فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13)

{ فبأي آلاء } أي فبأي فرد من أفراد نعم { ربكما تكذبان ؟ } أبتلك النعم المذكورة هنا ؟ أم بغيرها ؟ والمراد بالتكذيب الإنكار والخطاب للجن والإنس ، لأن لفظ الأنام يعمهما وغيرهما ، ثم خصص بهذا الخطاب من يعقل ، وبهذا قال الجمهور من المفسرين ، ويدل عليه قوله فيما سيأتي : { سنفرغ لكم أية الثقلان } ، ويدل على هذا ما قدمناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الجن والإنس ، وقيل : الخطاب للإنس ، وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية ، كما قدمنا في قوله : ألقيا في جهنم ، والآلاء النعم . قال القرطبي : وهو قول جميع المفسرين ، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا وإلى " وألى " أربع لغات حكاها النحاس ، وزاد في القاموس ألو ، وقال ابن زيد : إنها القدرة ، أي : فبأي قدرة ، وبه قال الكلبي ، وقال ابن عباس : فبأي نعمة الله وقال : يعني الجن والإنس .

وكرر سبحانه هذه الآية في هذه السورة في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة وتأكيدا للتذكير بها ، على عادة العرب في الاتساع ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ، بعدد أبواب جهنم ، وحسن ذكر الآلاء عقبها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء ، وتأخير العقاب ، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما بعدد أبواب الجنة وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأولين ، أخذا من قوله : ومن دونهما جنتان ، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة ، أفاده شيخ الإسلام في متشابه القرآن .

قال القتيبي : إن الله عدد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه وآلاءه ، ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ، لينبههم على النعم ، ويقررهم بها ، كما تقول لمن تتابع له إحسانك وهو يكفره : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملا فعززتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تكن راجلا فحملتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ؟ أفتنكر هذا ؟ والتكرير حسن في مثل هذا ومنه قول الشاعر :

لا تقتلي رجلا إن كنت مسلمة إياك من دمه إياك إياك

ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب ، وذلك لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الشمس والقمر ، والسماء والأرض ، إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه ، وخاطب الجن والإنس بالأشياء المذكورة ، لأنها كلها منهم بها عليهم ، قال الحسين بن الفضل : التكرير طرد للغفلة ، وتأكيد للحجة ، وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أن التكرير لاختلاف النعم ، ، فلذلك كرر التوقيف مع كل واحدة .

وقال الرازي : وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات والمراد به التقرير والزجر ، وذكر لفظ الرب لأنه يشعر بالرحمة . وكررت هذه اللفظة في هذه السورة إما للتأكيد ، ولا يعقل لخصوص العدد معنى ، قال الجلال المحلي : والاستفهام فيها للتقرير ، لما روي الحاكم . عن جابر قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : ما لي أراكم سكوتا ، للجن كانوا أحسن منكم ردا ، ما قرأت عليهم هذه الآية إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد " {[1555]} ، قلت : ويؤخذ من هذا أنه يسن لسامع القارئ لهذه السورة أن يجيبه بالجواب المذكور ؛ كلما قرأ الآية المذكورة ، كما فعلت الجن وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولام على الصحابة في سكوتهم ، وصرح بالسنية الكازروني في تفسيره ، وصنيع أبي السعود يقتضي أن الاستفهام للتوبيخ والإنكار ، ولفظه الفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فضل من فنون النعم ، وصنوف الآلاء الموجبة للشكر والإيمان حتما والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية ، والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير ، وتشديد التوبيخ ، وقرئ آلاء على أصله بالمد والتوسط والقصر في جميع هذه السورة .


[1555]:رواه الحاكم.