قوله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمان : 13 ] ، «فبأي » متعلق ب «تكذبان » .
والعامة على إضافة «أي » إلى «الآلاء » .
وقرئ في{[54372]} جميع السورة بتنوين «أيّ » .
وتخريجها : على أنه قطع «أيًّا » عن الإضافة إلى شيء مقدر ، ثم أبدل منه «آلاء ربكما » بدل معرفة من نكرة ، وتقدم الكلام في «الآلاء » ومفردها في «الأعراف » .
والخطاب في «ربكما » قيل : للثقلين من الإنس والجن ؛ لأن الأنام تضمنهما ، وهو قول الجمهور ، ويدل عليه حديث جابر .
وفيه : «للْجِنُّ أحْسَنُ مِنْكُم رَدًّا »{[54373]} .
وقيل : لما قال : { خَلَقَ الإنسان ، وَخَلَقَ الجان } [ الرحمان : 14 ، 15 ] . دل ذلك على ما تقدم وما تأخر لهما .
وكذا قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } [ الرحمان : 31 ] خطاب للإنس والجن .
وقال أيضاً : { يا معشر الجن والإنس } [ الرحمان : 33 ] .
وقال الجرجاني{[54374]} : خاطب الجن مع الإنس ، وإن لم يتقدم للجن ذكر . كقوله تعالى : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] .
فقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن ، والقرآن كالسورة الواحدة ، فإذا ثبت أنهم مكلَّفُون كالإنس ، خوطب الجنسان بهذه الآيات .
وقيل : هو مثنّى مراد به الواحد ، كقوله تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] .
وكقول الحجاج بن يوسف : «يا حرسي اضربا عنقه » ، وكقول امرىء القيس : [ الطويل ]
قِفَا نَبكِ . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . {[54375]}
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . {[54376]}
وقيل : التكذيب يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بهما ، فالمراد هما .
فصل في آلاء الله تعالى{[54377]}
قال ابن زيد : المراد بالآلاء : القدرة{[54378]} ، والمعنى : فبأي قدرة ربكما تكذبان ، وهو قول الكلبي .
واختار محمد بن علي الترمذي ، وقال : هذه السورة من بين السور علم القرآن ، والعلم : إمام الجند ، والجند تتبعه ، وإنما صارت علماً ؛ لأنها سورة صفة الملك والقدرة ، فقال : { الرحمان عَلَّمَ القرآن } فافتتح السورة باسم الرحمان من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة ، فقال : { الرحمان عَلَّمَ القرآن } .
ثم ذكر الإنسان فقال : «خَلَقَ الإنسان » ثم ذكر ما صنع به ، وما من عليه به ، ثم ذكر حُسْبَان الشمس والقمر ، وسجود الأشياء من نجم وشجر ، وذكر رفع السماء ، ووضع الميزان وهو العدل ، ووضع الأرض للأنام ، فخاطب هذين الثقلين : الإنس والجن ، حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ، ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان ، وكل معبود اتخذوه من دونه ، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم .
فقال سائلاً لهم : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } أي : بأي قدرة ربكما تكذبان ، وإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من قدرته وملكه شريكاً يملك معه ، ويقدر معه ، فذلك تكذيبهم ، ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال ، وذكر خلق الجانّ من مارجٍ من نارٍ ، ثم سألهم فقال : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإن له في كل خلق قدرة بعد قدرة ، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد ، والمبالغة في التقرير ، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ بعد خلق .
وقال القتبي : إن الله - تعالى - عدد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه آلاءه ، ثم أتبع كل خلّة وصفها ونعمة وضعها في هذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليبينهم على النعم ، ويقررهم بها ، كما يقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملاً فعززتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن راجلاً فحملتك ، أفتنكر هذا ؟ والتكرير حسن في مثل هذا .
كَمْ نِعْمَةٍ كَانَتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وكَمْ{[54379]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الشاعر رحمه الله : [ البسيط ]
لا تَقْتُلِي مُسْلِماً إن كُنْتِ مُسْلمَةً *** إيَّاكِ من دمِهِ إيَّاكِ إيَّاكِ{[54380]}
لا تَقْطَعَنَّ الصَّديقَ ما طَرَفَتْ *** عَيْنَاكَ من قَوْلِ كَاشحٍ أشِرِ
ولا تَمَلَّنَّ مِنْ زيَارتِهِ *** زُرْهُ وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرِ{[54381]}
وقال الحسين بن الفضل : التكرير طرد للغفلة ، وتأكيد للحجَّة .
قال شهاب الدين{[54382]} : والتكرير - هاهنا - كما تقدم في قوله : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ } [ القمر : 17 ] ، وكقوله فيما سيأتي : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 45 ] .
وذهب جماعة منهم ابن قتيبة : إلى أن التكرير لاختلاف النِّعم ، فلذلك كرر للتوقيف مع كل واحدة .
قال ابن الخطيب{[54383]} : وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات ، والمراد به التقريع والزَّجْر ، وذكر لفظ الرب ؛ لأنه يشعر بالرحمة .
قال : «وكررت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة إما للتأكيد ، ولا يعقل بخصوص العدد معنى .
وقيل : الخطاب مع الإنس والجن ، والنعمة منحصرة في دفع المكروه ، وتحصيل المقصود ، وأعظم المكروهات عذاب جهنم ، و{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } [ الحجر : 44 ] ، وأعظم المقاصد : نعيم الجنة ، ولها ثمانية أبواب ، فالمجموع خمسة عشر ، وذلك بالنسبة للجن والإنس ثلاثون ، والزائد لبيان التأكيد »{[54384]} .
روى جابر بن عبد الله ، قال : «قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة «الرحمان » حتى ختمها ، ثم قال : «مَا لِي أراكُمْ سُكُوتاً ؟ للجِنُّ كانُوا أحسنَ مِنكُم رَدًّا ؛ ما قرأتُ عليهمِ هذهِ الآية مرَّة : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا : ولا بِشيءٍ من رحْمَتِكَ ربَّنا نكذِّبُ ، فلكَ الحمد »{[54385]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.