قوله تعالى : { فمن خاف } . أي علم ، كقوله تعالى : ( فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ) أي علمتم .
قوله تعالى : { من موص } . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب ، بفتح الواو وتشديد الصاد ، كقوله تعالى : ( ما وصى به نوحاً ) ( ووصينا الإنسان ) وقرأ الآخرون بسكون الواو ، وتخفيف الصاد ، كقوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) .
قوله تعالى : { جنفاً } . أي جوراً وعدولاً عن الحق ، والجنف : الميل .
قوله تعالى : { أو إثماً } . أي ظلماً ، قال السدي وعكرمة والربيع : الجنف الخطأ والإثم العمد .
قوله تعالى : { فأصلح بينهم فلا إثم عليه } . واختلفوا في معنى الآية ، قال مجاهد : معناها أن الرجل إذا حضر مريضاً وهو يوصي فرآه يميل : إما بتقصير أو إسراف ، أو وضع الوصية في غير موضعها فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف فينظر للموصى وللورثة ، وقال آخرون : إنه أراد به أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جار متعمداً فلا حرج على وليه أو وصيه أو ولى أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته ، وبين الموصى لهم ، ويرد الوصية إلى العدل والحق ، ( فلا إثم عليه ) ، أي : فلا حرج عليه .
قوله تعالى : { إن الله غفور رحيم } . وقال طاووس : جنفة توجيهه ، وهو أن يوصي لبني بنيه يريد ابنه ولولد ابنته ولزوج ابنته يريد بذلك ابنته . وقال الكلبي : كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى : ( فمن بدله بعد ما سمعه ) الآية وإن استغرق المال كله ولم يبق للورثة شيء ، ثم نسخها قوله تعالى : ( فمن خاف من موص جنفاً ) الآية ، قال ابن زيد : فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمر الله تعالى ، وعجز الموصي أن يصلح فانتزع الله تعالى ذلك منهم ، ففرض الفرائض .
روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " ثم قرأ أبو هريرة : ( من بعد وصية إلى قوله غير مضار ) .
وأما الوصية التي فيها حيف وجنف ، وإثم ، فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها ، أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل ، وأن ينهاه عن الجور والجنف ، وهو : الميل بها عن خطأ ، من غير تعمد ، والإثم : وهو التعمد لذلك .
فإن لم يفعل ذلك ، فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم ، ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة ، ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم فهذا قد فعل معروفا عظيما ، وليس عليهم إثم ، كما على مبدل الوصية الجائزة ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } أي : يغفر جميع الزلات ، ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه ، ومنه مغفرته لمن غض من نفسه ، وترك بعض حقه لأخيه ، لأن من سامح ، سامحه الله ، غفور لميتهم الجائر في وصيته ، إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لأجل براءة ذمته ، رحيم بعباده ، حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون ، فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية ، وعلى بيان من هي له ، وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة ، والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة .
إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي . ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد ، أو النكاية بالوريث . فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف ، وهو الحيف ، ويرد الأمر إلى العدل والنصف :
( فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .
والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك . ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال ، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف .
وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدودا إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى . والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء .
{ فمن خاف من موص } أي توقع وعلم ، من قولهم أخاف أن ترسل السماء . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر { موص } مشددا . { جنفا } ميلا بالخطأ في الوصية . { أو إثما } تعمدا للحيف . { فأصلح بينهم } بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع . { فلا إثم عليه } في هذا التبديل ، لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول . { إن الله غفور رحيم } وعد للمصلح ، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم .
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 182 )
والجنف الميل ، وقال الأعشى : [ الطويل ]
تجانِفُ عَنْ حِجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتي . . . وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا( {[1651]} )
وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [ الوافر ]
هُمُ الْمَوْلَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنَا . . . وإِنَّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ( {[1652]} )
ومعنى الآية على ما قال مجاهد : من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية( {[1653]} ) أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى : من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم { فلا إثم ، عليه ، إن الله غفور } عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية { رحيم } به .
وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع : معنى الآية ، من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي( {[1654]} ) أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه ، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد ، لكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى . وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه : «فلإثم عليه » بحذف الألف .