الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13)

قوله تعالى : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " خطاب للإنس والجن ؛ لأن الأنام واقع عليهما . وهذا قول الجمهور ، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة ، وخرجه الترمذي وفيه " للجن أحسن منكم ردا{[14518]} " . وقيل : لما قال : " خلق الإنسان " [ الرحمن : 3 ] " وخلق الجان " [ الرحمن : 15 ] دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما . وأيضا قال : " سنفرغ لكم أيها الثقلان " [ الرحمن : 31 ] خطاب للإنس والجن وقد قال في هذه السورة : " يا معشر الجن والإنس " [ الرحمن : 33 ] . الجرجاني : خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر ، كقوله تعالى : " حتى توارت بالحجاب{[14519]} " [ ص : 32 ] . وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القران ، والقرآن كالسورة الواحدة ، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات . وقيل : الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية ، حسب ما تقدم من القول في " ألقيا في جهنم{[14520]} " [ ق : 24 ] . وكذلك قوله :

قفا نبك{[14521]} . . .

و*خَلِيلَيّ مُرَّا بي{[14522]} . . .

فأما ما بعد " خلق الإنسان " [ الرحمن : 3 ] " وخلق الجان " [ الرحمن : 15 ] فإنه خطاب للإنس والجن ، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى : " والأرض وضعها للأنام " والآلاء النعم ، وهو قول جميع المفسرين ، واحدها إِلًى وأَلًى مثل مِعًى وعَصًا ، وإِلْيٌ وأَلْيٌ أربع لغات حكاها النحاس قال : وفي واحد " أناء الليل " ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام ، وقد مضى في " الأعراف{[14523]} " و " النجم{[14524]} " . وقال ابن زيد : إنها القدرة ، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان ، وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي ، وقال : هذه السورة من بين السور عَلَم القرآن ، والعلم إمام الجند والجند تتبعه ، وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة ، فقال : " الرحمن . علم القرآن " فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال : " الرحمن . علم القرآن " ثم ذكر الإنسان فقال : " خلق الإنسان " ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به ، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر ، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل ، ووضع الأرض للأنام ، فخاطب هذبن الثقلين الجن والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان وكل معبود اتخذوه من دونه ، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم ، فقال سائلا لهم : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه يقدر معه ، فذلك تكذيبهم . ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال ، وذكر خلق الجان من مارج من نار ، ثم سألهم فقال : " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة ، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير ، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ خلقٍ . وقال القتبي : إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه آلاءه ، ثم أتبع كل خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها ، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره : ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن صرورة{[14525]} فحججت بك أفتنكر هذا ! ؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا ؟ ! والتكرير حَسَنٌ في مثل هذا . قال :

كم نعمةٍ كانت لَكُمْ كَمْ كَمْ وكَمْ

وقال آخر :

لا تقتلي مسلماً إن كنتِ مُسْلِمَةً *** إياكِ من دمِه إِيَّاكِ إياكِ

وقال آخر :

لا تقطعنَّ الصديق ما طَرَفَتْ *** عيناكَ من قول كاشِحٍ أَشِرِ

ولا تَمَلَّنَّ من زيارته زُرْهُ *** وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرِ

وقال الحسين بن الفضل : التكرير طردا للغفلة ، وتأكيدا للحجة .


[14518]:رواية الترمذي المتقدمة تخالف هذه الرواية في اللفظ وهذه رواية الحاكم.
[14519]:راجع جـ 15 ص 195.
[14520]:راجع جـ ص 16 من هذا الجزء.
[14521]:البيت مطلع معلقة امرئ القيس وتمامه: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
[14522]:البيت مطلع قصيدة لامرئ القيس أيضا والبيت بتمامه: خليلي مرا بي على أم جندب * نقض لبانات الفؤاد المعذب
[14523]:راجع جـ 7 ص 237.
[14524]:راجع جـ 121 من هذا الجزء.
[14525]:الصرورة: الذي لم يحج قط.