التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

ثم بين - سبحانه - أنواعا أخرى من تكريمه - تعالى - لهم ، فقال : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } .

والأية الكريمة بيان لحال طائفة من أهل الجنة - وهم الذين شاركتهم ذريتهم الأقل عملا منهم فى الإيمان - إثر بيان حال المتقين بصفة عامة .

والاسم الموصول مبتدأ ، وخبره جملة { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } . والمراد بالذرية هنا : ما يشمل الآباء والأبناء وقوله : { واتبعتهم } معطوف على { آمَنُواْ } . وقوله { بِإِيمَانٍ } متعلق بالاتباع ، والباء للسببية أو بمعنى فى .

ومعنى : { أَلَتْنَاهُمْ } أنقصناهم . يقال : فلان أَلَتَ فلانا حقه يألِتُه - من باب ضرب - إذا بخسه حقه .

والمعنى : والذين آمنوا بنا حق الإيمان واتبعتهم ذريتهم فى هذا الإيمان ، ألحقنا بهم ذريتهم ، بأن جمعناهم معهم فى الجنة ، وما نقصنا هؤلاء المتبوعين شيئا من ثواب أعمالهم ، بسبب إلحاق ذريتهم بهم فى الدرجة ، بل جمعنا بينهم فى الجنة . وساوينا بينهم فى العطاء - حتى ولو كان بعضهم أقل من بعض فى الأعمال - فضلا منا وكرما .

قال الإمام ابن كثير : يخبر - تعالى - عن فضله وكرمه ، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه : أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم فى الإيمان ، يلحقهم بآبائهم فى المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم ، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم فى منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه ، بأ ، يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذاك من عمله ومنزلته .

للتساوى بينه وبين ذاك . ولهذا قال : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } .

عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن فى درجته ، وإن كانوا دونه فى العمل ، لتقر بهم عينه ، ثم قرأ هذه الآية .

وفى رواية أخرى عنه قال - عندما سئل عن هذه الآية - : هم ذرية المؤمنين يموتون على الإيمان ، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ، ولم ينقصوا من أعمالهم التى عملوها شيئا .

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان ؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة ، ويجوز أن يراد : إيمان الذرية الدانى المحل ، كأنه قال : بشىء من الإيمان ، لا يؤهلهم لدرجة الآباء الحقناهم بهم .

قال الجمل : والذرية هنا تصدق على الآباء والأبناء ، فإن المؤمن إذا كان عمله الصالح أكثر ألحق به من هو دونه فى العمل أبا كان أو ابنا ، وهذا منقول عن ابن عباس وغيره .

وعن ابن عباس - أيضا - يرفعه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ ، سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يدركوا ما أدركت ، فيقول : يارب إنى عملت لى ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به " .

وقوله : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أى : كل إنسان مرهون بعمله عند الله - تعالى - فإن كان عمله صالحا سعد وفاز ، وأطلق نفسه من كل ما يسوؤها ويحزنها ، وإن كان غير ذلك جوزى على حسب عمله وسعيه .

والتعبير بقوله { رَهَينٌ } للإشعار بأن كل إنسان مرتهن بعمله ، حتى لكأن العمل بمنزلة الدَّيْن ، وأن الإنسان لا يستطيع الفكاك منه إلا بعد أدائه .