روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

وقوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ } الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذي شاركتهم ذريتهم في الايمان ، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم ، وقوله تعالى : { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } عطف على آمنوا ، وقيل اعتراض للتعليل ، وقوله تعالى : { بإيمان } متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناءاً على تفاوت مراتب نفس الايمان ، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء إليه ، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الايمان الكامل أصالة لا إلحاقاً قيل : هو حال من الذرية ، وقيل : من الضمير وتنوينه للتعظيم ، وقيل : منهما وتنوينه للتنكير والمعول عليه ما قدمنا { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } في الدرجة . أخرج سعيد بن منصور . وهناد . وابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . والحاكم . والبيهقي في «سننه » عن ابن عباس قال : " إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بِهِم عينه ثم قرأ الآية " وأخرجه البزار . وابن مردويه عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية ابن مردويه . والطبراني عنه أنه قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به " وقرأ ابن عباس الآية ، وظاهر الأخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصالهم بهم أحياناً ولو للزيارة . وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل ، وما قيل : لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه ، وقد يستأنس للتخصيص بما روى عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار ، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته { وَمَا ألتناهم } أي وما نقنصا الآباء بهذا الإلحاق { مّنْ عَمَلِهِم } أي من ثواب عملهم { مِن شَىْء } أي شيئاً بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان ، وقال ابن زيد الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئاً بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملاً وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : { كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } وإلى الأول ذهب ابن عباس . وابن جبير . والجمهور . والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية ، وقال منذر بن سعيد : هي في الصغار .

وروى عن الحبر .

والضحاك أنهما قالا : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الايمان بآبائهم المؤمنين ، وجعل بإيمان عليه متعلقاً بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل : وكأن من يقول بذلك يفسر { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم ، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعاً لآبائهم فكانوا مؤمنين حكماً لصغرهم وإيمان آبائهم ، والصغير يحكم بإيمانه تبعاً لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى ، وقيل : الموصول معطوف على { حور } [ الطور : 20 ] ، والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور ؛ وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وقوله تعالى : { واتبعتهم } عطف على { زوجناهم } [ الطور : 20 ] ، وقوله سبحانه : بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم ، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم ، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجهاً أول ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس . وغيره ، وقيل عليه : إنه تعصب منه ، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف ، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم .

وقرأ أبو عمرو { وأتبعناهم } بقطع الهمزة وفتحها ، وإسكان التاء ، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان ، وقرأ أيضاً ذرياتهم جمعاً نصباً ، وابن عامر كذلك رفعاً ، وقرأ ذرياتهم بكسر الذال { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } بتاء الفاعل ، ونصب ذريتهم على المفعولية ، وقرأ الحسن . وابن كثير ألتناهم بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم ، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب ، وابن هرمز آلتناهم بالمد من آلت يؤلت ، وابن مسعود . وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة . والأعمش ، ورويت عن شبل . وابن كثير ، وعن طلحة . والأعمش ، ورويت عن شبل . وابن كثير ، وعن طلحة . والأعمش أيضاً لتناهم بفتح اللام ، قال سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية وليس كما قال بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز ، وقرئ وما ولتناهم من ولت يلت ، ومعنى الكل واحد ، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلاً قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال : لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه { كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ } أي بكسبه وعمله { رَهَينٌ } أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤدّ الدين فإن كان العمل صالحاً فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب ، ولذا قال جل وعلا :

{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أصحاب اليمين } [ المدثر : 38 ، 39 ] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم .

ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذباً لأنه لم يفك رقبته ، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى : { هُوَ البر الرحيم } [ الطور : 28 ] ليكون كلاماً راجعاً إلى حال الفريقين المدعوين . والمتقين وإنما جعل متخللاً بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم ، قال في «الكشف » : ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضاً ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقاً لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص ، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلاً على الآباء لا على الأبناء ابتداءاً لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل ، وجعله استئنافاً بيانياً لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد ، وقيل : { رَهَينٌ } فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت ، وفي «الإرشاد » أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء ، فالجملة تعليل لما قبلها ، وأنت تعلم أن فعيلاً بمعنى المفعول أسرع تبادراً إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى .