الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فذكر ما خلق من النعم، فقال: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} يعني الجن والإنس، يعني فبأي نعماء ربكما تكذبان بأنها ليست من الله تعالى...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ": فبأيّ نِعَم ربكما معشر الجنّ والإنس من هذه النعم تكذّبان... عن ابن عباس، في قوله: "فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ "قال: لا بأيتها يا ربّ.

حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن مالك النضري، قالا: حدثنا يحيى بن سليمان الطائفي، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن، أو قُرئت عنده، فقال: «ما لِي أسْمَعُ الجِنّ أحْسَنَ جَوَابا لِرَبّها مِنْكُمْ؟» قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: «ما أتَيْتُ على قَوْلِ اللّهِ: فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تكَذّبانِ؟ إلاّ قالَتِ الجِنّ»: لا بِشَيْءٍ مِنْ نِعْمَةِ رَبّنا نُكَذّبُ»...

قال: قال ابن زيد في قوله: "فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ" قال: الآلاء: القدرة، فبأيّ آلائه تكذّب خلقكم كذا وكذا، فبأيّ قُدرة الله تكذّبان أيها الثّقَلان، الجنّ والإنس.

فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ فخاطب اثنين، وإنما ذكر في أوّل الكلام واحد، وهو الإنسان؟ قيل: عاد بالخطاب في قوله: "فَبِأيّ آلاءِ رَبّكُما تُكَذّبانِ" إلى الإنسان والجانّ، ويدلّ على أن ذلك كذلك ما بعد هذا من الكلام، وهو قوله: "خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارِ وَخَلَقَ الجانّ مِن مارِجٍ مِن نارٍ". وقد قيل: إنما جعل الكلام خطابا لاثنين، وقد ابتدئ الخبر عن واحد، لما قد جرى من فعل العرب، تفعل ذلك، وهو أن يخاطبوا الواحد بفعل الاثنين، فيقولون: خلياها يا غلام، وما أشبه ذلك مما قد بيّناه من كتابنا هذا في غير موضع.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} هذا خطاب للجن والإنس، وفيه دلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الإنس والجن جميعا. ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {يا معشر الجن والإنس} [الأنعام: 130] وقيل: ليس أن يخاطبها جملة ولكن يخاطب كل إنسي وجني في نفسه.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

وأما الحكمة من تكرارها فقال القتيبي: إن الله سبحانه وتعالى عدّد في هذه السورة نعماه، وذكّر خلقه آلاءه. ثم أتبع ذكر كلّ كلمة وضعها، ونعمة ذكرها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقرّرهم بها، وهو كقولك لرجل: أحسنت إليه وتابعت بالأيادي، وهو في كل ذلك ينكرك ويكفرك: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك؟، أفتنكر هذا؟ ألم أحملك وأنت راحل؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟، أفتنكر هذا؟ ألم تكن صرورة فحججت بك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرار سائغ في كلام العرب.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}... ما الحكمة في تكرير هذه الآية وكونه إحدى وثلاثين مرة؟

نقول: الجواب عنه من وجوه؛

(الأول) إن فائدة التكرير التقرير، وأما هذا العدد الخاص، فالأعداد توقيفية لا تطلع على تقدير المقدرات أذهان الناس، والأولى أن لا يبالغ الإنسان في استخراج الأمور البعيدة في كلام الله تعالى تمسكا بقول عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال مع نفسه عند قراءته سورة عبس: كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ، ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكليف، وما عليك يا عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه ....

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فبأي آلاء} أي نعم وعطايا {ربكما} أي المحسن إليكما بما أسدى من المزايا التي أسداها إليكم على وجه الكبرياء والعظمة وهي دائمة لا تنقطع من غير حاجة إلى مكافأة أحد ولا غيرها -أيها الثقلان- المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره، من آياته وصنائعه وحكمه وحكمته وعزته في خلقه واستسلام الكل له وخضوعهما إليه، فإن كل هذه النعم الكبار آيات دالة عليه وصنائع محكمة وأحكام وحكم ظهرت بها عزته وبانت بها قدرته... وذكره لهذه الآية بعد ذكر هذا العدد من الآيات إشارة إلى أن زيادة النعم إلى حد لا يحصى بحيث أن استيفاء عددها لا تحيط به عقول المكلفين لئلا يظنوا أنه لا نعمة غير ما ذكر في هذه السورة، والتعبير عنها بلفظ الآلاء من أجل أنها النعم المخصوصة بالملوك لما لها من اللمعان والصف المميز لها من غيرها ولما لرؤيتها من الخير والدعاء،... فإذا نظرت إلى الآل كان المعنى أن تلك النعم الكبار الملوكية تظهر للعباد معرفته سبحانه وأنه يؤل إليه كل شيء أولاً من غير نزاع كما أنه كان بكل شيء، وتكل عن نظرها الأبصار النوافذ كما تكل عن رؤية الأشخاص التي يرفعها الآل لأنها تدل عليه سبحانه...

نعم عظيمة وإن كانت نقماً لأنه لا نعمة تدل مثل ما دل عليه سبحانه، وكرر هذه الآية في هذه السورة من هنا بعد كل آية إلى آخرها لما تقدم في القمر من أن المنكر إذا تكرر إنكاره جداً بحيث أحرق الأكباد في المجاهرة بالعناد حسن سرد ما أنكره عليه، وكلما ذكر بفرد منه قيل له: لم تنكره؟ سواء أقر به حال التقرير أو استمر على العناد، فالتكرار حينئذ يفيد التعريف بأن إنكاره تجاوز الحد، ولتغاير النعم وتعددها واختلافها حسن تكرير التوقيف عليها واحدة واحدة تنبيهاً على جلالتها، فإن كانت نعمة فالأمر فيها واضح، وإن كانت نقمة فالنعمة دفعها أو تأخير الإيقاع بها،... فإنه من المألوف المعروف والجميل الموصوف أن التكرير عند التكذيب يوجب التكرير عند التقرير... وكان ترتيبها في غاية الحسن، ذكرت النعم أولاً استعطافاً وترغيباً في الشكر ثم الأهوال ترهيباً ودرأ للمفسدة بالعصيان والكفر ثم النعم الباقية لجلب المصالح، وبدأ بأشرفها فذكر الجنة العليا لأن القلب إثر التخويف يكون أنشط والهمم تكون أعلى والعزم يكون أشد، فحينئذ هذه الآية الأولى من الإحدى والثلاثين مشيرة إلى أن نعمة البصر من جهة الأمام، فكأنه قيل: أبنعمة البصر مما يواجهكم أو غيرها تكذبان...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

والفاءُ لترتيبِ الإنكارِ والتوبيخِ على ما فُصِّلَ من فنونِ النعماءِ وصنوفِ الآلاءِ الموجبةِ للإيمانِ والشكرِ حتماً، والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكيةِ الكلِّيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم لتأكيدِ النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ ومعنى تكذيبِهم بآلائِه تعالى كفرُهم إما بإنكارِ كونِه نعمةً في نفسهِ كتعليمِ القرآنِ يستندُ إليهِ من النعمِ الدينيةِ وإما بإنكارِ كونِه من الله تعالى مع الاعترافِ بكونِه نعمةً في نفسِه كالنعمِ الدنيويةِ الواصلةِ إليهم بإسنادِه إلى غيرِه تعالَى استقلالاً أو اشتراكاً صريحاً أو دلالةً فإنَّ إشراكَهُم لآلهتِهم به تعالَى في العبادةِ من دواعِي إشراكِهم لها به تعالى فيما يُوجبها، والتعبيرُ عن كفرِهم المذكورِ بالتكذيبِ لما أنَّ دلالةَ الآلاءِ المذكورةِ على وجوبِ الإيمانِ والشكرِ شهادةٌ منها بذلك فكفرُهم بها تكذيبٌ بَها لا محالةَ أي فإذا كان الأمرُ كما فُصِّلَ فبأيِّ فردٍ من أفرادِ آلاءِ مالكِكُما ومربِّيكُما بتلكَ الآلاءِ تكذبانِ مع أنَّ كلاً منها ناطقٌ بالحقِّ شاهدٌ بالصدقِ...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وضمير المثنى في {ربكما تكذبان} خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن. والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإِنسان المذكور في قوله: {خلق الإنسان} [الرحمن: 3] وهم المخاطبون بقوله: {ألا تطغوا في الميزان} [الرحمن: 8] الآية، والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره، أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بَلْهَ المؤمن، وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله. والمقصود الأصلي: التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعِم غيرَ المنعِم، والشهادةُ عليهم بتوحيد المؤمنين، والتكذيب مستعمل في الجحود والإِنكار. وقال جمهور المفسرين: هو خطاب للإنس والجن، وهذا بعيد لأن القرآن نزل لخطاب الناس ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن، فلا يتعرض القرآن لخطابهم، وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلّف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم، وقد يُكلف الله أصنافاً بما هم أهل له دون غيرهم، كما كلّف أهل العلم بالنظر في العقائد وكما كلّفهم بالاجتهاد في الفروع ولم يكلف العامة بذلك، فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة. وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله الأنصاري « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن وهم ساكتون فقال لهم: "لقد قرأتُها على الجن ليلةَ الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: {فبأي ألاء ربكما تكذبان} قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد". قال الترمذي: هو حديث غريب وفي سنده زهير بن محمد وقد ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل. وهذا الحديث لو صح فليس تفسيراً لضمير التثنية، لأن الجن سمعوا ذلك بعد نزوله فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله.

وقيل الخطاب للذكور والإِناث وهو بعيد. والتكذيب مستعمل في معنى الجحد والإِنكار مجازاً لتشنيع هذا الجحد. وتكذيب الآلاء كناية عن الإِشراك بالله في الإِلهية. والمعنى: فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون أنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره بَلْه إنكار جميع نعمه إذ تعبدون غيره دواماً.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} الخطاب للثقلين الجن والإنس، لذلك سيخاطبهم بعد ذلك {سنفرغ لكم أيها الثقلان (31)} وهنا يخاطبهم الحق سبحانه بهذا الاستفهام: هذه نعم الله وآلاؤه، فبأي هذ النعم تكذبان أيها الانس وأيها الجن؟

ومن أساليب القرآن الكريم أن الحق سبحانه حينما يريد أن يقرر حكما ويؤكد عليه لا يأتي به في صورة الخبر، إنما يأتي في صورة الاستفهام، كأنه يقول لهم: قولوا أنتم، ونحن نبحث عن الجواب للاستفهام لا بد أن تقول: ولا بشيء من نعمتك ربنا نكذب.

وأنت تسلك سبيل الاستفهام إلا وأنت واثق من أن الجواب سيأتي ولا بد كما تريد، كالذي ينكر مثلا فضلك عليك، فتقول له ألم أفعل معك كذا كذا؟

كلمة {آلاء...} أي نعم جمع آل مثل حمل وأحمال. وهذه الآية {فبأي آلاء ربكما تكذبان} تكرر فيهذه السورة عدة مرات، وهذا له مزية وحكمة، كما في قوله تعالى في السورة قبلها: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر (17)} [القمر] ومثل {فكيف كان عذابي ونذر (21)} [الفجر] ومثل هذا التكرار له حكمة. ويضيف جديدا، وإلا كان زيادة، والقرآن منزه عن هذا.

فالأسلوب حينما يكرر {فبأي آلاء ربكما تكذبان} تأسيس لكل نعمة مخصوصة، فمع كل نعمة بعيد هذا الأسلوب، فيجعل كل نعمة على حدة مسئولا عنها هذا السؤال.

وقد تكررت هذه الآية في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة فكان الحق سبحانه يريد أن يؤكد لنا على سيال الرحمانية في سورة الرحمن فيذكرها في كل نعمة. هل تكذبون بكذا؟ وكيف لنا أن نكذب ونحن نتقلب في هذا النعيم ليل نهار...

وهذا يعني أننا حينما نستمع للقرآن يجب أن ننفعل به ونتدبر معناه، لا أن يمر على أذاننا هكذا كغيره من كلام البشر، وقد رأينا أهل الإيمان والقرب من الله، يفعلون ذلك، فإذا ذكر اسم الله قالوا سيحان الله، أو جل جلاله، وإذا ذكر رسول الله قالوا: صلى الله عليه وسلم. إذا ذكرت الجنة سألوها، وإذا ذكرت النار استعاذوا بالله منها، وهكذا يتفاعل المؤمن مع كلام الله، فأين نحن من هؤلاء؟

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

فإنّ الله تعالى يضع (الإنس والجنّ) في هذه الآية مقابل الحقيقة التالية: وهي ضرورة التفكّر في النعم الإلهيّة السابقة التي منحها الله لكم وتسألون أنفسكم وعقولكم هذا السؤال: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) فإن لم تكذّبوا بهذه النعم، فلماذا تتنكّرون لوليّ نعمتكم؟ ولماذا لا تجعلون شكره وسيلة لمعرفته؟ ولماذا لا تعظّمون شأنه؟ إنّ التعبير ب (أي) إشارة إلى أنّ كلّ واحدة من هذه النعم دليل على مقام ربوبية الله ولطفه وإحسانه، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة؟...