قوله تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان } قرأ أبو عمرو : ( وأتبعناهم ) ، بقطع الألف على التعظيم ، ( ذرياتهم ) ، بالألف وكسر التاء فيها ، لقوله : ( ألحقنا بهم ) ( وما ألتناهم ) ، ليكون الكلام على نسق واحد . وقرأ الآخرون : ( واتبعتهم ) بوصل الألف وتشديد التاء بعدها وسكون التاء الأخيرة . ثم اختلفوا في ( ذريتهم ) : قرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء ، والثانية بالألف وكسر التاء ، وقرأ أهل الشام ويعقوب كلاهما بالألف وكسر التاء في الثانية ، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما ورفع التاء في الأولى ونصبها في الثانية . واختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : معناها : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان } يعنى : أولادهم الصغار والكبار ، فالكبار بإيمانهم بأنفسهم ، والصغار بإيمان آبائهم ، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين { ألحقنا بهم ذريتهم } المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمةً لآبائهم لتقر بذلك أعينهم . وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم . وقال آخرون : معناه والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم البالغون بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم . وهو قول الضحاك ، ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
أخبر الله عز وجل أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه ، يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمله من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئاً ، فذلك قوله : { وما ألتناهم } قرأ ابن كثير بكسر اللام ، والباقون بفتحها أي ما نقصناهم يعني : الآباء { من عملهم من شيء } أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الحديثي ، حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي ، حدثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة حدثنا جنادة بن المفلس حدثنا قيس بن الربيع حدثنا عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه ، ثم قرأ : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } إلى آخر الآية .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي رضي الله عنه قال : " سألت خديجة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم : عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هما في النار ، فلما رأى الكراهية في وجهها ، قال : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما ، قالت : يا رسول الله فولدي منك ؟ قال : في الجنة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } " .
قوله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } قال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مرتهن في النار ، والمؤمن لا يكون مرتهناً ، لقوله عز وجل : { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين } .
{ 21-28 } { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }
وهذا من تمام نعيم أهل الجنة ، أن ألحق الله [ بهم ] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي : الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم ، فصارت الذرية تبعا لهم بالإيمان ، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم ، فهؤلاء المذكورون ، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها ، جزاء لآبائهم ، وزيادة في ثوابهم ، ومع ذلك ، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئا ، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك ، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم ، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكما واحدا ، فإن النار دار العدل ، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحدا إلا بذنب ، ولهذا قال : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي : مرتهن بعمله ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ، ولا يحمل على أحد ذنب أحد . هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور .
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم ، زيادة في الرعاية والعناية . ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين ، ما دامت هذه الذرية مؤمنة . وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم . ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه ، إنما هو فضل الله على الجميع :
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم . وما ألتناهم من عملهم من شيء . كل امرئ بما كسب رهين ) . .
{ والذين آمنوا } على حور أي قرناهم بأزواج حور ورفقاء مؤمنين . وقيل إنه مبتدأ { ألحقنا بهم } وقوله : { واتبعتهم ذريتهم بإيمان } اعتراض للتعليل ، وقرأ ابن عامر ويعقوب " ذرياتهم " بالجمع وضم التاء للمبالغة في كثرتهم والتصريح ، فإن الذرية تقع على الواحد والكثير ، وقرأ أبو عمرو و " أتبعناهم ذرياتهم " أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان وقيل { بإيمان } حال من الضمير أو الذرية أو منهما وتنكيره للتعظيم ، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان . { ألحقنا بهم ذريتهم } في دخول الجنة أو الدرجة . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية " وقرأ نافع وابن عامر والبصريان { ذرياتهم } . { وما ألتناهم } وما نقصناهم . { من عملهم من شيء } بهذا الإلحاق فإنه كان يحتمل أن يكون بنقص مرتبة الآباء أو بإعطاء الأبناء بعض مثوباتهم ، ويحتمل أن يكون بالتفصيل عليهم وهو اللائق بكمال لطفه . وقرأ ابن كثير بكسر اللام من ألت يألت ، وعنه " لتناهم " من لات يليت و " آلتناهم " من آلت يولت ، و " والتناهم " من ولت يلت ومعنى الكل واحد . { كل امرئ بما كسب رهين } بعمله مرهون عند الله تعالى فإن عمل صالحا فكه وإلا أهلكه .
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والحسن وقتادة وأهل مكة : «واتبعتهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . وقرأ نافع وأبو جعفر وابن مسعود بخلاف عنه وشيبة والجحدري وعيسى ، «وأتبعناهم ذريتهم » «بهم ذرياتهم » . وروى خارجة عنه مثل قراءة حمزة . وقرأ ابن عامر وابن عباس وعكرمة وابن جبير والضحاك : «واتبعتهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . وقرأ أبو عمرو والأعرج وأبو رجاء والشعبي وابن جبير والضحاك : «وأتبعناهم ذريتهم » «بهم ذريتهم » . فكون الذرية جمعاً في نفسه حسن الإفراد في هذه القراءات ، وكون المعنى يقتضي انتشار أن كثرة حسن جمع الذرية في قراءة «ذرياتهم » .
واختلف الناس في معنى الآية ، قال ابن عباس وابن جبير والجمهور : أخبر الله تعالى أن المؤمنين تتبعهم ذريتهم في الإيمان . فيكونون مؤمنين كآبائهم . وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء ، فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء .
وقد ورد في هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم{[10643]} فجعلوا الحديث تفسير الآية وكذلك وردت أحاديث تقتضي «أن الله تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين »{[10644]} . وذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الآية ، وذلك لا يترتب إلا بأن يجعل اسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو قوله تعالى { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون }{[10645]} [ يس : 41 ] وفي هذا نظر . وقال ابن عباس أيضاً والضحاك معنى هذه الآية : أن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين . يعني في الوراثة والدفن في قبور الإسلام وفي أحكام الآخرة في الجنة . وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال : الآية في الكبار من الذرية وليس فيها من الصغار شيء . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وحكى الطبري قولاً معناه أن الضمير في قوله : { بهم } عائد على ذرية ، والضمير الذي بعده في : { ذريتهم } عائد على { الذين } أي اتبعتهم الكبار وألحقنا نحن الكبار الصغار . وهذا قول مستكره .
وقوله : { بإيمان } هو في موضع الحال . فمن رأى أن الآية في الأبناء الصغار . فالحال من الضمير في قوله : { اتبعتهم } فهو من المفعولين ، ومن رأى أن الآية في الأبناء الكبار فيحتمل أن تكون الحال من المفعولين ، ويحتمل أن تكون من المتبعين الفاعلين ، وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول . لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء . ولفظة { ألحقنا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال .
وقرأ جمهور القراء : «أَلتناهم » بفتح الألف من ألَت .
وقرأ ابن كثير وأبو يحيى وشبل : «ألِتناهم » من ألِت بكسر اللام . وقرأ الأعرج : «ألتناهم » على وزن أفعلناهم . وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود : «لتناهم » من لات ، وهي قراءة ابن مصرف . ورواها القواس عن ابن كثير ، وتحتمل قراءة من قرأ : «أَلَتناهم » بالفتح أن تكون من ألات ، فإنه قال : ألات يليت إلاتة . ولات يليت ليتاً . وآلت يولت إيلاتاً ، وألت يألت . وولت يلت ولتاً . وكلها بمعنى نقص ومعنى هذه الآية : أن الله يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجره شيئاً وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور ، ويحتمل قوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } بأن يريد من عملهم المحسن والقبيح ، ويكون الضمير في { عملهم } عائد على الأبناء ، وهذا تأويل ابن زيد ، ويحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } ، والرهين المرتهن ، وفي هذه الألفاظ وعيد .
وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه قرأ : «وما لَتناهم » بغير ألف وفتح اللام . قال أبو حاتم : لا تجوز هذه القراءة على وجه من الوجوه . وأمددت الشي : إذا سربت إليه شيئاً آخر يكثره أو يكثر لديه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال في التقديم: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} يعني من أدرك العمل من أولاد بني آدم المؤمنين فعمل خيرا فهم مع آبائهم في الجنة، ثم قال: {ألحقنا بهم ذريتهم} يعني الصغار الذين لم يبلغوا العمل من أولاد المؤمنين فهم معهم وأزواجهم في الدرجة لتقر أعينهم.
{وما ألتناهم من عملهم من شيء} يقول: وما نقصنا الآباء إذا كانوا مع الأبناء من عملهم شيئا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان، ألحقنا بهم ذرّياتهم المؤمنين في الجنة، وإن كانوا لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم، تكرمة لآبائهم المؤمنين، وما ألتنا آباءهم المؤمنين من أجور أعمالهم من شيء... عن ابن عباس، قال: إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرّية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، ليقرّ بهم عينه، ثم قرأ «وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإيمَانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرّياتِهِم وَما أَلَتْناهمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرّيّاتهم التي بلغت الإيمان بإيمان، ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار التي لم تبلغ الإيمان، وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء...
وقال آخرون نحو هذا القول، غير أنهم جعلوا الهاء والميم في قوله:"أَلْحَقْنا بِهِمْ "من ذكر الذرّية، والهاء والميم في قوله: ذرّيتهم الثانية من ذكر الذين. وقالوا: معنى الكلام: والذين آمنوا واتبعتهم ذرّيتهم الصغار، وما ألتنا الكبار من عملهم من شيء...
وقال آخرون: بل معنى ذلك "وَالّذِينَ آمَنُوا وَاتّبَعَتْهُمْ ذُرّيّتُهُمْ بإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِم ذُرّيّتَهُمْ" فأدخلناهم الجنة بعمل آبائهم، وما ألتنا الآباء من عملهم من شيء... وقال آخرون: إنما عنى بقوله: «ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ»: أعطيناهم من الثواب ما أعطينا الآباء...
وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دلّ عليه ظاهر التنزيل... هو: والذين آمنوا بالله ورسوله، وأتبعناهم ذرياتهم الذين أدركوا الإيمان بإيمان، وآمنوا بالله ورسوله، ألحقنا بالذين آمنوا ذريتهم الذين أدركوا الإيمان فآمنوا، في الجنة فجعلناهم معهم في درجاتهم، وإن قصرت أعمالهم عن أعمالهم تكرمة منا لآبائهم، وما ألتناهم من أجور عملهم شيئا.
وإنما قلت: ذلك أولى التأويلات به، لأن ذلك الأغلب من معانيه، وإن كان للأقوال الآخر وجوه...
وقوله: "وما ألَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ" يقول تعالى ذكره: وما ألتنا الآباء، يعني بقوله: "وَما ألَتْناهُمْ": وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئا، فنأخذه منهم، فنجعله لأبنائهم الذين ألحقناهم بهم، ولكنا وفّيناهم أجور أعمالهم، وألحقنا أبناءهم بدرجاتهم، تفضلاً منا عليهم. والألت في كلام العرب: النقص والبخس... عن سعيد بن جُبَير "وَما أَلَتْناهُمْ" قال: وما ظلمناهم.
وقوله: "كُل امْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" يقول: كلّ نفس بما كسبت وعملت من خير وشرّ مرتهنة لا يؤاخذ أحد منهم بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. يُكْملُ عليهم سرورهم بأَنْ يُلْحِق بهم ذُرِّياتِهم؛ فإنَّ الانفرادَ بالنعمة عَمَّنْ القلبُ مشتغِلٌ به من الأهل والولد والذرية يوجِب تَنَغص العيش...
{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}. أي ما أنقصنا من أجورهم من شيءٍ بل وفينا ووفَرنا. وفي الابتداء نحن أَوْليْنا وزدنا على ما أعطينا. {كُلُّ امْرئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} مُطَالَبٌ بعمله، يوفىَّ عليه أَجره بلا تأخير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والذين ءامَنُواْ} معطوف على {بِحُورٍ عِينٍ} أي: قرناهم بالحور وبالذين آمنوا، أي: بالرفقاء والجلساء منهم...
{واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم}... فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، ومزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم... {بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم...
فإن قلت: ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت: معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة. ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم... {كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي مرهون، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحاً فكها وخلصها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولفظة {ألحقنا} تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي التكريم خطوة فإذا ذريتهم المؤمنة تجتمع إليهم في هذا النعيم، زيادة في الرعاية والعناية. ولو كانت أعمال الذرية أقل من مستوى مقام المتقين، ما دامت هذه الذرية مؤمنة. وذلك دون أن ينقص شيء من أعمال الآباء ودرجاتهم. ودون إخلال بفردية التبعة وحساب كل بعمله الذي كسبه، إنما هو فضل الله على الجميع..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكونُ الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقِّنون أبناءهم الإِيمان. والمعنى: والمؤمنون الذين لهم ذرياتٌ مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم...
ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته. والتنكير في قوله: {بإيمان} يحتمل أن يكون للتعظيم، أي بإيمان عظيم، وعظمتُه بكثرة الأعمال الصالحة، فيكون ذلك شرطاً في إلحاقهم بآبائهم وتكون النعمة في جعلهم في مكان واحد...
وفعل الإِلحاق يقتضي أن الذريات صاروا في درجات آبائهم. و {كل امرئ} يعمّ أهل الآخرة كلهم. وليس المراد كل امرئ من المتقين خاصة. والمعنى: انتفى إنقاصُنا إياهم شيئاً من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهَن عنده والمتقون لمّا كَسَبوا العمل الصالح كان لازماً لهم مقترناً بهم لا يُسلبون منه شيئاً، والمراد بما كسبوا: جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس العمل نفسه فقد انقضى في إبانه. وفي هذا التعليل كنايتان: إحداهما: أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم، وثانيتهما: أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم. وبهذا كان لهذه الجملة هنا وقع أشد حسناً مما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} ليجتمع شمل المؤمنين العائلي، الذين أسسوا علاقاتهم العائلية على قاعدة الإيمان بالله لا على قاعدة العصبية، ما جعل الواحد منهم يدعو الآخر إلى الإسلام ويقوّي موقفه ويدعم موقعه. فالإيمان هو الذي يوحِّد بين الناس في الدنيا، ويجمعهم في مواقع رحمة الله في الآخرة...