ثم خاطب الجن والإنس فقال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أيها الثقلان ، يريد من هذه الأشياء المذكرة . وكرر هذه الآية في هذه السورة تقريراً للنعمة وتأكيداً في التذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع ، يعدد على الخلق آلاءه ، ويفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ، كقول الرجل لمن أحسن إليه : وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيراً فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك أفتنكر هذا ؟ ألم تك خاملاً ؟ فعززتك أفتنكر هذا ؟ ومثل هذا التكرير شائع في كلام العرب حسن تقريراً . وقد خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب تخاطب الواحد بلفظ التثنية كقوله تعالى : { ألقيا في جهنم }( ق-24 ) . وروي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : " قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : ما لي أراكم سكوتاً للجن كانوا أحسن منكم رداً ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إلا قالوا : ولا بشيء من نعمتك ربنا نكذب ، فلك الحمد " .
ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر ، وكان الخطاب للثقلين ، الإنس والجن ، قررهم تعالى بنعمه ، فقال : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان ؟
وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة ، فما مر بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا{[944]} ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد ، فهذا الذي ينبغي{[945]} للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه ، أن يقر بها ويشكر ، ويحمد الله عليها .
الفاء للتفريع على ما تقدم من المنن المدمجة مع دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقّية وَحي القرآن ، ودلائل عظمة الله تعالى وحكمته باستفهام عن تعيين نعمة من نعم الله يتأتى لهم إنكارها ، وهو تذييل لما قبله .
و ( أيِّ ) استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضِدّ ما يقربه مثل قوله : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] . وقد بينته عند قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } في سورة الأنعام ( 130 ) ، أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله .
والآلاء : النعم جمع : إلْي بكسر الهمزة وسكون اللام ، وأَلْي بفتح الهمزة وسكون اللام وياء في آخره ويقال أَلْوُ بواو عوض الياء وهو النعمة .
وضمير المثنى في { ربكما تكذبان } خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن . والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإِنسان المذكور في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 3 ] وهم المخاطبون بقوله : { ألا تطغوا في الميزان } [ الرحمن : 8 ] الآية والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره ، أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بَلْهَ المؤمن ، وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله .
والمقصود الأصلي : التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعِم غيرَ المنعِم ، والشهادةُ عليهم بتوحيد المؤمنين ، والتكذيب مستعمل في الجحود والإِنكار .
وقيل التثنية جرت على طريقة في الكلام العربي أن يخاطبوا الواحد بصيغة المثنى كقوله تعالى : { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد } [ ق : 24 ] ذكر ذلك الطبري والنسفي .
ويجوز أن تكون التثنية قائمة مقام تكرير اللفظ لتأكيد المعنى مثل : لَبيك وسعديك ، ومعنى هذا أن الخطاب لواحد وهو الإنسان .
وقال جمهور المفسرين : هو خطاب للإنس والجن ، وهذا بعيد لأن القرآن نزل لخطاب الناس ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن ، فلا يتعرض القرآن لخطابهم ، وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلّف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم ، وقد يُكلف الله أصنافاً بما هم أهل له دون غيرهم ، كما كلّف أهل العلم بالنظر في العقائد وكما كلّفهم بالاجتهاد في الفروع ولم يكلف العامة بذلك ، فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة .
وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله الأنصاري « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن وهم ساكتون فقال لهم " لقد قرأتُها على الجن ليلةَ الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : { فبأي ألاء ربكما تكذبان } قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " . قال الترمذي : هو حديث غريب وفي سنده زهير بن محمد وقد ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل .
وهذا الحديث لو صح فليس تفسيراً لضمير التثنية لأن الجن سمعوا ذلك بعد نزوله فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله ، وقيل الخطاب للذكور والإِناث وهو بعيد .
والتكذيب مستعمل في معنى الجحد والإِنكار مجازاً لتشنيع هذا الجحد .
وتكذيب الآلاء كناية عن الإِشراك بالله في الإِلهية . والمعنى : فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون أنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره بَلْه إنكار جميع نعمه إذ تعبدون غيره دواماً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.