فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

ولما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم ذكر حال طائفة منهم على الخصوص فقال { والذين آمنوا } فيه ثلاثة أوجه :

أحدهما : أنه منصوب بفعل مقدر أي وأكرمنا الذين آمنوا .

والثاني : أنه مجرور على ما قاله الزمخشري والذين آمنوا معطوف على حور عين أي قرناهم بحور عين ، وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور العين ، وتارة بمؤانسة الإخوان قال أبو حيان : ولا يتخيل أحد أن قوله والذين آمنوا معطوف على حور عين غير هذا الرجل وهو تخييل أعجمي مخالف لفهم العربي ابن عباس وغيره .

قلت : أما ما ذكره الزمخشري من المعنى فلا شك في حسنه ونضارته وليس في الكلام العربي ما يدفعه ، بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم ، وأي مانع معنوي أو صناعي يمنعه .

والثالث : أنه مرفوع على أنه مبتدأ والخبر الجملة من قوله : ألحقنا بهم والأول أولى ، وقيل : المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار ، وظاهر الآية العموم ولا يوجب تخصيصها بهم كونهم السبب في نزولها ، إن صح ذلك ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

{ واتبعتهم ذريتهم بإيمان } أي حال كون الذرية متلبسة بإيمان استقلالي أو تبعي ، أما الذرية الكافرة فلا تتبع آباءها ، وهذا على أن الباء للملابسة لكن جمهور المفسرين على أنها للسببية ، أو بمعنى في ، وبهذا الإعتبار لا يظهر دخول الأولاد الكبار ، فإن إيمانهم إستقلالي لا تبعي كالصغار ، وقال أبو السعود : أي اتبعتهم ذريتهم بإيمان قاصر عن رتبة إيمان الآباء ، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا ، وقرأ أبو عمرو ، اتبعناهم بإسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه ، كقوله : ألحقنا وقرأ الباقون : اتبعتهم بإسناد الفعل إلى الذرية ، وقرئ ذريتهم بالإفراد والجمع .

ومعنى الآية : أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر عينه ، وتطيب نفسه ، بشرط أن يكونوا مؤمنين فيختص ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرية وهم البالغون دون الصغار فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم ، فبدليل آخر غير هذه الآية ، وقيل : إن الذرية تطلق على الكبار والصغار ، كما هو المعنى اللغوي ، فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذريتهم وكبارهم .

{ ألحقنا بهم ذريتهم } الذرية هنا تصدق على الآباء وعلى الأبناء فإن المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ، ابنا كان أو أبا ، وهو منقول عن ابن عباس وغيره ، ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب ، وهو المحبة ، فإن كان معها أخذ علم أو عمل ، كانت أجدر ، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة ، قاله الخطيب ، ولعل الأول أولى ، وقيل : إن الضمير في بهم راجع إلى الذرية المذكورة أولا ، أي ألحقنا بالذرية المتبعة لآبائهم بإيمان ذريتهم ، وإلحاق الذرية بهم بمحض الفضل والكرم ، وهذا هو الأليق بكمال لطفه ، قال ابن عباس أيضا في الآية : إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر به عينه ، ثم قرأ هذه الآية ، وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا .

" وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ، فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به " أخرجه الطبراني وابن مردويه .

" وعن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا } الآية " أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند .

" وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب من أين لي هذا ؟ فيقول : باستغفار ولدك لك " {[1539]} ، أخرجه أحمد وإسناده صحيح .

{ وما ألتناهم من عملهم من شيء } قرئ بفتح اللام من ألتنا وبكسرها ، وهما سبعيتان ، أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا ، وقيل : المعنى وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئا لقصر أعمارهم ، والأول أولى ، وقد قدمنا تحقيق معنى لاته وآلته في سورة الحجرات ، وقرئ وآلتناهم بالمد ، وهو لغة قال في الصحاح : يقال ما آلته من عمله شيئا أي ما نقصه ، قال ابن عباس : ما ألتناهم ما نقصناهم ، ومن زائدة .

{ كل امرئ بما كسب رهين } يعني مرهون ، والظاهر أنه عام ، وأن كل إنسان مرتهن بعمله ، فإن قام به على الوجه الذي أمر الله به فكه ، وإلا أهلكه ، وقيل : هو بمعنى راهن ، والمعنى كل امرئ بما كسب ثابت دائم وقيل : هذا خاص بالكفار لقوله : { كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين }


[1539]:رواه أحمد.