البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

والظاهر أن قوله : { والذين آمنوا } مبتدأ ، وخبره { ألحقنا } .

وأجاز أبو البقاء أن يكون { والذين } في موضع نصب على تقدير : وأكرمنا الذين آمنوا .

ومعنى الآية ، قال الجمهور وابن عباس وابن جبير وغيرهما : أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يكونون في مراتب آبائهم ، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال مثلهم كرامة لآبائهم .

فبإيمان متعلق بقوله : { وأتبعناهم } وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته وإن كان لم يبلغها بعمله ليقر بها عينه » ثم قرأ الآية .

وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار ، وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين . انتهى .

فيكون بإيمان متعلقاً بألحقنا ، أي ألحقنا بسبب الإيمان الآباء بهم ذرياتهم ، وهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف ، فهم في الجنة مع آبائهم ، وإذا كان أبناء الكفار ، الذين لم يبلغوا حدّ التكليف في الجنة ، كما ثبت في صحيح البخاري ، فأحرى أولاد المؤمنين .

وقال الحسن : الآية في الكبار من الذرية .

وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار .

وعن ابن عباس أيضاً : الذين آمنوا : المهاجرون والأنصار ، والذرية : التابعون .

وعنه أيضاً : إن كان الآباء أرفع درجة ، رفع الله الأبناء إليهم ، فالآباء داخلون في اسم الذرية .

وقال النخعي : المعنى : أعطيناهم أجورهم من غير نقص ، وجعلنا ذريتهم كذلك .

وقال الزمخشري : { والذين آمنوا } ، معطوف على حور عين .

أي قرناهم بالحور العين ؛ وبالذين آمنوا : أي بالرفقاء والجلساء منهم ، كقوله تعالى :

{ إخواناً على سرر متقابلين } فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وأتبعناهم ذرياتهم .

ثم ذكر حديث ابن عباس ، ثم قال : فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ، وبمزاوجة الحور العين ، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وباجتماع أولادهم بهم ونسلهم .

ثم قال : بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم : أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ، ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم ، وإن كانوا لا يستأهلونها ، تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ، لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم .

فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة .

ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم . انتهى .

ولا يتخيل أحد أن { والذين } معطوف على { بحور عين } غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجميّ مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره .

والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس ، ويعضده الحديث الذي رواه ، لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى هل الجنة .

وذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء .

ولفظة { ألحقنا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال .

وقرأ أبو عمرو : وأتبعناهم ؛ وباقي السبعة : واتبعتهم ؛ وأبو عمرو : وذرياتهم جمعاً نصباً ؛ وابن عامر : جمعاً رفعاً ؛ وباقي السبعة : مفرداً ؛ وابن جبير : وأتبعناهم ذريتهم ، بالمدّ والهمز .

وقرأ الجمهور : { ألتناهم } ، بفتح اللام ، من ألات ؛ والحسن وابن كثير : بكسرها ؛ وابن هرمز : آلتناهم ، بالمد من آلت ، على وزن أفعل ؛ وابن مسعود وأبي : لتناهم من لات ، وهي قراءة طلحة والأعمش ؛ ورويت عن شبل وابن كثير ، وعن طلحة والأعمش أيضاً : لتناهم بفتح اللام .

قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ، ولا يدل عليها تفسير ولا عربية ، وليس كما ذكر ، بل قد نقل أهل اللغة آلت بالمد ، كما قرأ ابن هرمز .

وقرىء : وما ولتناهم ، ذكره ابن هارون .

قال ابن خالويه : فيكون هنا الحرف من لات يليت ، وولت يلت ، وألت يألت ، وألات يليت ، ويؤلت ، وكلها بمعنى نقص .

ويقال : ألت بمعنى غلظ .

وقام رجل إلى عمر رضي الله عنه فوعظه ، فقال رجل : لا تألت أمير المؤمنين ، أي لا تغلظ عليه .

والظاهر أن الضمير في ألتناهم عائد على المؤمنين .

والمعنى : أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجر شيئاً ، وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور .

وقال أبي زيد : الضمير عائد على الأبناء .

{ من عملهم } : أي الحسن والقبيح ، ويحسن هذا الاحتمال قوله : { كل امرئ بما كسب رهين } : أي مرتهن وفيه ،