قوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } ، فرأوهم عياناً .
قوله تعالى : { وكلمهم الموتى } ، بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا .
قوله تعالى : { وحشرنا } ، وجمعنا .
قوله تعالى : { عليهم كل شيء قبلاً } ، قرأ أهل المدينة وابن عامر { قبلاً } بكسر القاف أو فتح الباء ، أي معاينة ، وقرأ الآخرون بضم القاف والباء ، قيل : هو جمع قبيل ، وهو الكفيل ، مثل : رغيف ورغف ، وقضيب وقضب . أي : ضمناء وكفلاء ، وقيل : هو جمع قبيل وهو القبيلة ، أي : فوجاً فوجاً ، وقيل : هو بمعنى المقابلة والمواجهة من قولهم : أتيتك قبلاً لا دبراً إذا أتاه من قبل وجهه .
وكذلك تعليقهم الإيمان بإرادتهم ، ومشيئتهم وحدهم ، وعدم الاعتماد على الله من أكبر الغلط ، فإنهم لو جاءتهم الآيات العظيمة ، من تنزيل الملائكة إليهم ، يشهدون للرسول بالرسالة ، وتكليم الموتى وبعثهم بعد موتهم ، وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم{[301]} { قُبُلًا } ومشاهدة ، ومباشرة ، بصدق ما جاء به الرسول ما حصل منهم الإيمان ، إذا لم يشأ الله إيمانهم ، ولكن أكثرهم يجهلون . فلذلك رتبوا إيمانهم ، على مجرد إتيان الآيات ، وإنما العقل والعلم ، أن يكون العبد مقصوده اتباع الحق ، ويطلبه بالطرق التي بينها الله ، ويعمل بذلك ، ويستعين ربه في اتباعه ، ولا يتكل على نفسه وحوله وقوته ، ولا يطلب من الآيات الاقتراحية ما لا فائدة فيه .
هذا الجزء الثامن مؤلف من شطرين : الشطر الأول هو بقية سورة الأنعام - التي سبق شطرها الأول في الجزء السابع - والشطر الثاني هو من سورة الأعراف . .
ولقد سبق التعريف بسورة الأنعام في الجزء السابع ؛ وسنحاول هنا أن نصل قارئ هذا الجزء بالتعريف الذي تضمنه ذلك الجزء . أما الكلام عن سورة الأعراف فسيجيء في موضعه - إن شاء الله - عندما نواجه السورة .
تمضي بقية سورة الأنعام على منهج السورة الذي أوضحناه في التعريف بها في الجزء السابع . والذي يحسن أن نشير إليه ملخصاً في فقرات مجملة :
جاء في التعريف بالسورة هذه الفقرات :
" إنها - في جملتها - تعرض " حقيقة الألوهية " . تعرضها في مجالي الكون والحياة . كما تعرضها في مجالي النفس والضمير . . وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود ، كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون . .
وتعرضها في النشأة الكونية ، والنشأة الحيوية ، والنشأة الإنسانية ؛ كما تعرضها في مصارع الغابرين ، واستخلاف المستخلفين . . وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون ، وتواجه الأحداث ، وتواجه النعماء والضراء ؛ كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة ، وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة . . وأخيراً تعرضها في مشاهد القيامة ، ومواقف الخلائق ، وهي موقوفة على ربها الخالق . . .
" هكذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق ، وفي هذه الأغوار والأعماق . . ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي - الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة - وعلى منهج القرآن كله . . إنها لا تهدف إلى تصوير " نظرية " في العقيدة ، ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار . . إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق ، لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق . . تعبيد ضمائرهم وأرواحهم ، وتعبيد سعيهم وحركتهم ، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم ، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد . .
سلطان الله الذي لا سلطان غيره في الأرض ولا في السماء .
" ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد . . من أولها إلى آخرها . . فالله هو الخالق . والله هو الرازق ، والله هو المالك . والله هو صاحب القدرة والقهر والسلطان . والله هو العليم بالغيوب والأسرار . والله هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار . . وكذلك يجب أن يكون الله هو الحاكم في حياةالعباد ؛ وألا يكون لغيره أمر ولا نهي ، ولا شرع ولا حكم ، ولا تحليل ولا تحريم . . فهذا كله من خصائص الألوهية ، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون الله ، لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ، ولا يضر ولا ينفع ، ولا يمنح ولا يمنع ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاَ في الدنيا ولا في الآخرة . . وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة ، والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية ، من كل درب ومن كل باب !
" والقضية الكبرى التي تعالجها السورة هي قضية " الألوهية والعبودية " في السماوات والأرض في محيطها الواسع ، وفي مجالها الشامل . . ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك . . المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة . . هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحريم والتحليل في الذبائح والمطاعم ؛ ومن حق تقرير الشعائر في النذور من الذبائح والثمار . . والاولاد . . وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه الآيات في أواخر السورة :
( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين . وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم - إلا ما اضطررتم إليه 0 وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم . إن ربك هو أعلم بالمعتدين . وذروا ظاهر الإثم وباطنه . إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، وانه لفسق ، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . . . [ 118 - 121 ] )
( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، ليردوهم ، وليلبسوا عليهم دينهم . ولو شاء الله ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر ، لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون . وقالوا : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ، ومحرم على أزواجنا ، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . سيجزيهم وصفهم . إنه حكيم عليم . قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ، وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين . . . [ 136 - 140 ] .
" هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية من حولها - التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة . . قضية التشريع والحاكمية . . ومن ورائها القضية الكبرى . . قضية الالوهية والعبودية التي تواجهها السورة كلها ، ويعالجها القرآن المكي كله ، كما يعالجها القرآن المدني أيضاَ ، كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع .
" والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات ، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق الحاكمية والتشريع - وربطها بقضية العقيدة كلها . . قضية الألوهية والعبودية . . وجعلها مسألة إيمان أو كفر ، ومسألة إسلام أو جاهلية . . هذا الحشد - على هذا النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة ، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك - يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين . وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعاً مطلقاً لحاكمية الله المباشرة الممثلة في شريعته . وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة ، من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة . كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر - جل أم حقر ، كبر أم صغر - وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين . . وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض ، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصريف أمر هذا الكون كله بلا شريك . .
هذه المناسبة التي كانت حاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية من حولها - والتي عالجها سياق السورة على هذا النحو الذي سبقت الإشارة إليه في هذه المقتطفات . . هي هي موضوع بقية السورة التي سنعالجها في هذا الجزء . بعدما مضى الشطر الأول من السورة في عرض قضية الألوهية والعبودية في محيطها الشامل ؛ وانتهى السياق إلى مواجهة هذه المناسبة الواقعية ، فربط بينها وبين القضية الكبرى ، ذلك الربط القوي المباشر .
إن السياق القرآني يحشد - لمواجهة تلك التقاليد الجاهلية في تحريم بعض المطاعم وتحليل بعضها ؛ وفي النذور من الثمار والأنعام والأولاد - حشداً ضخماً من المؤثرات والتقريرات ؛ ويربطها بجملة من الحقائق والقواعد ، هي حقائق هذا الدين وقواعده الأساسية ؛ ويقدم لها ويعقب عليها تقدمات ضخمة وتعقيبات هائلة ؛ مما يدل على الأهمية البالغة التي ينوطها هذا الدين ، بتخليص الحياة كلها من قبضة الجاهلية ؛ وردها بجملتها إلى الإسلام . . أي إلى سلطان الله وحده . .
وهكذا يبدأ السياق بتقدمه لهذه القضية عن إحاطة مشيئة الله بالعباد جميعاً : جنهم وإنسهم . وجريان الأحداث في هذه العوالم بمشيئته وقدره ؛ واستدراجه لأعداء الرسل من شياطين الإنس والجن ؛ وإمهاله لهم ، ليقترفوا ما هم مقترفون ؛ ولو شاء الله لقهرهم على الهدى ولكفهم عن الضلال قهراً أو لهداهم إلى الحق وشرح صدورهم له . أو لكفهم عن أذى الرسل والمؤمنين فلم يصلوا إليهم . فهم لا يعادون الرسل ، ولا يقترفون ما يقترفون ، خروجاً على سلطان الله ومشيئته ؛ فهم أعجز من أن يخرجوا على سلطان الله ومشيئته . إنما هي مشيئة الله اقتضت أن يترك لهم الخيار والقدرة على الهدى وعلى الضلال ؛ وهم في قبضته على كل حال : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ، ولو شاء ربك ما فعلوه ، فذرهم وما يفترون . ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وليرضوه ، وليقترفوا ما هم مقترفون . .
فإذا تقرر أن عداء شياطين الإنس والجن للرسل سنة يجري بها قدر الله . وأن هؤلاء الشياطين ، على كل ما يرتكبونه ، هم في قبضة الله . استنكر رسول الله [ ص ] أن يبتغي( حكما )غير الله . . هكذا على الإطلاق ، في أي شأن وفي أي أمر . . ذلك أن تحكيم غير الله في شأن هذه المطاعم هو كالتحكيم لغير الله في كل شأن . وهو إقامة ربوبية غير ربوبية الله ينكرها رسول الله . . وأعقب ذلك تقرير أن كلمة ربه قد تمت بهذا الكتاب وبهذه الشريعة فلم يعد هناك قول لقائل ، ولا حكم لبشر . وحذر رسول الله [ ص ] أن يطيع البشر في دين الله ؛ فإن أكثرهم لا يتبعون إلا الظن ؛ ولا علم عندهم يستيقن ؛ ومن يطعهم يضلوه . والله وحده هو الذي يعلم الضالين والمهتدين من عباده . . وكان ذلك كله تمهيداً للأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ان كان المسلمون مؤمنين ، والنهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه . وتحذيرهم أن يطيعوا أولياء الشياطين في شيء من التحليل والتحريم . وإلا فهم مثلهم مشركون : وأنهيت الفقرة ببيان عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان ، والدوافع التي تدفع بالكافرين الى هذا الذي يقترفون : ( أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكمالكتاب مفصلاً ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، فلا تكونن من الممترين . وتمت كلمة ربك صدقا وعدلاً لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم . وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون . إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين . . فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين . وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم - إلا ما اضطررتم إليه - وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين . وذروا ظاهر الإثم وباطنه ، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون . . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . . أو من كان ميتاً فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .
ثم يعود السياق فيقرر أن هدى المهتدين وضلال الضالين . . كلاهما إنما يتم بقدر من الله . وأن هؤلاء كهؤلاء في قبضة الله وسلطانه ، وفي إطار مشيئته وقدره : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
وينهي هذه الفقرة بتقرير أن ما مر من الأمر والنهي ، ومن الاعتقاد والتصور ، هو صراط الله المستقيم . فيربط بين ذلك الأمر والنهي وبين أصول الاعتقاد في مشيئة الله وقدره ، ويجعلهما حزمة واحدة . كما يجعلهما صراط الله المستقيم الذي يأمر الله العباد أن يسلكوه إليه ، لينتهوا إلى دار السلام والأمن عند ربهم ، وهو وليهم وناصرهم : ( وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون . لهم دار السلام عند ربهم ، وهو وليهم بما كانوا يعملون ) .
ولا تنتهي التعقيبات على مسالة الأمر والنهي في تناول الذبائح ، حتى يعرض السياق مصير شياطين الإنس والجن الذين يجادلون المؤمنين في هذه القضية ؛ وهم في قبضة الله - صاحب السلطان وصاحب الحكم في المصائر - وحتى يعرض سلطان الله كذلك في استخلاف من يستخلف في هذه الأرض ، والذهاب بمن يريد له أن يذهب . وتهديد من يركب رأسه منهم في الدنيا - بسبب ما منحه الله من حرية في اختيار طريقه ، ابتلاء من الله واختبارا - بانتهاء المهلة ؛ والأخذ بما كسب في فترة الابتلاء والاختبار : ويوم يحشرهم جميعاً : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ! وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا . قال : النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - إن ربك حكيم عليم . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون . يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا : شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين . ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون . ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون . وربك الغني ذو الرحمة ، إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين . إن ما توعدون لآت ، وما أنتم بمعجزين . قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون . .
بهذا الحشد العجيب من حقائق العقيدة الأساسية ، ومن المشاهد والمواقف والمؤثرات الموحية ؛ ومن تسليطالأضواء على حقائق المشيئة وحقائق الوجود الكوني وحقائق النفس البشرية ؛ والدوافع الظاهرة والخفية في حياة البشر . ومن التقريرات الشاملة عن سلطان الله في السماوات والأرض ؛ وفي الدنيا والآخرة ؛ وفي حياة البشر المستترة والظاهرة . . . بهذا الحشد كله يواجه المنهج القرآني ظاهرة واحدة من ظواهر الجاهلية في الأكل أو عدم الأكل من ذبيحة . . فماذا ؟ . . إنها القضية الأساسية في هذا الدين . . قضية الحاكمية ولمن تكون . . . . وبالتعبير المرادف . . قضية الألوهية والربوبية ولمن تكون . . ومن ثم تنال هذه الملابسة الجزئية كل هذا الاحتشاد والتجمع والاحتفال . .
وبمثل هذا الاحتشاد وهذا الاحتفال وهذا التجمع يواجه كذلك مسألة النذور في الجاهلية من الثمار والأنعام . . والأولاد . .
إن جاهلية العرب لم تكن تجحد الله البتة . ولم تكن تجعل معه إلها آخر يساويه ! ولكنها إنما كانت تجعل معه آلهة - من دونه - أقل منه منزلة ورتبة ! وكانوا يقولون : إنهم إنما يتخذون من هذه الآلهة شفعاء يقربونهم إلى الله . . وفي هذا كان شركهم . و بهذا كانوا مشركين !
وكان من شركهم كذلك أن يبتدعوا هم من عند أنفسهم - يقوم بذلك كهانهم ومشايخهم - شرائع وتقاليد في حياتهم ؛ ثم يزعمون أن الله شرعها لهم ، وأمرهم بها ! . . إنهم لم يكونوا من التبجح في الشرك بحيث ينسبون هذه الشرائع إلى أنفسهم ؛ ويدعون أن لهم هم سلطة الحاكمية العليا التي يصدرون بها الشرائع مستقلين عن سلطان الله ! لم يكونوا قد عرفوا بعد هذا التبجح الذي عرفه مشركو هذا الزمان ؛ ممن يدعون - من دون الله - السلطان . . وفي هذا كذلك كان شركهم ؛ وبهذا كانوا مشركين !
من هذه الشرائع والتقاليد التي ابتدعوها وزعموا أنها شريعة الله ما كانوا ينذرونه من الثمار والأنعام لله سبحانه ولآلهتهم المدعاة ! ثم يتصرفون بعد ذلك على هواهم او على هوى السدنة والكهنة ( فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله ، فهو يصل إلى شركائهم ) !
ومنها ما كانوا ينذرونه من أولادهم للآلهة المزعومة ؛ وما كانوا يقتلونه من البنات اتباعاً لعرف القبيلة ! ومنها ما كانوا يحجرونه من الأنعام ومن الزروع ؛ لا يطعمه إلا من شاء الله - وهم الذين يزعمون تحريمها ، وهم كذلك الذين يعينون من هم الذين شاء الله أن يطعموها !
ومنها ما كانوا يحرمون ركوبه من الأنعام . كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي !
ومنها ما كانوا يمنعون أن يذكر اسم الله عليه من الذبائح . زاعمين أن هذا من أمر الله !
ومنها ما كانوا يخصصونه - من الحمل الذي في بطون الأنعام - للذكور منهم دون الإناث . إلا إذا نزل ميتاً فيشارك فيه الإناث . . وكانوا يجعلون هذا حراماً وذلك حلالاً !
ومنه الميتة التي كانوا يحلونها ويقولون : ذبحها الله . فهي حلال بذبح الله !
والقرآن يواجه هذا كله بحملة كاشفة ؛ يحشد فيها من المقررات الأساسية في العقيدة ؛ والمشاهد والحقائق المؤثرة ؛ ما يحشده في مواجهة قضية الشرك والإيمان في سياق السورة كله . . لأنها هي هي بعينها قضية الشرك والإيمان ، في صورة تطبيقية واقعة . .
ومن خلال هذه الحملة يتبين أن القضية هي قضية هذا الدين كما هي قضية هذه العقيدة . فهذه التشريعاتوالتقاليد ، إنما زينها للمشركين شركاؤهم الذين يشرعونها لهم ليدمروا حياتهم ويلبسوا عليهم دينهم . وتلبيس الدين وتدمير الحياة كلاهما مرتبطان . فإما شرع الله فهو الدين الواضح والحياة السليمة ؛ وإما شرع غير الله فهو الدين الغامض والحياة المهددة بالردى : ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ) . .
ويتبين أن الشياطين وراء هذا العدول عن شرع الله ودينه ، إلى شرع الشركاء ودينهم . وأن الشيطان وهو العدو المبين يقود خطى المشركين إلى الخسران والتدمير : ( كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) . .
ويتبين أن التحريم والتحليل - بغير شرع الله - هو والشرك سواء . فهو شرك مثله ، وأن إحالة شيء من هذا كله إلى مشيئة الله القاهرة هو دعوى يدعيها المشركون في جميع العصور . فقد شاءت إرادة الله أن تعطي الناس قدراً من الاختيار تبتليهم به ؛ ومن ثم فلا قهر على الشرك في كل صوره ؛ إنما هو الابتلاء ، وهم غير مفلتين من قبضة الله على كل حال . ( سيقول الذين أشركوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء . كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون . قل : فلله الحجة البالغة ، فلو شاء لهداكم أجمعين ) .
ثم نجد موقفاً للإشهاد على أن الله حرم هذا الذي يحرمونه ؛ يذكرنا بموقف الإشهاد على قضية الألوهية في أول السورة . . ذلك أنها قضية واحدة في الحقيقة . فمزاولة التشريع مزاولة لخصائص الألوهية . . وهي هي بذاتها القضية : ( قل : هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم . ولا تتبع أهواء الذين كذّبوا بآياتنا ، والذين لا يؤمنون بالآخرة ، وهم بربهم يعدلون ) . . ويذكرنا التعبير( يعدلون ) هنا بأنه هو بذاته اللفظ الذي استخدم في قضية الألوهية في أول السورة . كما ذكرنا في التعريف بالسورة .
ثم تختم هذه الحملة ببيان أن هذا الذي قرره الله في قضية التشريع والتقاليد في الثمار والأنعام والأولاد هو صراط الله المستقيم . . ذات التعبير الذي استخدم من قبل في قضية تحريم الذبائح وتحليلها . . كما استخدم بذاته في قضية الألوهية في أول السورة كما ذكرنا في التعريف بالسورة : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) .
ولا ينتهي السياق بهذا الحشد الذي اقتطفنا منه هذه الإشارات . . بل يمضي في طريقه يتحدث عن كتاب موسى الذي جاء لقوم موسى : ( تفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) وعن هذا الكتاب المبارك الذي نزله الله ليتبعه المسلمون ويتقوا لعلهم يرحمون . ولتنقطع حجتهم بأن الكتاب قد نزل على اليهود والنصارى من قبل . وأنهم هم لم يجئهم كتاب يفصل لهم كل شيء فيعرفوا ما شرعه الله حقاً ؛ وما يقال لهم إنه من شرع الله افتراء !
يتبع هذا تهديد الذين لا يتبعون ما جاء به رسول الله [ ص ] ويبقون على ما هم عليه من شرائع جاهلية ينسبونها إلى الله افتراء عليه ، ويتعللون بطلب الخوارق التي تحملهم على التصديق والاتباع . . تهديدهم بأن هذه الخوارق التي يطلبونها ستكون يوم تجيء هي فصل الخطاب ؛ حيث يتبعها الدمار والهلاك : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً . قل : انتظروا إنا منتظرون ) . .
ثم مفاصلة بين رسول الله [ ص ] والدين الذي جاء به والأمة المسلمة ؛ وبين أولئك الذين يحلون ويحرمون بغير شرع الله ؛ ويشترعون لأنفسهم ثم يزعمون أنها شريعة الله : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء . إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) . . هكذا واضحة صريحة : ( لست منهم في شيء ) . .
وفي ختام السياق كله - السياق الذي واجه قضية الشرع والحكم هذه المواجهة بمناسبة تبدو في ظاهرها جزئية - يجيء الإيقاع الشامل لقضية العقيدة بجملتها ؛ ولقضية الدين برمتها . . العقيدة المستكنة في القلب والضمير . والدين الذي يترجم هذه العقيدة إلى نظام ومنهج للحياة : قل : إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين . قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين - لا شريك له - وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين . قل : أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ؟ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم . إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم .
إنها جملة قضايا العقيدة والدين : في الدنيا والآخرة . في المحيا والممات . في العمل والجزاء . في العبادة والسلوك . . كلها يجمعها المنهج الرباني ليعقب بها في ذلك الإيقاع الجليل الرهيب الحبيب ، على قضية الحاكمية والتشريع ، ممثلة في أبسط مظاهرها في الحياة اليومية ومطاعمها ومشاربها ! ذلك أنها هي قضية الألوهية والربوبية في أضخم مجالاتها وأخطر مواقفها . .
. . وهذا هو الإسلام . كما يعرضه مصدره الرباني الكريم .
الآية الأولى تكملة لفقرة سابقة في السياق - في نهاية الجزء السابع - ومتعلقة بما كان يقترحه مشركوا العرب على رسول الله [ ص ] من الخوارق التي يريدون أن يأتي لهم بها فيصدقوه وما كان من حلفهم بالله حلفا مكررا مؤكدا أن لو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبون إنهم ليؤمنون ! مما جعل بعض المسلمين انفسهم يشتهون أن لو يجيبهم الله إلى ما يطلبون ! ويقترحون على رسول الله [ ص ] أن يسأل ربه هذه الآيات التي يقترحها المقترحون !
( وأقسموا بالله جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها . قل : إنما الآيات عند الله . وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - كما لم يؤمنوا به أول مرة - ونذرهم في طغيانهم يعمهون . . ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون . . )
ولقد سبق الحديث عن هذه الآيات في نهاية الجزء السابع . فالآن نتحدث عن الحقائق العامة التي تتناولها هذه النصوص ؛ والتي لم نتعرض لها هناك في تفسيرها :
والحقيقة الأولى : هي أن الإيمان أو الكفر . والهدى أو الضلال . . . لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق . فالحق هو برهان ذاته . وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له . . ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق ، وهذه المعوقات يقول الله - سبحانه - للمؤمنين بشأنها : وما يشعركم أنها إذا جاءت [ أي الآيات والخوارق ] لا يؤمنون ؟ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ، ونذرهم في طغيانهم يعمهون . .
فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى ، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك - بعد نزول الآية - فيمنعهم من الهدى كرة أخرى . .
إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته ؛ وفي الحق كذلك بذاته ؛ وليست متعلقة بعوامل خارجية . . فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته . .
والحقيقة الثانية : هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال . فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء ؛ وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان . فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه - وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو - فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذ بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله . ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات . . وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة ، ومرد الأمر كله إليه في النهاية .
وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - كما لم يؤمنوا به أول مرة - ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) .
وفي قوله : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون ) . .
كما يشير إليها في آية سابقة على هذه الفقرة في سياق السورة قوله تعالى : ( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين . ولو شاء الله ما أشركوا . وما جعلناك عليهم حفيظاً ، وما أنت عليهم بوكيل ) . .
كما تتكرر الإشارة إليها في الآية التالية لهذه الفقرة .
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً - ولو شاء ربك ما فعلوه - فذرهم وما يفترون . . . ) . .
فالأمر كله مرهون بمشيئة الله ، هو الذي شاء ألا يهديهم لأنهم لم يأخذوا بأسلوب الهدى ؛ وهو الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء ؛ وهو الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى ؛ وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال . . بلا تعارض - في التصور الإسلامي - بين طلاقة المشيئة الإلهية وهذا المجال الذي ترك للبشر لابتلائهم فيه بهذا القدر من الاختيار .
والحقيقة الثالثة : هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء ، وتحت قهره وسلطانه سواء . فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد . . ولكن المؤمنين يطابقون - في القدر المتروك لهم للاختيار - بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي ؛ وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار . وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها ، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة ! فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية ، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه . أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم ! وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء ، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره !
وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي من السورة . فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة ، ذلك أن هذا الشطر كله - كما بينا من قبل - يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها . . ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله . حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه ، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله . فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان ، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان ! إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء .
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى :
( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، وكلمهم الموتى ، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ، ما كانوا ليؤمنوا - إلا أن يشاء الله - ولكن أكثرهم يجهلون ) . .
[ يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد [ ص ] يا محمد آيس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، القائلين لك : لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانا وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حجة لك ، ودلالة على نبوتك ، وأخبروهم أنك محق فيما تقول ، وأن ما جئتهم به حق من عند الله ؛ وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهم لك قبلا . ما آمنوا ولا صدقوك ولا اتبعوك - إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم - ( ولكن أكثرهم يجهلون ) . . يقول : ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلونأن ذلك كذلك . يحسبون أن الإيمان إليهم ، والكفر بأيديهم ، متى شاءوا آمنوا ، ومتى شاءوا كفروا . وليس ذلك كذلك ، ذلك بيدي . لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته ، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته ] .
وهذا الأصل الذي يقرره ابن جرير هنا هو الصحيح . ولكنه يحتاج إلى زيادة الإيضاح - التي أسلفناها - باستلهام مجموعة النصوص القرآنية عن الهدى والضلالة ومشيئة الله وجهد الإنسان . . إن الإيمان حدث والضلال حدث . وما يقع في هذا الوجود حدث إلا بقدر من الله ينشئه :
( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . فأما السنة التي يجري على اساسها ذلك القدر بوقوع إيمان فلان وضلال فلان ، فهي التي تبينها مجموعة النصوص . وهي أن الإنسان مبتلي بقدر من الاختيار في الاتجاه . فإذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه الله ووقع هداه وتحقيق بقدر من الله . وإذا اتجه إلى الضلال وكره الهدى أضله الله . ووقع ضلاله وتحقق بقدر من الله . . وهو على الحالين في قبضة الله وسلطانه . وحياته تجري بقدر الله وفق مشيئته الطليقة ، وسنته التي وضعتها مشيئته الطليقة .
{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } كما اقترحوا فقالوا : لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي : كفلاء بما بشروا به ، وأنذروا به ، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات ، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع وابن عامر ، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه . { ما كانوا ليؤمنوا } لما سبق عليهم القضاء بالكفر . { إلا أن يشاء الله } استثناء من أعم الأحوال أي : لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم ، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة . { ولكن أكثرهم يجهلون } أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم .