الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ} (21)

قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ الجملةُ من قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } والذُّرِّيَّةُ هنا تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي : إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ به مَنْ دونَه في العمل ، ابناً كان أو أباً ، وهو منقولٌ عن ابن عباس وغيرِه . والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ . قال أبو البقاء : " على تقدير وأكرَمْنا الذين آمنوا " . قلت : فيجوزُ أَنْ يريدَ أنه من باب الاشتغالِ وأنَّ قولَه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مُفَسِّر لذلك الفعلِ من حيث المعنى ، وأَنْ يريدَ أنه مضمرٌ لدلالةِ السياقِ عليه ، فلا تكونُ المسألةُ من الاشتغالِ في شيء .

والثالث : أنه مجرورٌ عطفاً على " حورٍ عينٍ " . قال الزمخشري : " والذين آمنوا معطوفٌ على " حورٍ عينٍ " أي : قَرَنَّاهم بالحورِ وبالذين آمنوا أي : بالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ منهم ، كقوله : { إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] فيتمتَّعون تارةً بملاعبةِ الحُور ، وتارةً بمؤانسةِ الإِخوانِ " . ثم قال الزمخشري : " ثم قال تعالى : { بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ أَلْحَقْنا بدَرَجَتِهم ذرِّيَّتَهم ، وإنْ كانوا لا يَسْتَأهِلُونها تَفَضُّلاً عليهم " .

قال الشيخ : " ولا يتخيَّلُ أحدٌ أنَّ " والذين آمنوا " معطوفٌ على " بحورٍ عينٍ " غيرُ هذا الرجلِ ، وهو تخيُّلُ أعجميٍّ مُخالفٍ لِفَهْمِ العربيِّ القُحِّ ابنِ عباسٍ وغيرِه " . قلت : أمَّا ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شكَّ في حُسْنِه ونَضارَتِه ، وليس في كلامِ العربيِّ القُحِّ ما يَدْفَعُه ، بل لو عُرِض على ابنِ عباسٍ وغيرِه لأَعْجبهم . وأيُّ مانعٍ معنوي أو صناعي يمنعُه ؟ .

وقوله : { وَاتَّبَعَتْهُمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على الصلةِ ، ويكونَ " والذين " مبتدأً ، ويتعلقَ " بإيمان " بالاتِّباع بمعنى : أنَّ اللَّهَ تعالى يُلْحق الأولادَ الصغارَ ، وإن لم يَبْلغوا الإِيمانَ ، بأحكام الآباءِ المؤمنين . وهذا المعنى منقولٌ عن ابنِ عباس والضحاك . ويجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً بين المبتدأ والخبر ، قاله الزمخشري . ويجوزُ أَنْ يتعلَّق " بإيمان " بألحَقْنا كما تقدَّم . فإنْ قيل : قولُه : " اتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتَهم " يفيد فائدةَ قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } . فالجوابُ أنَّ قولَه : " أَلْحَقْنا بهم " أي : في الدرجات والاتِّباعُ إنما هو في حُكْمِ الإِيمان ، وإن لم يَبْلُغوه كما تقدَّم . وقرأ أبو عمرو و " وأَتْبَعْناهم " بإسناد الفعل إلى المتكلمٍ المعظِّمِ نفسَه . والباقون " واتَّبَعَتْهم " بإسنادِ الفعلِ إلى الذرِّيَّة وإلحاقِ تاء التأنيث . وقد تَقَدَّم الخلافُ في إفرادِ " ذُرِّيَّتهم " وجمعِه في سورة الأعرافِ محرراً بحمد الله تعالى .

قوله : { أَلَتْنَاهُمْ } قرأ ابن كثير " أَلِتْناهم " بكسر اللام ، والباقون بفتحِها . فأمَّا الأولى فَمِنْ أَلِتَ يَأْلَتُ بكسرِ العينِ في الماضي وفتحِها في المضارع كعَلِمَ يَعْلَمُ .

وأمَّا الثانيةُ فتحتمل أَنْ تكونَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ كضَربَ يَضْرِبُ ، وأَنْ تَكونَ مِنْ أَلات يُليت كأَماتَ يُميت ، فَأَلَتْناهم كأَمَتْناهم . وقرأ ابن هرمز " آلَتْناهم " بألفٍ بعد الهمزة ، على وزنِ أَفْعَلْناهم . يقال : آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ . وعبد الله وأُبَيٌّ والأعمش وطلحة ، وتُرْوى عن ابنِ كثير " لِتْناهم " بكسر اللام كبِعْناهم يُقال : لاتَه يَليته ، كباعه يَبيعه . /

وقرأ طلحة والأعمش أيضاً " لَتْناهم " بفتح اللام . قال سهل : " لا يجوز فتحُ اللامِ مِنْ غير ألفٍ بحالٍ " ولذلك أَنْكر " آلَتْناهم " بالمدِّ : وقال : " لا يَدُلُّ عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ " . وليس كما زعم ؛ بل نَقَلَ أهلُ اللغةِ : آلَتَ يُؤْلِتُ . وقُرِىء " وَلَتْناهم " بالواو ك " وَعَدْناهم " نَقَلها هارون . قال ابن خالويه : " فيكونُ هذا الحرفُ مِنْ لاتَ يَليت ، ووَلَتَ يَلِتَ ، وأَلِتَ يَأْلَت ، وأَلَت ، وأَلات يُليت . وكلُّها بمعنى نَقَص . ويقال : أَلَتَ بمعنى غَلَّظ . وقام رجلٌ إلى عمر يَعِظُه فقال له رجل : لا تَأْلِتْ أميرَ المؤمنين أي : لا تُغْلِظْ عليه " . قلت : ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الأثرُ على حالِه ، والمعنى : لا تُنْقِصْ أميرَ المؤمنين حَقَّه ، لأنه إذا أَغْلَظَ له القولَ نَقَصَه حَقَّه .

قوله : { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } " مِنْ شيءٍ " مفعولٌ ثانٍ ل " أَلَتْناهم " و " مِنْ " مزيدةٌ فيه . والأُولى في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " شيء " لأنَّها في الأصلِ صفةٌ له ، فلَمَّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ ب " أَلَتْناهم " وليس بظاهرٍ . وفي الضمير في " أَلَتْناهم " وجهان ، أظهرهما : أنَّه عائدٌ على المؤمنين . والثاني : أنَّه عائد على أبنائهم . قيل : ويُقَوِّيه قولُه : { كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } .