في اثْنَتَيْن ، رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرآنَ ، فَهُو يقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وأطرافَ النَّهَارِ ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً ، فهُوَ يَنُفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ ، وأطرافَ النَّهَارِ " {[7667]} فمعنى قوله : " لا حسد " ، أي : لا غبطة أعظم وأفضل مِنَ الغبْطَةِ في هذين الأمْرَين .
قال بعضُ العُلَمَاءِ : " النَّهي [ عن ]{[7668]} التَّمنِّي المذكورِ في هذهِ الآية ، هو ما لا يجوزُ تمنِّيه من عَرَضِ الدُّنْيَا ، وأشباهها ، وأما التَّمني في الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فحَسَنٌ قال عليه السَّلامُ : " اللَّهُمَّ وَددْتُ أنِّي أحْيَى ، ثُمَّ أقتَلُ [ ثم أحيي ثم أقتل " {[7669]} ]{[7670]} ، وذلك يَدُلُّ على فَضْلِ الشَّهَادةِ على سَائِر أعْمَالِ البِرّ ؛ لأنَّهُ - عليه السلامُ - تمنَّاهَا دون غيرها فرزقه اللَّهُ إيَّاهَا لقوله عليه السلامُ : " مَا زَالَتْ أكْلةَ خيبرٍ تعاودني [ كُل عامٍ ، حتى كان هذا ] أوان انقطاع أبْهري " {[7671]} .
وفي الصَّحِيح : " إنَّ الشَّهيد يُقالُ لَهُ : تَمَنَّ ، فَيقُولُ : أتَمَنَّى أنْ أرجعَ إلى الدُّنْيَا ، فأقتَل في سَبيلكَ مَرَّة أخْرَى " {[7672]} وكان عليه السَّلامُ يتمنى إيمانَ أبي طالب وأبي لهب ، وصَنَادِيد قُرَيْشٍ ، مع علمه بأنَّهُ لا يكونُ .
قوله : { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ } قيل : مِنَ الجِهَادِ .
{ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } ، أي : من طَاعَةِ أزواجهن [ وحفظ فُرُوجهِنَّ ]{[7673]} .
وقيل : ما قدر لهن من الميراث ، يجبُ أن يرضوا به ، ويتركوا الاعتراض{[7674]} نهى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عن التَّمنِّي على هذا الوجه لما فيه من دَوَاعِي الحَسَدِ ، ولأنَّ اللَّه - عزّ وجلّ - أعلم بمصالحهم منهم ؛ فوضَعَ القِسْمَةَ بينهم مُتَفَاوِتَةً على حَسْبِ ما علم مِنْ مصالِحِهمْ ويكونُ الاكتساب بمعنى : الإصَابَةِ .
وقيل : ما يَسْتَحِقُّوهُ من الثَّواب في الآخِرَةِ .
وقيل : [ المرادُ ]{[7675]} الكلُّ ؛ لأنَّ اللَّفْظَةَ محتملة ولا منافاة .
فصل : إثبات الهمزة في الأمر من السؤال
الجمهورُ على إثْباتِ الهمْزَةِ في الأمرِ من السُّؤالِ الموجه نحو المخاطب ، إذا تَقدَّمَهُ واو ، أو فاء نحو : { فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ } [ يونس : 94 ] ، { وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] ، وابن كثير ، والكسَائِي بنقل حركة الهمْزَة إلى السِّين تخفيفاً لكثرة استعماله . فإن{[7676]} لم تتقدَّمه واو ، ولا فاء ، فالكًُلُّ على النقل نحو : { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ }
[ البقرة : 211 ] ، وإن كان لغائب ، فالكُلُّ على الهمز نحو : { وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ }
وَوَهِمَ ابْنُ عَطيَّة{[7677]} ، فنقل اتِّفَاقَ القُرَّاءِ على الهَمْزِ في نحو :{ وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ }
[ الممتحنة : 10 ] ، وليس اتفاقهم في هذا ، بل في { وليسألوا ما أنفقوا } كما تقدَّم .
وتخفيف الهَمْزَةِ لغةُ الحِجَازِ ، ويحتملُ أن يكُون ذلك من لغة من يقُولُ " سَالَ يَسَالُ " بألف مَحْضَةٍ ، وقد تقدَّمَ تحقيق ذلك{[7678]} ، وهذا إنَّمَا يتأتى في " سَلْ " ، و " فَسَلْ " وأمّا " وسَألوا " ، فلا يَتَأتَّى فيه ذلك ؛ لأنَّهُ كان ينبغي أنْ يُقَالَ : سالوا كَخَافُوا ، وقد يُقَالُ : إنَّهُ التزم الحذف لكثرة الورود ، وقد تقدّم في البَقَرة عند { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] .
وهو يَتعَدَّى لاثْنَيْنِ ، والجلالة مفعول أوّل ، وفي الثَّاني قولان :
أحدهما : أنَّهُ محْذُوفٌ ، فقدَّره ابْنُ عطيَّة{[7679]} : " أمانيَّكم " وقدّره أبُو عليِّ الفارسِيُّ وغيره{[7680]} : شيئاً مِنْ فَضْلِه ، فحذفَ المَوْصُوف ، وأبْقَى صِفَتَهُ نحو : " أطعمته من اللحم " ، أي : شيئاً منه ، و " مِنْ " تبعيضيَّة .
والثَّاني : أن " مِنْ " زائدة ، والتَّقديرُ : " واسألوا الله فَضْلَهُ " ، وهذا إنَّما يَتَمَشَّى على رَأي الأخْفَشِ لفقدان الشَّرْطَيْنِ ، وهما تنكيرُ المجْرُورِ ، وكون{[7681]} الكلام [ غير موجب ]{[7682]} .
قال عليه السلامُ : " سَلوا اللَّه مِنْ فَضْلِه ، فإنَّهُ يحِبُ أنْ يُسْألَ ، وأفْضَلُ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَج " {[7683]} ، وقال - عليه السلامُ - : " مَنْ لَمْ يَسْألِ اللَّهَ يَغْضَبْ عليْهِ " {[7684]} .
وقال القُرْطُبِيُّ{[7685]} : " وهذا يَدُلُّ على أنَّ الأمْرَ بالسُّؤالِ للَّهِ تعالى واجبٌ ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الإنسَانَ لا يجوزُ له أنْ يعيِّن شيئاً في الدُّعَاءِ ، والطَّلب ، ولكن يَطْلُبُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ - تعالى - ما يكُونُ سبباً لصلاحِ دينهِ ودُنْيَاهُ " . ثُمَّ قَالَ { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } ومعناه : أنَّهُ العالم بما يكونُ صلاحاً للسَّائِلينَ .