الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{۞وَلَوۡ أَنَّنَا نَزَّلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَحَشَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ كُلَّ شَيۡءٖ قُبُلٗا مَّا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَجۡهَلُونَ} (111)

قوله سبحانه : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى . . . } [ الأنعام :111 ] .

أخبر سبحانه أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه مِنْ إنزال ملائكةٍ ، وإحياءِ سلفهم ، حَسْبما اقترحه بعضُهم ، أنْ يُحْشَرَ قُصَيٌّ وغيره ، فيخبر بصدْقِ محمَّد عليه السلام ، أو يحشر عليهم كلُّ شيء قُبُلاً ما آمنوا إلا بالمشيئةِ واللُّطْفِ الذي يخلقه ، ويَخْتَرِعُه سبحانه في نفْسِ مَنْ يشاء ، لا ربَّ غيره .

وقرأ نافع وغيره : ( قبلاً ) ، ومعناه مواجهةً ومعاينةً ، قاله ابن عباس وغيره ، ونصبه علَى الحالِ ، وقال المبرِّد : معناه : ناحيةً ، كما تقول : لِي قِبَلَ فلانٍ دَيْنٌ .

قال ( ع ) : فنصبه ، على هذا : هو على الظرفِ ، وقرأ حمزة وغيره : ( قُبُلاً ) بضمِّ القافِ والباءِ ، واختلف في معناه ، فقال بعضهم : هو بمعنى ( قِبَل ) بكسر القافِ ، أي : مواجهةً ، كما تقول : قُبُل ودُبُر .

وقال الزَّجَّاج والفَرَّاء : هو جَمْعُ قَبِيلٍ ، وهو الكفيل ، أي وحشرنا عليهم كلَّ شيء كُفَلاَءَ بصدْقِ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقال مجاهد وغيره : هو جمع قَبِيلٍ ، أي : صنفاً صنفاً ، ونوعاً نوعاً ، والنصب في هذا كلِّه على الحال ، { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } ، أي : يجهلون في اعتقادهم أن الآية تقتَضِي إيمانهم ، ولا بُدَّ ، فيقتضي اللفظ أنَّ الأقلَّ لا يجهل ، فكان فيهم من يعتقد أنَّ الآية لو جاءت لم يُؤْمِنْ إلا مَنْ شاء اللَّه منه ذلك ، قُلْتُ : وقال مكِّيٌّ : { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } ، أي : في مخالَفَتِكَ ، وهم يعلمون أنَّك نبيٌّ صادقٌ فيما جئْتَهم به ، وروي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدَاعِبُ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ الفَتْحِ بِمِخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ ، وَيَطْعُنُ بِهَا أَبَا سُفْيَانَ ، فَإذَا أَحْرَقَتْهُ ، قَالَ : نَحِّ عَنِّي مِخْصَرَتَكَ ، فَوَاللَّهِ ، لَوْ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الأَمْرَ ، مَا اختلف عَلَيْكَ فِيهِ اثنان . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَسْلَمْتَ لَهُ ، قِتَالُكَ إيَّايَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ ؟ ) فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ : تَظُنُّ أَنِّي كُنْتُ أُقَاتِلُكَ تَكْذِيباً مِنِّي لَكَ ، وَاللَّهِ ، مَا شَكَكْتُ فِي صَدْقِكَ قَطُّ ، وَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُكَ إلاَّ حَسَداً مِنِّي لَكَ ، فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَعَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي ، فَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْتَهِي ذَلِكَ مِنْهُ ، وَيََبَتسمُ " انتهى من «الهداية » .